في الكشف عن عوالم المسرح تتجلى بنياته المتعددة،وأشكال تعبيره المختلفة وآليات عرضه المتباينة. واقع رافقه بالتحليل العديد من الباحثين والمنظرين في محاولات لحرص معنى الفرجة المسرحية في صيغ تعبيرية ومستلزمات الأداء بإبراز ما يميزه في التعبير العميقعن تجليات الواقع في مختلف تمظهراتهالحياتية وتفاعل مكوناته. في مؤلفه الأخير « دراسات نقدية في المسرح المغربي « الصادر عن الهيئة العربية للمسرح، يقدم الأستاذ محمد فرح صورة موجزة عن بعض الأطروحات النظرية التي واكبت التجربة المسرحية العالمية والتي ارتبطت بما عرفته المجتمعات من تطور اجتماعي وثقافي، وما رافقه من تحولات على أكثر من مستوى. فكان أن امتد التحليل إلى البنية اللغوية في صيغها المختلفةوطبيعة العلائق المتعددةالتي تحقق الجملة الإبداعية. كل ذلك صاغه المؤلف في سياق اعتماده كخلفية لإبراز ما ميز ويمز التجربة المغربية والعربية على مستوى الابداع المسرحي منذ الاحتكاك الأول بالأشكال التعبيرية الوافدة، إلى تحقيق المجال التعبيري الخاص وما ساهمت به التجربة المغربية على وجه التحديد في مجال الابداع المسرحي. وذلك من خلال عرض مستفيض لثلاثة تجارب مسرحية ميزت اعمال مبدعين مغاربة، بصموا بشكل لافت المسار المتعدد للمسرح بالاشتغال على الموروث الثقافي المغربي والعربي في أشكاله المتنوعة ومعطياتهالدلالية. وذلك للتأكيد على أن المجال ليس وافدا أو مكتسبا بالاحتكاك مع ثقافة الغرب التي سعت إلى تحديد سياقات الحياة ومجالات التعبير عنها. وبصرف النظر عن أي نقاش في إبراز حدود الخصوصية ومجالات التأثير والتأثر، فإن الإقرار بالتميز والاختلاف يجد كل مبرراته في التجارب الحياتية المتباينة في مسارات الشعوب، بل أنه واقع في ذات البنية المجتمعية وسياقاتها الخاصة. في التقدير العام للتراث تتباين القراءات وتعكس زاوية النظر التي يعتمدها كل طرف. حصر الأستاذ محمد فرح في عرضه لنماذج المبدعين، الذين اعتمدوا التراث الثقافي والمجتمعي كخلفية إبداعية في تحقيق نوع من التفاعل من خلال المشترك الفكري والثقافي، كصيغة للتواصل بهدف التعريف بمقومات ومميزات ما يشكل إرثا جماعيا، يؤكد خصوصية الانتماء لذات الثقافة والسلوك المجتمعي هكذا قدم كل من الطيب الصديقي والمسكيني الصغير إلى جانب عبد الكريم برشيد، دون غيرهم من المبدعين المغاربة الذين تناولوا جوانب من التراث، معتمدين قراءتهم الخاصة لنماذج مختلفة، في اعتماد التراث كخلفية إبداعية لتبليغ رسائل تباينت في توجهاتها وأن تماثلت رغبتها في الكشف عنما أنتجته تجربة خاصة لمجتمع بشري بكل سمات تعدده. فإذا كان النهل من التراث الخاص ميزة بشرية فإن توظيف معطياته يعكس زاوية نظر وفهما خاصا لما يمكن أن يشكل مدخلا لحضور يحمل الكثير من الدلالات والاحالات على تجربة ذات سمات ميزت سياق تطورها وأبعاد تجلياتها. فما بين العرض المجرد لكل موروث ثقافي في أشكاله المتعددة، واعتماده كوسيلة لإرسال إشارات وإيحاءات لإسناد تصورات خاصة وتقوية مواقع حول المسار المجتمعي وأبعاد تحولاته، يكمن اختلاف الرؤى وتتباين الغايات. فإن ما سعى إليه الطيب الصديقي في عروضه التراثية،بغاية تقديم نماذج إبداعية في حقبة من زمن خاص، كفرجة تورثها الأجيال بإيقاعاته متباينة، هو غير مقاصد المسكين الصغير في توظيف النماذج المجتمعية في سياق تاريخي محدد وخصوصية معطياته، ليحيله على الواقع المعاش في تقاطعه مع ماضيه، قصد التأثير في خط تطوره. وهو في ذلك غير عبد الكريم برشيد الذي يستأجر فقط العوالم التراثية ونماذج من شخصياتها دون الخوض في السياقات المجتمعية في تأطير رؤية خاصةتسند مواقف وأراء مما هو قائم وما يمكنه تحديده كأفق مرغوب، فالإشارة لا تعني التفعيل والتفاعل. وهنا مكمن الاختلاف في التعاطي مع التراث اللامادي على مختلف مستوياته. فالطيب الصديقي استعرض نماذج في حقيقة مضمونها بعد أن اختار شكلا ابداعيا يضيف جمالية للموروث ويبرز خصوصيته. في حين اعتمد المسكيني الصغير رموزا تراثية كإشهاد مشترك لتبليغ رسائل لمن يعنيه الأمر، والحث على تمثل القدوة لتحقيق الفعل المؤثر لتصحيح مسار. في احتفالية عبد الكريم برشيد يشار إلى شخصيات تراثية في سياقات مختلفة لا تحيل على محيطهاوعوالمها الخاصة. لعل أساس ما سعى إليه الأستاذ محمد فرحفي مبحثه الرصين، هو تقديم عناصر من التجربة المسرحية المغربية دون التفصيل فيما يعتبر تباين أو تناظر في القراءات بين مختلف الاجتهادات التيأغنت الفعل الادبي والفني ووسعت آفاق العمل الإبداعي بما ساهم في تأكيد الحضور المتميز للمسرح المغربي على المستوى العربي خصوصا. لذلك كانالاقتصار على عناصر من أبرز المساهمين في تطوير التجربة المغربية،هي في تقديره أكثر حضورا وتميزا في مجال متعدد الاسهامات، وتعكس الخصوصية والتأصيل لفعل ابداعي بمميزات تأكد التفرد المرتبط بسياق تاريخي ومجتمعي بكل مكوناته. المؤلف الجديد للأستاذ محمد فرح هو نافذة أتاح من خلالها فسحة للنقاش وحصر مميزات التجريب وإبعاده المختلفة، وتعميق البحث في مكونات المسرح المغربي وما يميزه على الصعيد العربي، خصوصا ومناسبة الإصدار انعقاد الدورة الثالثة عشرة للمهرجان العربي للمسرح بالدارالبيضاء، تحت اشراف الهيئة العربية للمسرح وبدعم من وزارة الشباب والثقافة والإعلام المغربية.