يعتبر مشهد الموت من أكثر المشاهد الدرامية الإعلامية حضورا وتواترا في الوقت الحاضر، لارتباطها بدراما الحروب والأوبئة والمذابح الجماعية والأمراض والعنف والقتل. ومع أن الصورة الإعلامية تقدم وصفا متنوعا للموت إلا أنه يبقى مجرد وصف في ساحة الآخر، فالموت موت الآخر وليس موت المتابع، وعذاب الآخر وليس عذاب المتابع، وبالتالي فقراءة مشهد الموت نازلا بالآخر قد لا يعين على الاستفادة الجيدة من درس الموت ذاته. لكن بعيدا عن المشهد الإعلامي، وبين الخوف من الموت وبين الحزن على مفارقة الحياة، ينتعش الفضول المعرفي الإنساني منذ الأزل لاستكشاف منازع الموت وأسراره وألغازه، وذلك بطرح مجموعة من الأسئلة الشاردة والحائرة حول معاني الموت. فكيف حاولت المدارك والمعتقدات والتجارب الإنسانية الإجابة عن تلك الأسئلة المرتبطة بحقيقة الموت؟ الموت من منظور علمي. يعرف العلم الحديث الموت بالتوقف الذي لا رجعة فيه في الدورة الدموية، وبما أن الدماغ لا يستطيع أن يبقى حيًا سوى بضع دقائق عند انقطاع التروية الدموية، فإن الدماغ هو أول الأعضاء تأثرًا وموتًا نتيجة توقف الدم عن الجريان في الأوعية الدموية. ويؤكد ذلك خلال العمليات الجراحية التي تجرى على قلب الإنسان، فرغم أن القلب يوقف أثناء العملية الجراحية التي تفوق مدتها عموما الساعتين، يكون الإنسان في عداد الأحياء، والسبب هو أن وظيفة القلب تقوم بها مضخة تضخ الدم من الوريد الأجوف السفلي والعلوي بعد أن يمر في جهاز يقوم بوظيفة الرئة ثم يعاد إلى الشريان الأورطي، الذي بدوره يوزع الدم على بقية أعضاء الجسم، وتكون حينها الدورة الدموية غير متوقفة والدماغ يتلقى التروية الدموية دون انقطاع، ووظيفة الرئتين تقوم بها آلة أخرى تأخذ ثاني أكسيد الكربون من الدم وتعطيه الأوكسجين. لذلك وحتى في الحالات التي يعلن فيها أن سبب الموت هو توقف القلب والدورة الدموية والتنفس، يكون السبب الجوهري في الوفاة هو انقطاع التروية الدموية عن الدماغ. وفي حالة تهشم الدماغ وبالذات جذع الدماغ الذي يحتوي على المراكز الحيوية (اليقظة، التنفس، التحكم في الدورة الدموية) يعتبر الإنسان ميتا لا رجعة فيه ولو أن القلب والتنفس لا يزال يشتغل بمساعدة العقاقير والأجهزة، وهذا ما يعبر عنه عموما بموت الدماغ. إن موت الدماغ هو موت الدماغ بما فيه من المراكز الحيوية والهامة جدًا والواقعة في جذع الدماغ، فإذا ماتت هذه المناطق فإن الإنسان يعتبر ميتًا، لأن تنفسه بواسطة الآلة المنفسة مهما استمر يعتبر لا قيمة له ولا يعطي الحياة للإنسان. وكذلك استمرار النبض من القلب بل وتدفق الدم من الشرايين والأوردة (ما عدا الدماغ) لا يعتبر علامة على الحياة طالما أن الدماغ قد توقفت حياته ودورته الدموية توقفا تاما لا رجعة فيه. وهذا الأمر يشاهد عند ذبح الحيوانات، فحين يضرب العنق تتوقف الدورة الدموية عن الدماغ ويموت الدماغ خلال دقائق معدودة بينما يبقى القلب يضخ لمدة خمس عشرة إلى عشرين دقيقة، ويبقى الحيوان المذبوح يتحرك مع أن الدماغ يكون قد مات. والأمر ذاته يحدث في عملية الشنق خلال الإعدامات، فعندما يشنق الإنسان تتوقف الدورة الدموية عن الدماغ ويموت على إثرها، بينما يستمر القلب في الضخ والنبض لعدة دقائق، وفي هذه الفترة يكون الشخص قد مات فعليا. من جهة أخرى، فقد أعلن أشخاص من مختلف الأعمار والأوطان والأجناس والمعتقدات أنهم استيقظوا، بعدما كانوا على وشك الموت فسردوا مجموعة من الرؤى والأحاسيس، كالانفصال عن الجسد، رؤية كاملة لشريط الحياة الماضية، الدخول في نفق يُفضي إلى ضوء ناصع، الشعور بحب لا نهائي وسلام أبدي، الإحساس بالألم وعدم السعادة...