شاركت فرقة « مسرح الأبيض والأسود» القادمة من الدارالبيضاء بمسرحية « نقوش على الخواء، مذكرات سيدة تحسن الانتظار «في المعرض الجهوي للكتاب بالقصر الكبير يوم 30 أبريل 2023 بقاعة محمد الخمار الگنوني/ دار الثقافة، وهي مسرحية إنتاج سنة 2023 بالعربية الفصحى. المسرحية من تأليف وإخراج الفنان إدريس كصرى، وأداء الممثلين الرائعين الشاب عبد الرحمن الشرگي في دور الرسام والشابة خديجة كندي في دور بياض. تم إهداء العرض المسرحي للشاعر محمد عابد، وهو إهداء مستحق بحكم صداقات قديمة واحتكاكات شعرية ومسرحية تعود إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي بمدينة ورزازات، بينه وبين المخرج إدريس كصرى وعازف العود الأستاذ عبد الرحيم العمري، في إطار جمعية عصافير الركح، والتي أثمرت مسرحية « مهرجان المهابيل» سنة 1992. نقوش على الخواء أو أزمة صورة ال0خر لدينا، فرضت تقديم العرض في تقابل ثلاثي الأبعاد يتوزع بين ( ذات وصورة وتصور )، إنه ثلاثي مفتوح حدد فضاءات العرض في كل الاتجاهات. منذ البدء الظلام سيد والبياض مولود نوراني ينبثق من شقوقه الع/تمة. سواد كاسح يملأ الفضاء ويقطع الأنفاس، على تموجات بيانو رشيقة، نجد أنفسنا دون شعور مأخوذين بالبحث عن شيء ما مفتقد ونسافر في قصيدة « أبحث عنك « للشاعرة التونسية صونيا الفرجاني. في دواخلنا تحسسنا بوح صونيا الفرجاني في أشعارها بجسدها ولنا … مذكرات بياض … بقايا محاولات لوحة فاشلة ومبهمة داخل مشغل فني بلوحات وأصباغ ومجسمات غير مكتملة وإطارات فارغة ومر0ة كبيرة وصفحات جرائد، وكرسي هزاز و … خواء ينتظر … فقط ينتظر…. تجلس « بياض « أمام مر0ة كبيرة، تتحسس وجهها، تغير وضعها أمام المر0ة، تضع قطعا من الثوب بألوان مختلفة، تضع على رأسها تيجانا وورودا وباقات من السنابل. تظل جامدة وتضحك بهستيريا. تصبح مستاءة في وجه الرسام : – لماذا كل شيء مؤجل إلى الغد. ألهذه الدرجة أصبحت الملامح صعبة والأحاسيس جامدة. ما جدوى الألوان وهذا القماش !؟ منذ الوهلة الأولى تبدو « بياض « بفستانها الأبيض منصهرة في عالمنا الخاص كأنها في حالة شرود أو في جزيرة معزولة،، تلعب، تقفز وتتنقل بمرح من مربع إلى 0خر، منغمسة في لعبة الحجلة، مستمتعة بخلوتها الطفولية، بعيدا عن كشافات، حين تحاصرها داخل بقع ضوء تربك طلاقتها وعفويتها، وتفضح بياض الأنثى التي لم تعد طفلة وصارت امرأة، بما يقتضيه هذا الانتقال أو التحول من إرباك نزوعها الطفولي إلى اللعب، وقطف قسري لزهرات أنوثتها ودفنها في لحاف أسود شبيه بالسواد الذي غشي فضاء الخشبة منذ بداية العرض. بياض سيدة تحسن الانتظار. تنتظر من يرسمها على حقيقتها. سجينة للخواء، تنتظر منذ 30 سنة من يقيس أنوثتها ويكتشف قارتها الهائلة كامرأة وأنثى. فكلما سلطت كشافات الضوء عليها، أحست بفضيحة كونها كبرت، ولا يليق بها أن تلعب إلا خلسة. فلم يكن من بد سوى أن تتجرع الأمر في صمت، وتقيم رقيبا سريا يعد خطواتها ويحصي أنفاسها ويتتبع حركاتها. في سينوغرافيا الفراغ تبدو الصور غامضة تخفي شيئا ما، والإنارة لا تستجلي وجوها، لكن شحنة من الأحاسيس والتيه، وبحث مستمر عمن يقيس ترمومتر أوجاع تضطرم بصدر الشخصيات وذاكرة متدفقة من حمم الرغبة والشغف والحلم. خلف الإطارات الفارغة عمد المخرج، إلى إضفاء بعد 0خر أكثر عمقا على شخصياته، وهي تحاور الإطارات الفارغة وتسائلها، حيث مساحة أو ممرات الضوء شفافة في لعبة الظهور والتخفي، بحيث تفرض الصورة نفسها، بأضوائها وظلالها ليس بما يظهر، بل بما يتوارى خلفها، في سياق صراع لا يتوقف ولو