تبدأ هذه الحوارية مع الفيلسوف إيمانويل ليفيناس من واحدة من أبرز إشكاليات البحث في الغيرية، عنينا بها إشكالية الوجه على أنه معيار جوهري للتعرف إلى الآخر. ثم تمضي هذه المحاورة إلى مقاربة الكائن الإنساني بوصفه كائناً أخلاقياً. وهو ما يميزه بالفعل من سائر الكائنات، وتبعاً لهذا الحقل الإشكالي سوف نقرأ المزيد من التداعيات التكفيرية التي تأسست عليها قيم الغيريّة عند ليفيناس.وفي ما يلي نص المحاورة: إذا لم يكن للحيوانات بالمعنى الأخلاقي للكلمة وجه، هل لدينا التزامات تجاههم؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما منشأ تلك الالتزامات؟ من الواضح دون الحاجة إلى النظر إلى الحيوانات بوصفهم كائنات إنسانية- أنّ الأخلاق تخصّ الكائنات الحيّة كلها. فنحن لا نُريد تعذيب حيوان دون حاجة. لكنّ نموذج ذلك هوالأخلاق الإنسانية. إنّ النظام النباتي végétarisme مثلً ينجم عن نقل فكرة المُعاناة إلى الحيوان: الحيوان يُعاني؛ يمكننا أن نعيش هذا الالتزام لأنّنا، من حيث إنّنا بشر، نعلم ماهية المعاناة. إنّ الأطروحة المنتشرة جدًّا، التي بحسبها تتوقّف الأخلاق على المجال البيولوجيّ، تُفيد في نهاية المطاف أنّ الإنسان يُثّل الطورَ الأخير في تطوّر الحيوان؛ على العكس، سأقول إنّ الإنسان، في علاقته بالحيوان، هو ظاهرة جديدة. هذا ما يقودني إلى سؤالكم السابق: سألتني في أيّ وقت يُصبح المرء وجهًا. لا أعلم في أيّ وقت ظَهَرَ الإنسان، لكن ما أريدُ الإشارةَ إليه هو أنّ الكائن البشريّ يُثّل قطيعةً مع الوجود المحضl'être pur ، الذي هو دائمًا استمراريّةٌ perseverance في الكائن تلك هي أطروحتي الرئيسة. الكائن هو شيء ما مُتعلّق بوجود، وجوده الخاصّ–هذه هي فكرة داروين: إنّ وجود الحيوانات هو صراع من أجل البقاء؛ صراع من أجل البقاء، بدون أخلاق؛ إنّها مسألة قوة puissance. يقول هايدغر في بداية كتابه (الكينونة والزمان) إنّ الدّازين كائن هو، ضمن كينونته، يقع في دائرة اهتمام كينونتِه نفسِها؛ تلك هي فكرة داروين عن الوجود بوصفها صراعًا من أجل الوجود: إنّ هدف الكائن هوالكائنُ ذاتُه. على الرّغم من ذلك، ثمةَ مع ظهور الإنسان شيءٌ ما أهمّ من حياتي الخاصّة، الذي هوحياة الآخر، تلك هي فلسفتي. إنّه أمرٌ غير معقول! لكنّ الدازين كائن ليس فقط يعرض لنا من ضمن كائنات أخرى. بل هو على الأرجح مُتميّز من ناحية أنطيقية بأن الأمر عند هذا الكائن إنما يتعلّق في كينونته بهذه الكينونة ذاتها. الإنسان هو حيوان غير عاقل! إنّ حياتي في معظم الأوقات هي أغلى ما أملك، وفي معظم الأوقات ينشغل المرء بذاته. مع ذلك، نحن لا نستطيع ألّ نُبديَ إعجابنا بالقداسةsainteté؛ لا بالمُقدّس sacré، بل بالقداسة، بمعنى أنّ الشخص هو، في كينونته، مُتعلّق بكينونة الآخر أكثر من تعلّقه بكينونته هو. أعتقد أنّ الإنسانية تبدأ مع القداسة؛ لا مع تحقّق القداسة، وإنما من جهة أخذ قيمتها بعين الاعتبار. تلك هي القيمة الأولى التي لا تقبل الجدل indéniable. حتى وإن افترى شخص ما على القداسة، فهولا يستطيع فعل ذلك إلا باسم القداسة. هل يتجذّر مفهومُك للوجه في اللاهوت اليهودي؟ إنه مُتجذّر في الديانة اليهودية أقلّ من تجذّره في الكتاب المقدّس. إنّ للكتاب المقدّس مستوياتٍ متعددة. ثمة مستوى تُقدّم فيه أهميةُ الآخر، بالنتيجة، على أنها مؤاتية لنفسي؛ أي أن يُقال لك إنك ستنال مكافأة على أفعالك الخيّة هذا موجود أيضًا في الكتاب المقدّس. لكن ثمة أيضًا مفهوم القداسة؛ لا فقط في المسيحية؛ ففي العهد القديم نجد الوصيّة السادسة: «لا تقتلْ». هذا لا يعني: عليك ألّ تتنزّه شاهرًا المسدّس في وجه الناس، وإنما يعني أنّ هناك طرقًا عديدة، في الحياة، لِقتل بعضهم: مثلً، حين نجلس في الصباح ونحتسي القهوة، فإنّنا نقتل أحد الأثيوبيين الذي لا يملك المال لشراء القهوة بهذا المعنى إنما يجب أن نفهم الوصيّة. وهناك العبارة التالية «أَحِبَّ قريبَك»؛ تُقال بطرق كثيرة. ثمة أيضًا: «عليك أن تُحبّ الغريب». لكن بصورةٍ أدقّ، هل تملك صورة الوجه جذورًا يهودية أوجذورًا في الكتاب المقدس؟ ليفيناس: لا! إن كلمة بانيم panim التي تُشير في العبرية إلى الوجه، ليست مصطلحًا فلسفيًا في الكتاب المقدّس. أقول إنّ مفهوم الوجه هوطريقة مُعيّنة أُعبّ من خلالها، على نحو فلسفي، عما أريد قوله حين أتكلّم عن جهد الكينونةconatus essendi ، الذي يشكّل المبدأ الأنطولوجي… لا أجد هذا في نصوص الكتاب المقدّس؛ لكن برأيي، هذا هو روح الكتاب المقدّس، بكل اهتمامه بالضعف، كل الإلزامات تُجاه الضعيف. لكنني لم أجد هذا في نص من النصوص. أنت ترى ذلك، إنّ اصطلاحي لا ينتمي إلى الكتاب المقدس؛ وإذا لم يكن كذلك فهو يؤول في النهاية إلى الكتاب المقدس. حتى وإن كان هناك تمييز شديد الوضوح بين نصوصك الفلسفية ومؤلَّفاتك عن الدين، يبدو أن فلسفتك تُعبّ عن القيم اليهودية التي تُصرّح بها في مؤلّفاتك حول الديانة اليهودية. هل تعتقد أن التعوّد على التقليد اليهودي يمكن أن يُساعدَ قارئًا على فهم كتابك الكلّ واللانهاية؟ ليفيناس: يوجد تمييزٌ جذريٌّ بين بعض المؤلّفات وبعضها الآخر؛ وهي لم ينشرْها ناشر واحد. إن النصّ التوراتي لم يُستخدَم البتّة، في مؤلّفاتي الفلسفية، بوصفه حجّة، بل بوصفه توضيحًا. وهناك النصوص التي أدعوها دينية confessionelles. إنّ النصوص غير الفلسفية هي نصوص تفسيرية exégétiques. لكنْ، توجَد علاقةٌ ما بينها. نفترض في بعض الأحيان أنّ فلسفتك صعبة الولوج بالنسبة لغير اليهود، لأنّ توجّهَها قد يكون يهوديًّا أكثر من كونه يونانيًّا. أعتقد أن أوروبا تتضمّن الكتاب المقدس واليونانيين. إنّ الأمر ليس استعمارًا – كلّ ما عدا ذلك يمكن أن يعُبَّ عنه باليونانية. بيد أنّ إمكانية الفهم الأولى، الدلالة الأولى لأيّ خطاب هي مع شخصٍ ما لا يعني ببساطة التكلّم أمام الشكل البلاستيكي الذي هو الآخرl'autre بهذا المعنى. لا أرى أنّ هناك أدنى إنكار