، وهو ما يصطلح عليه ب"تجارب الموت الوشيك" أو "الاقتراب من الموت Near death Experience NDE " وقد حاول الفيلسوف والطبيب الأمريكي ريموند مودي في كتابه "الحياة بعد الحياة Life after Life"، الذي نشره عام 1975، تناول الموضوع بدراسة منهجية دقيقة ل 150 حالة من تلك التجارب المتنوعة، خلصت إلى وصف العناصر التي تتكرر في سرد الذين "عادوا من الموت" كالتالي: في البداية يسمع الشخص ضجيجا أو رنينا، بعدها ينطلقون بسرعة هائلة في نفق طويل وضيق ومظلم، ليجد الشخص نفسه فجأة خارج جسده ولكن بإدراك تام لمحيطه. بعدها تبدأ مرحلة تأقلم بطيئة لفهم واستيعاب الوضعية الجديدة مع الوعي بامتلاك جسد، لكنه مختلف عن الجسد المادي. يتطور السيناريو لتظهر كائنات أخرى كأقارب ومعارف فارقوا الحياة أو شخصيات دينية أو كائنات نورانية تطرح أسئلة حول أفعال الحياة الدنيا. كما أن هناك من يروي مشاهدته لشريط حياته منذ الولادة ولكن دون إحساس حقيقي بمفهوم الزمن. كما ان الكثير من هؤلاء الأشخاص يتحدثون عن اقترابهم من "حاجز رمزي" يفصل بين الحياة والموت الذي يعني اللاعودة. كل هذا قد يكون في ظل أحاسيس فياضة وشعور أبدي بالحب والسعادة. هذا وقد ذهب بعض العلماء إلى تفسير تلك التجارب بنقص الأكسجين أو بتأثير أدوية التنويم أو بإفراز الجسم بشكل طبيعي لمادة DMT الكيميائية ذات التأثير النفساني، باعتبار أن كل هؤلاء الأشخاص "العائدين من الموت" تم إنعاشهم مرة أخرى، وبذلك تكون أدمغتهم قد تمكنت من البقاء على قيد الحياة دون أي ضرر كبير، مما جعلهم يتمكنون من سرد ما عاشوه في تلك التجارب سنوات عديدة بعد وقوعها. وبالرغم من أن المقاربات الدينية والروحية تجد في هذه التجارب مؤشرا وجوديا على استمرار الحياة بأشكال أخرى بعد الموت البيولوجي، فإن ما يزيد الأمر تعقيدا هو أن هذه التجارب عاشها كذلك أشخاص لادينيون وملحدون. على المستوى السيكولوجي، يعتقد العديد من الباحثين بوجود مراحل متعددة في رحلة النزع الأخير للإنسان، يمكن تلخيصها في أربع مراحل :- المرحلة الأولى : تكون عملية الاعتراف بحتمية المصير، وهذا الاعتراف والإقرار لا يأتي بسهولة بل يمر بمراحل تبدأ بالرفض والتذمر، كأن يقول المريض لنفسه مثلا : "إن الطبيب مجنون، من غير الممكن أن أكون في قائمة المنازعين والمحتضرين، هذا ليس صحيحا، هذا لا يعقل، هذا لا يصدق، أنا لا أستطيع الاقتناع بهذا الأمر، هذا مستحيل..."، فتجتاحه موجة من الغضب، كأن يقول لنفسه مثلا : "من فعل بي هذا؟ لماذا يختارني الله للموت في هذا الوقت وفي هذا العمر؟..."، بعدها يمر إلى حالة المساومة، حيث يبدأ في السؤال مثلا : "هل يمكن أن أعيش حتى عيد الميلاد؟ هل سأبقى على قيد الحياة لحين زواج ابنتي؟ هل يمكن أن أعيش حتى ولادة حفيدي الأول؟..."، وتأتي بعد ذلك حالة الإحباط التي يعيش فيها المقبل على الموت ألمه الخاص وحزنه الذاتي الشديد، وتنتهي المرحلة الأولى أخيرا بحالة من القبول يتبنى فيها المحتضر وضعية الحكمة، بحيث يتحول فجأة إلى حكيم أو فيلسوف في شؤون الحياة والموت ومعانيهما، وفي هذا الحال ينتابه شعور بضرورة إنجاز الأشياء التي سبق له أن بدأها وإغلاق فصول حياته التي باشرها. – المرحلة الثانية : يستبطن المقبل على الموت ذكرياته التي تتعلق بالأحباب والأصحاب والمقربين منه. – المرحلة الثالثة : تأخذ هذه المرحلة طابع سيكولوجيا يتوافق مع معطيات تأنيب الضمير، وتلك هي صيغة من المحاسبة الذاتية للإنسان الراحل إلى عالم الفناء. في هذه المرحلة يفصح المقبل على الموت عن عقده اللاشعورية اللاواعية ولاسيما تلك التي تتعلق بمشاعر الذنب، فنجد المحتضر يقول لنفسه مثلا : "هذه كانت غلطتي وتلك كانت خطيئتي، ما كان يجب علي أن أفعل هذا الأمر أو ذاك، ...". – المرحلة الرابعة والأخيرة : تتمثل في مرحلة القبول وفيها يستسلم المحتضر للمصير المشترك الذي يجمعه مع المقربين الذي سبقوه إلى دار الرحمة الأبدية. الموت من منظور فلسفي. شغلت قضيّة الموت والخلود أذهان الفلاسفة والمفكّرين على اختلاف مَشاربهم ومَذاهبهم منذ فجر التاريخ، لما تمثّله هذه القضيّة من أهميّة كبرى تتعلّق بحياة الإنسان ومصيره بعد الموت، ولقد كانت بداية التفكير في هذه القضيّة بطرح أسئلة تتعلّق بماهية الموت، وكيفيّة حدوثه، ومصير الإنسان بعد الموت، ونتجت عن ذلك آراء فلسفيّة متعدّدة ومتنوّعة ترى في مُجملها أنّ الموت هو نقيض الحياة، كما أنّه مُرادِف للعدم، بمعنى فساد الحياة وزوالها. وقد عبر الفيلسوف اليوناني أفلاطون عن أهمية قضية الموت بقوله : "إن الفلسفة هي تأمل للموت". ويمكن استعراض جانبا من محاولات فَهم مسألة الموت من