«رهينة» عنوان الكتاب الأخير لإيلي فيزيل (حائز على جائزة نوبل للسلام)، الصادر حديثاً عن منشورات غراسيه في باريس، وفيه يحاول أن يقدم رؤيته لفكرة الرهينة، بمختلف جوانبها. هنا، ترجمة لمقتطفات من حديثين، أجريا مع الكاتب بُعيد صدور روايته، الأولى في صحيفة «لوفيغارو» والثاني مع «المجلة المدنية»، حيث اخترت منهما ما يقدم فكرة عن الكتاب كما عن الكاتب. بدون شك، سمعت برواية جوناثان ليتل كما بالجدل والنقاش اللذين أعقبا صدور رواية يانيك هاينيل «يان كارسكي»... برأيك شخصياً، هل تملك الرواية (العملية التخييلية) كل الحقوق؟ أعتقد أنه يمكن للروائيين أن يسمحوا لأنفسهم بكل شيء.. بيد أن ثمة خطراً في هذا الأمر: أي حين يحل الخيال مكان الواقع. لم أقرأ رواية «المتسامحات» لجوناثان ليتل، ولا رواية «يان كارسكي» ليانيك هاينيل، لكن من الجيد أن يكتب الروائيون الشبان عن هذا الموضوع، أن يكتبوا الروايات. لا أرى لمَ ليس عليهم أن يفعلوا ذلك. أليست هناك روايات حول الحروب النابوليونية، حول أحداث تعود إلى قرون مضت؟ لا أظن أن مؤلفي هذه الروايات عاشوا الأحداث التي يكتبون عنها. ثمة اليوم، أكثر فأكثر، روائيون شبان، في الثلاثين والأربعين، يهتمون بهذه الموضوعات. أنا أحترمهم. فبعد كل شيء، يعني ذلك أن هذه الموضوعات تؤرقهم، تحرقهم. قد يكون الأمر حسناً. من صاحب الحق في أن يشهد: من عاش الحدث وتعرض له؟ أم الذي يرويه؟ أم ذاك الذي يعيد إحياءه على طريقته كالروائي؟ طالما أن الشاهد هنا، عليه أن يشهد. علينا أن نكتب ونكتب ونكتب. أسمع أحياناً حديثاً عن التخمة، بيد أنه كيف يمكن لنا أن نمنع الذي عاش مأساة من أن يتحدث عنها في روايته. كل قصة تشكل حادثاً متفرداً. أعتقد أيضاً أن كل من يستمع إلى الشهادة يصبح شاهداً بدوره. هل يمكننا، على سبيل المثال أن نكتب رواية عن «الشوا» (المحرقة اليهودية)؟ بالنسبة إليّ، لم أرغب أبدا في أن أكتب رواية عن «الشوا». بيد أني أفهم أن يقوم غيري بذلك، إذ هذا من حقهم. لا أستطيع أنا فعل ذلك. أرتعب من فكرة الرقابة، مهما كان نوعها. الخطر الوحيد في العملية التخييلية تكمن في تشويه الواقع، إلا أن الأمر يعود إلى مسؤولية الكاتب الشخصية. أذكر أنه في سبعينيات (القرن الماضي)، عرضت القناة الأميركية «أن. بي. سي»، سلسلة حلقات عن الهولوكست. حين شاهدتها، صُعقت، تهدمت. لقد قدموا نسخة «كيتش» عن الأمر. ليس لهم الحق ليقوموا بذلك. يرى جورج سيمبرن بأنه «من دون التخييل، تذوي الذكرى» ، ألا يستطيع الأدب أن يقدم خدمة إلى الذاكرة؟ إذ يمكن لها أن تنتقل عبر الرواية؟ أبداً، لن نستطيع أبدا تخطي قوة الوثيقة، الصحف، الشهادات المكتوبة. لن نتمكن أبدا من الوصول إلى عمق يأس من عاشه. منذ سنين، كتبت مقدمة لكتاب شهادات ورسائل ونصوص لرجال ونساء كانوا قد رُحّلوا إلى أوشفيتز (كتاب «القافلة رقم 6، باتجاه أوشفيتز، 17 تموز 1942» ، صدر عن منشورات «لوشيرش ميدي»، ويحوي نصوصاً للناجين أو لأقربائهم). لا أحد يستطيع أن يصف الألم كما الإيمان بكثير من الحقيقة. بيد أنه يمكن للرواية أن تساعد الذاكرة، يمكن لها أن تبقي الشعلة متقدة. يمكننا أيضاً أن نكتب الروايات انطلاقاً من هذه الوثائق. الكاتب حر في أن يفعل ذلك. لكن لم يعد هناك من ناجين على قيد الحياة، كما هي الحال مع أولئك الذين حاربوا في الحرب العالمية الأولى؟. الذاكرة هنا كي تحمينا، لكن علينا أن نعتني بها، أن نغذيها. هذا الرقم (يشير إلى أعلى ذراعه) لم أرغب في محوه، مثلما فعل آخرون، وهذا ما أتفهمه. إنني أحمل في داخلي. إنه هنا. في رواياتي أو في كتبي الأخرى، أكتب عن الذاكرة. لكني لا أرغب في أن أكون آخر الناجين، من الصعب تحمل هذا الأمر. ثمة روائيون شبان لا يتورعوا في أن يتقمصوا جلد السفاح؟ لفترة طويلة، لم يهتم أحد بأمر الضحايا. لكن، من خلال الرواية، يمكن لنا أيضا أن نطرح السؤال «أي نوع من الرجال كان عليه القاتل؟» يمكن لنا أن «ندخل» إلى منزله، أن نرى بأن لديه زوجة وأطفالاً، بأنه يحبّ الموسيقى. تماماً كما الضحايا. ننتبه عند ذاك إلى أن السفاح لم يأت من الغيب. بل من هنا. أرغب في ذلك بالقول أيضاً بأني اشعر بالتضامن مع الشبان الألمان، الذين لا يتحملون مسؤولية أجدادهم (حلل فيزيل هذه الموضوعة في كتابه «الحالة سوندنبرغ»). ألتقي الكثير منهم خلال محاضراتي، لديهم شعور كبير من الندم. أحياناً يشعرون بأنهم مذنبون بينما هم أبرياء. «رهينة»، عنوان كتابك الأخير، عنوان عنيف، إنه يحيلنا أيضا إلى فلسفة ليفيناس أو إلى مفهوم فئة الرهينة، إلى «لا شرط» الرهينة، الذي يبدو أساسيا. أنا رهينة الآخر، يقول ليفيناس، مع الكثير من التدرجات بالطبع. ويضيف: «إنها كلمة أعرفها منذ الحرب». أليس هناك، وبعيدا عن شخصية شالتييل في كتابك، ثمة شرط للرهينة نجد أن جميع الكائنات البشرية في جيلك قد واجهتها، بطريقة أو بأخرى؟ إلى حد ما، أريد أن أقول بأني لا أشارك ليفيناس فلسفته حول هذه القضية. لا أظن بأننا رهائن بعضنا الآخر. يمكن لنا أن نكون ضحايا أو الحلفاء. حتى أننا لسنا حلفاء الله. ربما نحن رهينة الموت. ومع ذلك أفهم ليفيناس، لأنه في تقليدنا، نردد عبارة «رائعة» ، «نحن مسؤولون عن بعضنا بعضا»، أو «نحن امتزجنا ببعضنا البعض». إن ترجمة كلمة الرهينة هي «بن أروفا»، بيد أنه معنى غير مقبول في فلسفتنا. على الرغم من كل شيء، يبدو الأمر مهماً أي كما كل ما قاله ليفيناس. لقد «حضر» فلسفته حول هذه الفكرة. ربما أعطى كلمة «هاريفيم» لمعنى الرهينة هذا، ولِمَ لا في أي حال. بالنسبة إليّ، أعتقد أن شرط الرهينة ليس سوى ذل. وأنا ضد الإذلال. أن يسير رجل أو امرأة في الشارع ويتمّ خطفه من قبل معتدين ليصبح رهينة، بأي حق نفعل ذلك؟ للحصول على ماذا؟ بدأت بالعمل على كتابي هذا في اللحظة التي قتل فيها إيلان حليمي في باريس. إلا أن ليس هناك أي علاقة لقصتي بذلك. في حالته، تمّ خطفه من أجل الحصول على المال. أما شالتيل، في كتابي، فقد تمّ اختطافه من أجل تحرير آخرين. وهنا أدخل في إشكالية الرهينة، وفق مستوى القانون اليهودي التقليدي..(...)