للحظة، ويدفع المتلقي، مأخوذا بالسؤال وفسحات شاسعة من التشويق، لاستحضار كل التوقعات الممكنة، متتبعا بكل أناة حركات وسكنات الممثلين بياض والرسام، باعتبارهما محركان أساسيان لكوامن الفضاء ومؤثثاته سواء في حوارات مباشرة أو مونولوجات متسائلة، أو من خلال لحظات الصمت القوية التي تقول نفسها دون كلام، مما أضفى جمالية خاصة على المشاهد البصرية المتلاحقة وعلى الأسلوب الدرامي الذي اعتمده المخرج، إذ لم يعد شيء يسلي بياض سوى تصفيفها لإطارات فارغة لرسام لم يفلح ولا مرة، رغم محاولاته العديدة، في رسم بورتريه مكتمل لامرأة من لحم ودم، أو إعطائها إسما محددا، من بين أسماء عديدة ألصقت بها، دون أن تعكس هويتها الحقيقية، لدرجة أنها نسيت إسمها القديم، أو بالأحرى أسماءها القديمة وهي تقلب أوراق مذكراتها المهملة. 30 سنة وهي تنتظر من يجسدها ويعجنها من جديد في بورتريه حقيقي، نابض بالحياة وبالأحاسيس التي تجتاحها كامرأة، في الحب والفرح والغضب والجنون والرقص والغناء … ، وكل مرة يصر فيها الرسام تلميذ دافنتشي الصغير على تحقيق حلمه، لوحته، يجد نفسه عاجزا، ومطاردا برهاب اللوحة الفارغة. عكس معلمه الأول ليوناردو دافنتشي الذي استطاع، رغم صعوبة الأمر، من رسم رائعته التي خلدته « الجوكندا « . إنه لمن الصعب حقا، تجميع كم هائل من العيون في نظرة واحدة، في لمسة فرشاة واحدة. دافنتشي استطاع ذلك على نحو ما، في جوكانداه حين أفحمها بروح ثورية، وبسحر خاص يشع من عيون امرأة مليئة بالدهشة والطفولة والأمومة والأمل، رغم بصمة الحزن التي أسقطها على وجهها. فما جعل الموناليزا خالدة هو اكتظاظ مساحة وجهها الصغير ب0لاف الأحاسيس التي تستشعر أنفاسها وطلاقتها وقسماتها الساحرة. بياض تجلس أمام المر0ة، وهو إيقاع روتيني بالنسبة إليها، تداعب قارورات العطر وأدوات التزيين، تنتبه إلى الرسام حائرا، تضحك بمرارة، تبكي … كل هذا من أجل التقاط صورة تليق بلوحة دون دموع، أو صورة كهربائية جامدة. وتتساءل : … وحدها المرايا تعرف سر حزني؟؟! أرى فيها انتحاب القلب تتلبس المرإة وجها لا يشبهني حتى لا أتعرفني إلى متى سأظل صهوة لأمنيات عرجاء ورغبات لا تكتمل !؟ فرغم النظارات الطبية والكشافات الضوئية، فقد الرسام عينيه، أو لنقل بصيرته، ولم يجد طريقه إلى ما ضاع من كنه الصورة. وكل مرة، وهو في عز حيرته، تباغثه بياض : – هل سيسع معرضك الذي ينتظره الجميع عمرا مديدا من الانتظار وفوضى الأسماء ؟؟ دافنتشي الصغير الذي لم يتمكن من النفاذ إلى داخل بياض، مشروع جوكنداه، ليخلده في معرضه. بياض تبكي خيبتها، لم تعثر على ما يشفي غليلها، لدرجة نسيت حتى إسمها بالنظر إلى الكم الهائل من الأسماء التي ألصقت بها وسجلتها في أوراق مذكراتها، وهي أسماء متشابكة في التباسها وتناسب ال0خرين فقط ولا تمت بصلة إلى حقيقتها؛ بياض زرقاء اليمامة زبد خز فيروز لوحة بريق ومضة فرشاة امرأة رميم كابوس مرايا حطام امرأة حلم في رأس مجموعة أو حرقة في صدر رجل أبكم … ففي كل الأحوال لم يحدث يوما أن انبثق دفء من إسمنت بارد أو فاح عطر من ورود بلاستيكية ميتة. في موقف تبدو فيه المرأة كمشروع بورتريه لأجل معرض، وليس كامرأة، ورهان من أجل إنجاز لوحة تخلد الرسام، مثلما فعل دافنتشي في لوحة الموناليزا. أوراق المذكرة ترهلت. فمنذ أكثر من 30 سنة والرسام يعطي بياض إسما جديدا. لكن ما لم يستوعبه الفنان، أنه في فن البورتريه يكون الإيقاع مستوحى من رقصة أنفاس الضوء وخفقة القلب. في لحظات ارتباك يبحث الرسام عن شكل ما أو فكرة للوحته، يتجول بين الإطارات، ثم