ناحية فلسفية محضة عبر بعض الاقتباسات لفلاسفة مشهورين كالآتي : – الفيلسوف اليوناني سقراط الذي عرف عنه أنه خلال موته كان هادئا وباسما وكان يقول لتلامذته : "يجب على المرء أن يستقبل الموت بتفاؤل وفرح ولذا عليكم بالهدوء والتوازن". فقد اعتبر الموت بمثابة لحظة توقف، حالة من نوم أبدي، راحة أبدية أو رحلة قصيرة إلى العالم الآخر حيث تبدأ حياة جديدة وتستمر الحياة في صيغ مختلفة. وفي كل الأحوال لا يوجد هناك ما يدعو إلى القلق. – الفيلسوف اليوناني أرسطو : "يستحيل تصور جسد منفصل تحل فيه نفس إلهية ذات وجود سابق، النفس معاصرة للجسد الذي تقوم اتجاهه بوظيفة مبدأ الأحياء الكامن فعندما تذهب يتبدد ويصبح جماداً". – الفيلسوف الرياضي الفرنسي بليز باسكال : "ليس هناك خير في الحياة إلا الأمل في حياة أخرى، ولا يكون المرء سعيداً إلا بقدر اقترابه من هذا الأمل، وكما أنه لن تقع ضروب من سوء الحظ لأولئك الذين يمتلكون ناصية اليقين القوي في الأبدية، فكذلك ليست هناك سعادة لأولئك الذين لا يميلون لذلك". – الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت الذي كان يؤمن أن النفس تبقى بعد الجسم : "أعلم جيداً ... أن لك ذهناً متقداً وأنك تعرف جميع ضروب العلاج لا تهدئ حزنك، لكن لا أستطيع الامتناع عن إخبارك بعلاج وجدته بالغ الأثر، لا في مساعدتي على أن احتمل صابراً موت أولئك الذين أحبهم فحسب، وإنما كذلك في القضاء على خوفي من موتي، وذلك على الرغم من أنني أنتمي إلى أولئك الذين يعشقون الحياة عشقاً جماً .. ويتمثل هذا الضرب من العلاج في النظرة إلى طبيعة أنفسنا، تلك الأنفس التي أعتقد أنني أعرف بوضوح بالغ أنها تبقى بعد الجسم وأنها قد ولدت من أجل ضروب فرح وغبطة أعظم بكثير من تلك التي نتمتع بها في هذا العالم، وأنني لا أستطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون إلى حياة أكثر سلاماً وعذوبة من حياتنا، و إننا سننضم إليهم يوماً ما، حاملين معنا ذكريات الماضي ذلك، لأنني أتبين فينا ذاكرة عقلية من المؤكد أنها مستقلة عن الجسم". – الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا : "العقل البشري لا يمكن تدميره بصورة مطلقة مع الجسم، لكن شيئاً خالداً يبقى منه"، "إننا لم نعز إلى العقل البشري أي ديمومة يمكن تحديدها زمنياً، إلا بقدر ما يعبر ذلك عن وجود فعلي للجسم، يفسر عن طريق الديمومة ويمكن تحديدها زمنياً، أعني أننا لا نعزو إليه ديمومة إلا بقدر ما يدوم الجسم، غير أن هناك بالرغم من ذلك شيئاً ما تقتضيه ضرورة خالدة معينة عبر ماهية الإله ذاته، وهذا الشيء الذي يتعلق بماهية العقل سيكون أزلياً بالضرورة". – الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط : "ليس الموت إلا القناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً و أقوى مغزى، وأن ما يسميه القانون بالموت هو المظهر المرئي لحياتي وهذه الحياة هي الحياة الأخلاقية .. وما يسمى بالموت لا يمكن أن يقطع عملي لأن عملي ينبغي أن ينجز لأنني يتعين علي ان أقوم بمهمتي، فليس هناك حد لحياتي، إنني خالد". – الفيلسوف والرياضي الألماني غوتفريد ليبنتز : "إن الحيوانات المنوية هي نتاج لحيوانات منوية أخرى صغيرة تعد بدورها بالمقارنة بها حيوانات كبيرة، ذلك أن كل شيء في الطبيعة يمضي إلى ما لا نهاية، وهكذا فإنه ليست النفوس وحدها هي التي لا تتوالد ولا تفنى و إنما الحيوانات كذلك إنها فحسب متطورة أو غير متطورة، مجردة أو كاسية متحولة، والنفوس لا تتخلص من كيانها بأسره ولا تنتقل من جسم إلى آخر جديد كلياً بالنسبة لها، ومن هنا فليس هناك تناسخ و إنما ثمة تحولات". – الفيلسوف الألماني هيجل، مؤسس الفلسفة المثالية : "إن الموت هو الحب ذاته، ففي الموت يتكشف الحب المطلق، إنه وحدة ما هو إلاهي مع ما هو إنساني، وأن الله متوحد مع ذاته في الإنسان، في المتناهي .. عبر الموت صالح الله العالم ويصالح ذاته للأبد مع ذاته". – الفيلسوف الألماني شوبنهاور، فيلسوف التشاؤم : "إن المعاناة هي بجلاء المصير الحقيقي للإنسان، ويتعين النظر إلى الموت باعتباره الهدف الحقيقي للحياة، لأنه في لحظة