في بلاد اليونان لجِهة التشديد على أولوية الوجه. إن المحُاوِر هو أوّلُ est premier في هذا الوضْع الأخلاقي الذي بحسبه تنفتح شفتاي لأتكلّم، أو بحسبه أُستَدعى: أنا مَدْعوٌّ للإجابة. أعتقد أن اللغة الأولى هي إجابة. لكن مع ظهور الشخص الثالثle tiers فإنّ هذا الثالث، أيضًا، يجب أن يكون له وجه. إذا كان الثالث، أيضًا، وجهًا، يجب عندئذ معرفة مَن نخُاطِبُ أوّلً: من هوالوجه الأول؟ بهذا المعنى، أصِلُ إلى مقارنة الوجوه، ومقارنة الشخصين –تلك مهمة مَهولة. وهي مُختلفة تمامًا عن التكلّم إلى الوجه؛ إنّ مقارنة الوجوه تعني تصنيفها ضمن الجنس ذاته. إنّ الآخر مُتفرّد unique مُتفرّد من جهة أنّني، في أثناء الحديث عن المسؤولية تجاه المُتفرّد، عن المسؤولية في العلاقة بالمُتفرّد، أستخدم كلمة «حُبّ ». ما أدعوه «مسؤولية» هوحبّ، لأنّ الحب هوالموقف الوحيد الذي يحصل فيه اللقاء بالمُتفرّد. ما الكائن المحبوب؟ إنه مُتفرّد في العالَم. في كتابي «الكلّ واللانهاية» لا أستعمل غالبًا كلمة حُبّ، لأنه غالبًا ما يُفهم منها ما يدعوه «باسكال» الشَبَق concupiscence الآن، حيثما يوجد كائنان مُتفرّدان، يعود النوّع genre ليظهر. انطلاقًا من هذه اللحظة، أفكّر بالآخر في نوع واحد. أنا يونانيٌّ، إنّ ههُنا فكرًا يونانيًّا؛ فكر المقارنة، والحكم، صفات الذات، باختصار، كلُّ مصطلحيّة terminologie المنطق اليوناني والسياسة اليونانية تظهران مرة أخرى. بالتالي، ليس صحيحًا أن فكري ليس يونانيًّا. على العكس، كل ما قلته عن العدالة يأتي من الفكر اليوناني، ومن السياسة اليونانية. لكن ما أقوله ببساطة، هو أنّ هذا كلّه يرتكز في النهاية على العلاقةبالآخر، على الأخلاق التي من دونها ما كنت لأبحث عن العدالة. إنّ العدالة هي هذه الطريقة التي أُجيب بها الوجهَ بأنني لست وحيدًا في العالم مع الآخر. لكنْ، إذا كان كل شيء يجد غايته في العدالة، فلماذا إذًا يُروى هذا التاريخ الطويل عن الوجه الذي هو المقابل للعدالة؟ السبب الأول هوأنّ الأخلاق تُشيِّد العدالة؛ لأنّ العدالة ليست هي الأساس. إنّنا، بداخل العدالة، نبحث عن عدالة أفضل. عندما يتمّ إعلان قرار العدالة تبقى، بالنسبة للأنا المُتفرّدة التي هي أنا، إمكانيةُ أنْ أجد شيئًا ما إضافيًّا يُخفّف الحكمverdict ؛ يوجد فضاءٌ لأجل البِّر charité بعد العدالة. إنّ الدولة الديمقراطية الحقيقية تجد أنّها ليست، البتّة، ديموقراطيّة على نحو كافٍ؛ ينبغي عليها دائمًا أن تمتحن مؤسّساتها. السبب الثالث هو أنه توجد لحظة حيث يمكن للأنا- الأنا المُتفرّدة إلى جانب أنوات أخرى مُتفرّدة- أنْ تجد شيئًا ما يعمل على تحسين الكونيةِl'universalité نفسِها يحضر في ذهني، مثلً، مسألة إلغاء عقوبة الإعدام. ليس من الضروري، للتعبير عن الأفكار، أنْ يستند المرءُ إلى الكتاب المقدس؛ إنّ كتابي «الكلّ واللانهاية» يمكن قراءتُه من دون امتلاك معرفة جيّدة بالديانة اليهودية أوبالكتاب المقدّس.