يحس أنه بلا جدوى خارج الإطارات، يحمل 0لة تصوير، يشغل كشافات الضوء ويطفئها، يجلس خلف مكتبه، ينشغل بخربشاته ، وفي لحظة انهيار يرمي القلم، يأخذه مرة أخرى، يسترخي فوق كرسيه الهزاز يعتصر أفكاره ويسرح في خيالاته ودروب ذاكرته، يفتح كتابا أمامه ويغلقه ، يقرأ جرائد عل النقاد يلهموه بما أسالوه من مداد أكاديمي … إن مكمن الصعوبة هنا أن الرسم أو التصوير ليس مجرد درس تشكبلي أوصورة فوتوغرافية أو محض تطبيق تقني لمعارف ومهارات تلقيناها حول فن البورتريه، فدوما خلف الوجه وفي أعماقه يربض شيء زلق يستحيل تحديده، يأخذ الرسام 0لة التصوير ويبدأ في أخذ صور بشكل لا إرادي ومتوالي، وفي نفس الوقت تظهر في الإطارات صور لنساء من كل الأزمنة والأنماط، وأحيانا أخرى صور لنساء تستهويهن ميولات رسام متشعبة في فسيفساء جسد المرأة وفسيفسائه، ابتداء من ابنة الجيران، إذ لا تخلو لوحة الفنان كما الروائي والشاعر وكاتبي القصة ومشاهدي الأفلام والمسرحيات من ابنة الجيران، وابنة العم، والممرضة الفرنسية التي ضمدت يوما جرحا صغيرا من نزواته العابرة، وجموح فتاة قروية تشتغل خادمة في بيت عمه، وإغراء ممثلة عارية … ألسنا في النهاية تجميعا تجميعا لأشياء من كل من مروا أمامنا وراودت خيالنا واشتهاءاتنا!؟ 30 سنة من الانتظار والتخبط في البحث عن هوية حضارية وفكرية وفلسفية لامرأة لم يفلح الرسام ومعه نحن أيضا في تجسيدها، لأنها تشكلت لدينا في صور وأنماط كثيرة ومتباينة عكس ال0خر، الأوروبي الغربي عموما، الذي حسم الأمر منذ عصر الأنوار سنة 1789م، حيث تركت المرأة المتحررة وراء ظهرها تاريخا ثقيلا من التبعية والاستعباد للتقاليد الدينية والأعراف الذكورية. إنه بحث بكثير من الصبر والقلق عن هوية مفتقدة لم نفلح في إعطائها إسما محددا، لكينونة المرأة وتصورا واضحا للموديل الذي يحددها، إن شئنا أن نجسدها في رسمة وقد توزعت بين تصورات متناقضة حد التنافر. وبرغم الضحكات الساخرة، التي تطلقها بياض بين الفينة والأخرى، تظل ملامحها هاربة، بوجه متعب وملائم جدا لأداء أوبرا حزينة وهي في قمة العزلة تعزف أغنيتها المنفردة. … أحسني خارج هذه الإطارات الإطارات فارغة دوما التجاعيد تشق وجهي خوفي أن يزحف الزمن بملامح بئيسة مثخنة بالتجاعيد والضجر… على نغمات العود وعزف وألحان الفنان عبد الرحيم العمري، تطلق سهام المرابط صوتها الشجي بلسان سيدة غارقة في دوامة الانتظار لغد بعيد لا يأتي : « … تذرف مر0تي ماءها تغادرني ألواني وشيء من خصلاتي أتحسس بياضي وإلى غد إلى الغد … « والحال أنها لم تعد قادرة على تحمل قساوة الانتظار، تطلق رصاصتها الأخيرة : … سأشعل كشافاتي لأرى الخواء بياض حطام امرأة سأجمعه من كل مكان لأقيم معرضا بإطارات فارغة حتى لو كنت الوحيدة التي أجدها رائعة. إنها معرضي.إطارات مليئة بأنفاسي. بعيدا عن الرتوشات والمساحيق الخارجية، قريبا أكثر من الحقيقة في نصوعها العاري، يمكن القول، 0خر المطاف، ليس هناك أبدع من الخواء ! فطالما لا أحد أشعرها بأنوثتها، التجأت بياض إلى المر0ة ورسمت نفسها، بكل عفوية يتطلبها عنف الاشتباك، بأحمر الشفاه. ورقصت بجنون بين الاطارات الفارغة، وبنبرة تحريضية واضحة أعلنت صرختها : – لم يعد هناك بياض / أنا ألوان / أنا لوحات / أنا جوكاندا / رسمتها بأنفاسي… – وقد نزلت في نهاية العرض عند الجمهور وهي توزع على النساء خصوصا إطارات فارغة ليتقاسمن معها روعة النقش على الخواء، حيث صار في الإمكان فهم لغة الصمت، الصمت في حلته البدائية قبل أن يترجم إلى كلمات وإشارات وألوان وصور …