الموت فإن كل ما تقرر حول مسار الحياة بأسرها ليس إلا إعداداً ومقدمة فحسب و الكفاح إلا تجلي في الحياة على نحو عابث وعقيم ومتناقض مع ذاته تعد العودة من رحابه خلاصاً". – الفيلسوف الألماني نيتشه الذي يؤمن بنظرية العود الأبدي : "ما من وقت ينقضي بين لحظة وعيك الأخيرة وأول شعاع لفجر حياتك الجديدة، ومثلما بعد لمعة البرق ينزاح المكان، وذلك على الرغم من أن المخلوقات الحية تظن أنه انقضى مليارات السنين ولا تستطيع حتى أن تعيدها، فاللازمان وإعادة الميلاد المباشر يناغمان حينما ينحي العقل جانباً". – الفيلسوف الروسي نيكولاس بيردييف : "إن الموت هو الحقيقة الأعمق والأكثر دلالة في الحياة نفسها، لأنه يأخذ بالإنسان فوق ظواهر حياته اليومية السطحية، إنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا نفكر في معنى الحياة ذاتها، والحياة نفسها لا معنى لها إلا في دلالة الموت عينه". – الفيلسوف الألماني هايدجر : "يجب على الموت ألا يكون هاجسا وجوديا يقض مضاجعنا، فنحن نصنع حياتنا وننسجها من أحداث صغيرة جدا، وهذه الصغائر نفسها تمتلكنا وتشغل طاقتنا الوجودية. وهذا يعني أنه لا يجب على الموت أن يحدث الفوضى والعدمية في أنساق حياتنا ووجودنا. ونحن إذن ليس لدينا الوقت للتفكير بقضايا الموت وإشكالياته لأن مشاغلنا ومتطلبات حياتنا لا تسمح لنا بممارسة هذا الدور، إن التفكير الدائم إزاء الموت سيكون أشبه بكابوس مرعب يتميز بطابع الديمومة والاستمرار ويجعل من حياتنا عذابا لا يتوقف إلا بالموت ذاته". – الفيلسوف الوجودي غابرييل مرسيل : "إن الرغبة في تحليل مشكلة الموت لا تفرض علينا القبول بضرورته، فالموت ليس موضوع تأمل فكري بل هو تجربة تعاش كما يتعايش المرء مع السر.. فالموت لحظة حاسمة من لحظات هذا الوجود ينبغي أن نستفسر من الحياة عن طبيعة تجربة الموت وعن احتمالاتها". – الفيلسوف المثالي الأميركيّ وليام إرنست هوكنج، الذي رأى أنّ الموت هي الرؤية في تغيّرات التاريخ، وأنّه لا يُمكن رؤية ما وراء الموت، وأنّ الإنسان لا يُمكنه بأيّ حالٍ من الأحوال أن يدرك موته هو شخصيّاً، لأنّه ببساطة سوف يكون في ذلك الوقت في تعداد الموتى. كما يشير أيضاً إلى أنّ الخلود مثل الخيال الذي لا وجود له، ويُشبه مَسرحاً نمثّل عليه خيالنا عن الحياة الأخرى بعد الموت، إلّا أنّه ليس في الإمكان حدوثه". هذه الاقتباسات الفلسفية حول الموت تعبر عن أهمية مسألة الموت والخلود في الفكر الفلسفي لما تمثّله من قضيّة محوريّة مهمّة تتعلّق بحياة الإنسان ومصيره بعد الموت، كما تعبر عن التعقيدات التي آلت إليها المحاولات الفلسفية لفهم مسألة الموت. وعموما، فقد انصبت أفكار الفلاسفة على ثلاث محاور : أولا، فلسفة السقوط (أفلاطون) التي ترى أن الحياة الإنسانية تولد من لقاء النفس والجسد، والموت يكون بانفصالهما، ثانيا، فلسفة التشكيل (أرسطو) التي ترى أن النفس هي صورة معاصرة للكيان البشري، تقوم اتجاه الجسد بوظيفة مبدأ الإحياء الكامن، فعندما تذهب يتبدد الكيان ويصبح جمادا، ثالثا، فلسفة التلاشي (المادية) التي تعتبر أن النفس مؤلفة من ّذرات شأنها شأن الجسد، وعند الموت يفسد الجسد وينحل وتتبعثر الذرات التي تؤلف النفس ضمن الدورة الشاملة الكبرى للطبيعة، فالنفس ليست سوى قوة طبيعية ملازمة للمادة تتبدد عند الموت. الموت في الأديان. تتفق أغلب المعتقدات الدينية الإنسانية بما فيها الفرعونية المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينيةوالهندية واليونانية واليهودية والمسيحية والإسلام، في أن الموت هو مفارقة الروح للجسد، لكنها تختلف في ماهية هذه الروح وهل تعود إلى هذا الجسد أم تعود إلى جسد آخر، كما تختلف في كيفية خروجها من الجسد. – الديانة الطاوية التي تجدرت عند الصينيين القدامى : يعتبر الموت في هذه الديانة بمثابة عبور الإنسان المتوفى جسراً من حياته إلى حياة أخرى ليلتقي بعشرة قضاة يحاسب من قبَلهم، فيقررون إن كان قد عاش حياةً سليمة ونزيهة أو سيئة، وعليه يقررون إرساله إلى الجنة أو نفيه إلى مكان آخر غير الجنة، وهنا تكون قد خضعت روحه للعقاب. وقد دفع هذا المعتقد بالأباطرة