قد تكون القمة العربية التي تنطلق اليوم بالسعودية، منعطفا كبيرا في منطقة الشرق الأوسط ، وما يترتب عنها من تداعيات في العالم العربي. ولعل قواعد هذا المنعطف الجديد تكمن أولا، في عودة سوريا إلى مقعدها العربي، بعد 12 سنة من خروجها من الطاولة المشتركة بقرار صادر بعد اندلاع الحرب الأهلية. وتتمثل هذه العودة بطبيعة الحال مجسدة في صورة الرئيس بشار الأسد، وهو يحتل مقعده في»جمعة القمة « الأولى منذ آخر مشاركة له في قمة سرت في ليبيا في 2010، قبل أقل من سنة على اندلاع الحرب في بلاده. ومن المحقق أن عودة سوريا لم تكن قرارا مفاجئا، لمن كان يتتبع يوميات السياسة العربية في المشرق، حيث أن أولى الخطوات بدأت منذ 2018، حين عادت تباشير التواصل بين الإمارات العربية المتحدةودمشق. وتسارع مقومات التجاوز مع «ديبلوماسية الزلزال» الذي ضرب سوريا وتركيا في فبراير الفائت، الذي عرف تدفق المساعدات من المنطقة. وزاد الوضوح أكثر بعد «الزخم السياسي»، الذي أطلقه إعلان السعودية وإيران يوم 10 مارس الماضي، عن «التوصل إلى اتفاق مشترك برعاية صينية، يقضي باستئناف العلاقات بين البلدين وتبادل السفراء في غضون شهرين». وهو الاتفاق الذي رمى حجرا كبيرا في سياسة المنطقة، وأيضا أعاد النظر في زاوية معالجة العلاقة مع إيران، ومن ثمة الطابع الذي ستتخذه القمة الحالية، بعد أن ظلت القمم السابقة، على الأقل منذ العقد الأخير، تتضمن ثابتا بنيويا في السياسة العربية، وهو الموقف العربي المدين لسلوك إيران.. وقد تجسد هذا الثبات من خلال اللجنة العربية المكلفة بمتابعة سياسة التدخل الإيراني في العالم العربي، والتي تتضمن في عضويتها الجامعة العربية والمغرب، والسعودية ومصر والأردن والبحرين، ولعل هذا الموضوع كان حاضرا في أذهان وزراء الخارجية العرب، ولا سيما الدول المعنية به، يوم أمس، كما سيكون حاضرا يومه الجمعة. وهو أحد الاختبارات الأساسية في نجاح القمة من عدمه من وجهة نظر المغرب... وليس في علاقة مباشرة وحصرية بالملف السوري بحد ذاته: أولا : لأن العلاقة مع إيران لها ارتباط مباشر بقضية وحدته الترابية، والدعم الإيراني للانفصال والعلائق المقامة بناء على تنسيق سياسي ولوجيستيكي بين طهران والعناصر الانفصالية برعاية الجزائر.. ثانيا: لأن السعودية هي رئيسة اللجنة المكلفة بالتدخل الإيراني في المنطقة العربية، وهي معنية أكثر بضرورة إقناع حلفائها الدائمين في الغرب والشرق العربيين، قد يكون السؤال المباشر هنا هو : هل ستبقي الرياض على هذه الآلية العربية الموجودة في حالة نشاط أو سيتم تعطيلها في انتظار استكمال التطبيع السعودي الإيراني؟هذا السؤال تحرص الدول الأعضاء في اللجنة إياها على بقائه على قيد العمل، كما يتضح من بيان صحفي لوزارة الخارجية المصرية، الذي تحدث عن اجتماع وزراء خارجية مصر والسعودية والبحرين والأردن والمغرب لمناقشة التطورات الإقليمية والدولية بما في ذلك تطور الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران المبرم في مارس الماضي. وهو نفسه البيان الذي شدد على «استمرار التشاور في إطار الصيغة « التي وردت بهذا الاجتماع، وهو مايعني، عشية القمة، موقفا واضحا من العلاقة مع إيران ثم الإصرار على بقاء التنسيق إياه في القادم من الأيام. ثالثا: لا