الصينيين إلى دفن ممتلكاتهم معهم من أشياء ثمينة ومهمة وصولاً إلى البشر، إيماناً منهم أنهم بهذه العملية يضمنون حياة آخرة تشبه حياتهم التي عاشوها قبل الموت. فكان أن كون الإمبراطور الصيني تشين شي هوانغ جيش "التيراكوتا" وأخذه مع جميع حاشيته معه إلى قبره الكبير المبني من الطين والاسمنت. – الديانة الهندوسية المتواجدة أساسا في الهند والنيبال : تتلخص فكرة الموت في هذه الديانة في شقين أساسيين يتحددان بحسب تصرفات الإنسان وأفعاله بالحياة وهما : "الكارما والتناسخ" التي تعني ولادة المرء مرة أخرى على هيئة إنسان آخر أو حيوان أو حشرة أو نوع من أنواع النباتات، ف"الكارما" توجه نمط حياة المرء في أعماره السابقة واللاحقة وتحدد مصيره والهيئة التي يتجسد بها من جديد، فإذا كانت حياته السابقة جيدة بما فيه الكفاية فإنه يحصل على حياة جديدة بشخصيته ذاتها، ولكن حياته ستكون عن طريق الحظٍ، لأن الإنسان في "الكارما" يكون إما هابطاً أو صاعداً على حسب تسلسل هرمي من خلاله يقرر مصير صنعه من جديد وهيئته الروحية الجديدة. – الديانة البوذية المنتشرة في الصينوالهند وباقي دول شرق آسيا : تؤمن هذه الديانة بانتقال روح الإنسان منه إلى جسد آخر، و تعتبر الحياة بمثابة عذاب والموت بمثابة الراحة الأبدية لروح الإنسان. فإذا كانت أفعال الإنسان سيئة فستعود هذه الروح لنفس الجسد وتحرم من الخلود والذهاب إلى "النيرفانا" (أي حالة خلو الحياة من المعاناة عند البوذيين)، والتي هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي. – الديانة الشنتوية اليابانية التي تتكامل مع البوذية في العديد من الجوانب : في هذه الديانة هناك اعتقاد بأن الإنسان يوجد في داخله "كامي" بمعنى "روح سماوية" ضعيفة ومرتبطة، وعند الموت تستعيد هذه الروح قوتها وتخرج من جسم الميت، فتتفاعل بطرق مختلفة مع عالم الأحياء، لكن هذه الروح تحتاج إلى شخص يعتني بها ويغطي احتياجاتها الأساسية "للبقاء" : مثل الشرب والأكل والترفيه. ومع ذلك، فقبل موت الإنسان هناك رحلة طويلة وشاقة يعيشها بجسده، فالموت هو لحظة انتقالية مهمة شبيهة بالولادة ولذلك يجب على الشخص الذي يموت وعائلته إتباع الطقوس الصحيحة حتى لا يفشل في مهمة الموت الذي يعتبر بمثابة "الولادة من جديد". – الديانة الزرادشتية التي كانت منتشرة قديما في فارس، كردستان والهند : ترى هذه الديانة أن تاريخ العالم هو تاريخ الصراع بين خالق الخير وبين الشيطان "أصل الشر"، وفي بداية الخلق اخترق الشيطان استحكامات السماء، وهاجم الإنسان الأول والحيوان الأول وأصابهما بالمرض والموت، فالشيطان لا يقدر إلا على التدمير، ولذلك فإن الموت من عمل الشيطان، ومن أجل ذلك يعتقد الزرادشتيون أن الجنة مستقر الشياطين، وكلما كان الميت صالحاً ازدادت قوى العمل الشيطاني، ولما كان إحراق الجثة أو دفنها يدنس العناصر المادية، فلا بد أن تعرض الجثث فوق "أبراج الصمت" لتلتهمها الطيور الجارحة، ولذلك فالزرادشتيون يضعون أجسام الموتى على سطح برج عال مستدير مبلط يتوسطه بئر عميق. وعندما يموت أحدهم، يضعون جثته عريانة مكشوفة للشمس على الألواح الحجرية المكونة من ثلاثة صفوف، الصف الخارجي منها للرجال، والمتوسط للنساء، والداخلي للأطفال. وتبقى الجثث تحت حرارة الشمس ومياه الأمطار إلى أن تأكلها الجوارح من الطير، ولا يبقى إلا العظام فيطرحونها حينئذ في ذلك البئر، ويكون نور الشمس وحرارتها مطهران لهذه الأجسام من دنس الخطيئة، فتدخل النعيم مطهرة مقدسة. – المعتقدات الفرعونية القديمة : شبه الإنسان المصري القديم نفسه بالطبيعة التى يظهر فيها القمر والشمس ثم يختفيان، ويفيض فيها نهر النيل مرة واحدة سنوياً، وينبث الزرع فيها ثم يجنى ثم يزرع غيره...، وبهذا المنطلق، اعتقد أن هناك حياة أكيدة بعد الموت لا مفر منها، وارتأى أن الروح تخرج من الجسد وتذهب لمكان آخر، فابتكر التحنيط الذي هو من أقدس الشعائر في الجنائز الفرعونية. – الديانة الصابئية : التي ترى أن الإنسان يحملُ في مادة جسده الفانية "نسمة النور نشمثا" وهي الوحيدة التي لا تموت ولذلك تخرجُ من الجسد بعد الموت لتعود إلى عالم النور، أما الجسدُ فيفنى. – المعتقدات اليونانية : كان اليونان يعتقدون أن هناك شخصاً يسمى "شارون" أو "قارون"، موكل بأرواح الموتى، يحملها ويعبر بها نهر الموت، ولا يفعل ذلك ما لم يتناول أجراً معيناً. فكانوا يضعون في فم الميت قطعة من النقود يعطيها إلى الموكل المذكور. وإذا ساروا به يحملون أمام نعشه تمثاله وتماثيل أسلافه، وعند نهاية الاحتفال بالجنازة وتشييعها إلى مرقدها الأخير، يرش الكهنة جميع الحاضرين بالماء ويصرفونهم، وكانوا كثيراً ما يحرقون موتاهم بطرحها فوق حطب مرتب على صورة مذبح، ثم يلتفون حوله بخشوع ووقار، ويسمعون النغمات الموسيقية المحزنة، ثم يتقدم أحد الأقارب حاملا شعلة فيضرم بها ذلك الحطب، ثم يلقى الحاضرون ما يحملونه للميت من الأطايب في ذلك اللهب. وبعد احتراق الجثة يطفئون النار ثم يجمعون الرماد ويجعلونه في آنية نفيسة يلقونها في مدفن العائلة. – الدياة اليهودية : يرى اليهود الإنسان باعتباره مكونًا من وعاء خارجي هو الجسد، تحتله نفخة إلهية هي الروح، وأن الإنسان هو الروح فقط لا الجسد، وبالتالي فلا موت يصيب الإنسان، فهو ك "روح" يعود للخالق، ويفنى الجسد بالانتقال إلى مكان يسمى "الهاوية". والجسد بلا روح في هذه الرؤية يكون شبحًا أو كيانًا محكوما عليه بالفناء في أرض الأموات بلا بعث ولا نشور، وهذه الرؤية العدمية للجسد تشابه ما كان شائعًا في الحضارات الكنعانية وحضارات الرافدين. وقد كان تصور "الهاوية" تصورًا قاسيًا وظالمًا ولا يعبر عن عدالة وعلم الخالق لأنه ساوى بين الأخيار والأشرار والنبيين والقاتلين، والأبرار والكفار، الشيء الذي دفع باليهود إلى مراجعة أفكارهم فيما بعد بالانفتاح على المعتقدات الأخرى. إذ أصبحت أفكارهم حول طبيعة الجنة و"الهاوية" تتطابق مع أفكار فلاسفة اليونان وتصوراتهم وأفكار قدماء المصريين كذلك، حيث أن هناك مكان تحت الأرض هو حقول "أوزوريس Elysian Fields " يعيش الميت الصالح فيه في هناء وراحة، وهناك جحيم أبدي للروح التي تحررت من الجسد كما يرى أفلاطون. ورغم عدم وضوح طبيعة الروح وكيفية تحررها من الجسد وطبيعة "الهاوية" وكيفية الخروج منها وطبيعة البعث وطبيعة الجنة وغيرها من الأمور المحورية، يكتفي اليهود بالقول : "إنه طالما الأمور بين يدي الله القدير العادل فلا نخاف شيئًا". – الديانة المسيحية : بشكل عام، تعتبر هذه الديانة أن الموت موتان وأن البعث بعثان، فكما مات المسيح على الصليب وسيبعث ويعيش مرة أخرى على الأرض، كذلك المؤمنون بالمسيح سيموتون ثم يبعثون على هذه الأرض مع عودة المسيح ويعيشون حياة الملكوت، حتى تنقضي الحياة على الأرض فيموتون مرة ثانية ثم يبعثون يوم القيامة أرواحًا بلا أجساد. ومع تطور التاريخ المسيحي، حدث خلاف حول ما يحدث للجسد، فرأى البعض أن الجسد يبعث ويعيش الحياة الأبدية، ورأى البعض الآخر أن الجسد يفنى وأن البعث يكون للأرواح فقط. فبالنسبة للقائلين ببعث الأجساد، لا تموت الروح عند فراق الجسد، بل تظل في عالم بيني تنعم فيه أو تعذب حسب أعمالها في الدنيا، وعند البعث يبعث أولًا يسوع ثم يبعث القديسون والشهداء ثم يبعث باقي الناس. وهذا البعث للقديسين والشهداء هو البعث الأول الذي يعقبه ملكوت يسوع لمدة ألف سنة، يقيد فيها الشيطان بلا قوة، وتكون السعادة والهناء للقديسين في القدس. ثم يجيء الموت الثاني ليسوع والناس أجمعين، وبعده البعث الثاني أمام الله حين يحاسب الناس ويذهبون -حسب إيمانهم بيسوع- إما إلى الجنة أو النار. ومع ظهور الإسلام وتقديمه مفهوم "الأعراف" الواقعة بين الجنة والنار، أضافت الكنيسة المسيحية مكانًا ثالثًا وهو "المطهر"، وهو مكان بين الجنة والنار يطهر فيه العصاة. الموت من منظور إسلامي. يمكن إدراك أهمية قضية الموت في الإسلام من خلال كثرة ورود مصطلح الموت ومشتقاته في القرآن الكريم، والتي وصلت إلى 165 مرة مرتبطة بإفادات مختلفة : – الاستعداد وضرورة التحرر من مغريات الحياة الدنيا ما دامت ستنتهي بالموت : "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" (سورة الحديد 20)، – الاستقامة هي الطريق لربح الحياة الأخرى، خاصة وأن الحياة الدنيا لابد أن تنتهي