يطعن المغرب في الوحدة الترابية السورية، كما أنه يدرك طبيعة الأوضاع المترتبة على ما سمى بالربيع العربي، وهو ما تبين بوضوح شديد وشجاعة لا تضاهى من خلال الخطاب الملكي في الرياض نفسها التي تحتضن القمة، منذ قرابة 7 سنوات : وقتها وصف العاهل المغربي ما وقع بالخريف العربي الذي يسعى إلى تفكيك الدول ووحدتها، ونبه إلى مآلات ذلك.. وهي قراءة لم تمنع المغرب اليوم من ربط التطبيع مع سوريا بإطلاق مسلسل سياسي سلمي للإصلاح والتعددية، يفتح البلاد على دورة إصلاحية جديدة تحصن وحدته الترابية كما تفتح سبل التعاون مع دول الجوار، لا سيما المعترضة منها كقطر التي «أعلنت المعارضة الصريحة للرئيس السوري بشار الأسد، وأنها لن تطبع العلاقات مع حكومة دمشق، لكنها أكدت أيضا أنها لن تكون «عائقا» أمام الخطوة التي اتخذتها الجامعة العربية..».. رابعا: تحرك المغرب بقوة ضمن الترتيبات السابقة للقمة، وتبين ذلك من خلال الاجتماعات التي عقدها وزير الخارجية ناصر بوريطة مع وزراء خارجية مصر والسعودية والبحرين والمغرب والأردن، وذلك في إطار التشاور المستمر لمناقشة التطورات الإقليمية والدولية، بما فيها تطور الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران المبرم في مارس الماضي. وضمت لقاءاته لائحة وزراء خارجية الدول العربية التي تعرف بها الصراعات أو تعيش فترة عصيبة ( فلسطين، اليمن، ليبيا..) وهوما يعني تسليط الضوء على الجانب السياسي والجيوستراتيجي من القضايا التي ستوضع على طاولة القمة اليوم. وبخصوص الشرط الثاني المتعلق بفلسطين واليمن وليبيا، فإن المغرب يدرك بأن الأثر الجيد لن يكتمل فقط بالدخول في مسلسل مصالحة سعودية إيرانية (لها انعكاسات على سوريا ) بقدر ما أن القمة لن تكون مفصلية إذا هي لم تجد آليات التأثير في مترتبات الربيع العربي وصراع النفوذ، بأن يكون للقمة تأثير على الوضع العربي، من قبيل الأزمة اللبنانية واليمنية بإحداث قرارات مصيرية بوقف الحرب. إلى ذلك للمغرب قراءة في ما ترتب عن الحرب، ومنها السيادة الطاقية والغذائية والصحية، وله تجربة ناجحة سيُطْلب من العرب الإنصات إليها: لا سيما بعد التغيرات التي طرأت في سياسة المنطقة العربية على ضوء الحرب الروسية الأوكرانية.. ومعروف، الآن، أن أعمال القمة في دورتها ال32 تنطلق في ظل أزمات اقتصادية تجتاح دولا عربية، نتيجة استمرار هذه الحرب والتحديات التي فرضتها على المنطقة. وفي هذا السياق لا يمكن إغفال تصريحات الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، بخصوص أجندة اجتماع القمة القادمة، والتي اعتبر فيها أن «الموضوع الرئيسي لها سيكون اقتصاديا، ويتناول كيفية مساعدة الأقاليم العربية المحتاجة»، إضافة إلى جدول الأعمال التقليدي، الذي يضع على القادة العرب الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والعلمية ...