بالموت : "كل نفس ذائقة الموت" (سورة آل عمران185)، – الله يحيي الأموات ليبدؤوا حياة جديدة بأمره: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (سورة البقرة 28)، "وأنه أمات وأحيا" (سورة النجم 44)، – سيكون فناء الدنيا شاملاً يوم القيامة ولن يخلد إلا الله وحده : "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" (سورة الرحمان 26-27)، – الموت نهاية حتمية لكل حي ولا أحد من الكائنات يخلد : "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد (سورة الأنبياء 34)، – الموت تدرك الإنسان أينما كان وأينما حل : "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" (سورة النساء 78)، – الهروب من الموت أمر ميئوس منه : "فإنه ملاقيكم" (سورة الجمعة 8)، – الاختبار بما يجب فيه الصبر في البلايا وبما يجب فيه الشكر من النعم والجزاء على حسب مدى الصبر والشكر "كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون" (سورة الأنبياء 35)، – الموت في يد الله حسب مقتضيات كتاب مؤجل : "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً" (سورة آل عمران 145)، – الموت يقع على أنواع من الحياة، فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات : "يحيي الأرض بعد موتها" (سورة الحديد 17)، ومنها زوال القوة الحسية : "يا ليتني متّ قبل هذا" (سورة مريم 23)، ومنها زوال القوة العاقلة وهي الجهالة : "أومن كان ميتاً فأحييناه" (سورة الأنعام 122)، ومنها الحزن والخوف المكدّر للحياة : "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت" (سورة ابراهيم 17)، ومنها المنام : "والتي لم تمت في منامها" (سورة الزمر 42). يعتبر الإنسان في الإسلام كائنا مكونا من روح ونفس وجسد، ويكون مفهوم الموت في الإسلام هو خروج "الروح والنفس" من الجسد بواسطة ملك الموت بمساعدة ملائكة يقومون بنزع الأنفس. فأما الجسد فمحله القبر بعد الموت ومآله التحلل في الأرض، باستثناء أجساد الأنبياء والشهداء والصالحين التي لا تبلى. ويوم القيامة ينفخ في الصور فتبعث الأجساد وترد فيها الأرواح، ويقع العذاب -سواء في القبر أو في النار- على الأجساد والأرواح كليهما. واختلف علماء الإسلام في تفصيل الفرق بين الروح والنفس، فقد رأى الإمام أبو حامد الغزالي أن الروح هي النسمة العاقلة وأن النفس هي النسمة الشهوانية، في حين عرف ابن قيم الجوزية الروح كمصدر للحياة وهي جسم لطيف يسرى في الجسد كما يسري الماء في النبات والزيت في الزيتون والنار في الفحم، أما النفس فهي المميز للإنسان عن البهائم. كما ذهب الكثير من العلماء كالإمام ابن تيمية أن الروح والنفس هما نفس الشيء، وأن الإنسان له مكونين فقط، الجسد والروح. ويعتبر قبر الإنسان أولى منازل الآخرة، وفيه آخر الاختبارات التي يتعرض لها الإنسان وهو اختبار سؤال الملكين عن الرب والرسول والكتاب، وتكون إجابة الصالحين سهلة ميسورة، في حين يتعذر على الأشرار معرفة الجواب الصحيح ويصيحون "لا أدري"، وبناء على الإجابة والأعمال السابقة تكون حياة القبر نعيمًا أو جحيمًا، ففرعون موسى، مثلًا، يعرض هو وأتباعه على النار أثناء فترة قبرهم، ثم يدخلونها عند البعث كما ورد في سورة غافر 46 : "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب". وعند الموت يتغير حال الإنسان، فيكشف عن قدرات بصرية لم تكن متاحة في الحياة كما ورد في سورة ق 22 : "فبصرك اليوم حديد"، ويدرك حقيقة أشياء كثيرة لم يكن يدركها في الدنيا. ويوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض والسموات كما ورد في سورة ابراهيم 48، وتعود العجائز فتيات أبكارًا في سن الشباب كما جاء في سورة الواقعة 35 : "إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين"، ويدخل أهل الجنة الجنة على أبهى صورة وأحسن حال. أما من تساوت حسناتهم وسيئاتهم من الناس وأصحاب الأعراف، فينتظرون حتى يقضي اللّه تعالى فيهم. هذا ويفصل القرآن الكريم في نعيم الجنة تفصيلًا رائعًا يستهوي النفوس، وفي جحيم النار تفصيلًا تمثيليًا مروعًا يزجرها، كما تزخر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وكتب العلماء المسلمين بإفادات كثيرة حول الموت وما يحيط بها. الموت بين القبول والتجاهل. لا يمكن لحياة الإنسان أن تأخذ معناها من غير دلالة الموت، لأن الموت يلعب دورا متكاملا مع الحياة نفسها، فهو يلعب دورا حيويا من أجل أن يعطي لحياة الإنسان معناها ودلالتها، وكما أن سنابل القمح تنمو لتحصد عندما تبلغ نضجها -او بالأحرى تنمو لتموت- فالإنسان ينتظر لحظة الموت كضرورة طبيعية. لكن الواقع يشير إلى أن غالبية البشر لا تريد أن تتقبل هذه الضرورة الطبيعية، فعندما يأتي الموت يواجه بالصراخ والبكاء والحزن، باعتباره حادثا ومصابا ونازلة دهماء. إن الموت هو عنصر أساسي من عناصر الحياة ذاتها ومكون من مكوناتها وحكمة من حكمها، ويمكن اعتباره كذلك رحمة ونعمة إلهية وحياة بعد حياة واستنشاقا لما وراء العالم وحقيقة كل كائن فان، وهذا التصور الايجابي حول الموت يحفز الإنسان للبحث في العمق والأفق الامتدادي الإنساني ولبس الاقتصار على الموروث وتعريف الموت كفقدان للروح وتوقف القلب عن النبض فقط، فتجربة الموت كقاعدة مخفية ووجودية لكل كائن حي تستحق أن يكشف جانبها الجميل وإن كانت قاسية جدا وذات سلبية مطلقة لدى عموم الناس. فكما أن كل معادلة رياضية قد يكون لها حل أو أكثر وقد لا يوجد لها حل، فإن الموت يمكن أن يعتبر كمعادلة بدون حل، وخاصة إذا ما اعتبرنا ان الموت هو الخط الحاسم والمرحلة النهائية لأي كائن حي يتنفس ويتعايش. إن البحث في الموت يوازيه البحت في الحياة، والسعي لاكتشاف الحياة يقابله فقدان الأحبة، فكثير ما تربط الحياة أو الموت بالألم وبالمعاناة، فالولادة والموت والمرض والحزن كلها مصدر للآلام، فالبحث في الموت هو انتصار للحياة ومحاكمة لأخطاء الإنسان. وبالتالي، فالاعتماد على التعريف المطلق للموت الذي يبتعد عن كون الموت رحمة ونعمة وتطبيقا للعدالة الإلهية، يحرم الإنسان من معرفة معاني الموت الزاخرة و التي يجب السعي وراء كشفها. إن التفكير في دلالات الموت ومعانيه يصطدم -في الواقع- بعائق الخوف من الموت عند عموم الناس الذين يأخذون موقفا لاشعوريا إزاء الموت وكأنه لا يعنيهم أبدا. فهم غالبا ما يواجهون خوفهم من الموت برؤية فلسفية قوامها أنهم يعيشون حياتهم، وعندما يأتيهم الموت فهم هنا وهذا قدرهم ومصيرهم. وهكذا فهم يعيشون -في أغلب الوقت- بعيدين عن هاجس الموت عبر رؤية تضع فكرة الموت على هامش اللامبالاة التي تسجل نفسها في أعماق اللاشعور أو العقل الباطن عندهم. فهم طوال الوقت يفكرون في مشاريعهم وفي حياتهم ومتطلبات وجودهم وفي كل شيء مستبعدين فكرة الموت وهاجسه، فالأنا تتجاهل الموت وترفض وجوده في الأصل. وغالبا ما يعيشون ويسلكون ويتصرفون في واقع الأمر وكأنهم يعيشون مرحلة من الشباب تتصف بالديمومة والاستمرار كما أن الموت لا يعنيهم! ومن يموت فهذا قدره، وهم عليهم أن يعيشوا للحياة ويبتهجوا بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. إنه استمتاع بالحياة وهروب من الموت، كما هو الحال بالنسبة للمغامرين، مثلا، الذين يقولون : "لنستمتع بالحياة ونهزأ بالموت، فالموت لا يعنينا وليس لنا، إنه دائما للآخر ومن نصيب الآخر". ونجد هذا الواقع مكرسا بشدة في المجتمعات الغربية، على منطق ما يسمى ب "فن الحياة". فعلى عكس المجتمعات، كالميكسيك مثلا، التي تستفيض شعبيا في تداول مفهوم الموت، بل وتحتفل به عبر مهرجانات سنوية، تكاد تختفي كلمة الموت في مجتمعات، كفرنسا وبريطانيا وأمريك مثلا. فقد طورت الحضارة الغربية آليات متنوعة للفصل بين الإنسان وبين حقيقة فنائه المحتوم، موهما إياه أنه سيبقى شابا إلى الأبد، وأنه يتوجب تجنب الحديث عن الموت مع الأطفال وإبعاد كبار السن عن الأنظار والأذهان عبر وضعهم في دور المُسنين. ختاما، يمكن القول أن الموت يشكل هاجسا وجوديا للإنسانية عموما وللكائن الإنساني خصوصا. وإذا كانت الحياة تمثل الهبة الأولى التي منحت للإنسان، فإن الموت هو العطاء الأخير الذي يقدم له، فلا تكتمل حياة من غير موت، لأنه في الموت تكمن حكمة الحياة، ولأن الحياة نفسها تفقد معناها من غير الموت بوصفه نقيضا يمنحها معناها ودلالتها.