إلخ إلخ! خامسا: يحرص المغرب والسعودية على توثيق العمل المشترك، وليس صدفة ولا اعتباطا أن الشهرين الماضيين بالأساس عرفا نشاطا ديبلوماسية ثنائيا نشط كثيرا العلاقة بين الرياض والرباط، ونذكر منه على وجه الخصوص، الحوار السياسي الثنائي، والاتفاقيات التي تم عقدها موخرا في المجال الأمني والديني بحضور وزير الأوقاف السعودي، وكذا اجتماعات اللجنة التقنية والموضوعاتية المشتركة .. وهو ما يعني بأن المغرب يدرك طبيعة العلاقة الثنائية، وإن كان لا يخفي ترقبه في الملف الإيراني ، المرتبط بالوحدة الترابية للبلاد.. وقد توقع المتحدث الرسمي باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية أن تكون «القضية الفلسطينية في صدارة القضايا المطروحة على أجندة القمة، باعتبارها قضية العرب المركزية، إضافة إلى ما تواجهه الأراضي المحتلة حاليا من (أوضاع غير اعتيادية) نتيجة الانتهاكات التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية وهنا فإن القمة السابقة التي لم تدم رئاستها أكثر من نصف سنة في الجزائر، كانت قد اتخذت العديد «من القرارات» الخاصة بالقضية، وتبين بأن آثارها لم تتجاوز التقاط الصور والتوظيف الإعلامي، بل إن القمة في الواقع كانت قمة تعطيل لإطلاق المسلسل الذي دشنته العربية السعودية، وهي بفشلها تبدو الآن «بروفة» للقمة التي تعقد اليوم أكثر منها لحظة قرار حاسم في معادلات معقدة عربيا ودوليا .. مجمل القول إن اجتماعات الديبلوماسية المغربية تبين المجالات التي تنتظر آليات شجاعة وقوية للحل: فلسطين اليوم، اليمن، ليبيا، لبنان ...إلخ ، وهو ما يتطلب إرادة سياسية عربية، وتحليلا عربيا مشتركا، وموحدا يعبد الطريق للفعل الميداني عبر ترصيد الأولويات ... ستكون القمة أمام التحولات الكبرى التي جاء بها المنعطف الجيوستراتيجي، وتدبير مرحلة ما بعد الربيع العربي وطي الصفحة، وتدارك العجز العربي في الملفات المصيرية، ومنها العمل من أجل الشعوب في حالة خطر، إما بسبب الحرب وإما بسبب الغذاء. والمغرب لطالما فضل الروح الجماعية والتدبير المشترك العقلاني بأجندات محددة، كما يفعل مع شركائه الأوروبيين والأفارقة والدوليين والخروج من منطق الخطب والانتظارية.. هل تملك القمة أدوات طموحها؟ لقد سبق لجلالة الملك، تماشيا مع روح سارية في الشعوب العربية، أن نبه إلى الاكتفاء بالخطابة والإنشاء والمجاملات والحماسة المبنية على الازدواجية المقيتة ، وهو تنبيه يتجاوب مع مطامح عميقة لدى الشعوب التي تعاني كثيرا من عجز النظام العربي الرسمي عن حل القضايا التي تشغله وتثقل كاهله.. لقد راسل الملك قادة العرب في قمة موريتانيا بعد الاعتذار عن استضافتها، وكتب بالواضح أن ذلك لا يعني التخلي عن العمل العربي»بل أملاه واجب التحليل الموضوعي المتجرد للواقع العربي، وضرورة التنبيه إلى المخاطر الداخلية والخارجية التي تستهدف تقسيم البلدان العربية، وذلك حتى نستنهض الهمم لمواجهة تلكم المخططات، ولاسترجاع سلطة القرار، ولرسم معالم مستقبل يستجيب لطموحات شعوبنا في التنمية ويليق بالمكانة الحضارية لأمتنا العربية». ووضع الملك الأجندة الأساسية للرد على التحديات «في بناء الدولة العصرية، المبنية على المواطنة والحق والقانون، والتشبث بالوحدة الترابية والسيادة الوطنية.» وما يعتبر اليوم قضايا مركزية لا بد لها من حل هي نفسها التي وردت في رسالة الملك منذ سبع سنوات عند حديثه عن الحلقة المفرغة «التي كانت من بين أهم الأسباب التي أضعفت دورنا في حل قضايانا العربية، كالأزمة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان»، إنها طريقة ملكية في التنبيه إلى القطع مع العود الأبدي للعجز العربي، مثل الثعبان الذي يعض ذيله!!