يبدوأن مسلسل التصعيد الاجتماعي بين الحكومة والنقابات بفرنسا لم ينته بعد، فأمام الصعوبات على صعيد الإمدادات بالوقود، حذرت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن عمال قطاع النفط المضربين من أن الحكومة قد تستخدم مجددا الصلاحيات، التي يخولها القانون، لإجبارهم على العودة إلى العمل لتخفيف شح الوقود الناجم عن الحركات الاحتجاجية والإضرابات، التي تمس بعض مصافي البترول ومراكز التخزين. هذا التهديد يعكس حالة التوتر الكبير بين الحكومة والنقابات، فرغم توقيع النقابات الكبرى «الاتحاد الفرنسي الديموقراطي للعمل» (سي اف دي تي) و«الاتحاد العام للأطر – الاتحاد العام للكوادر» (سي اف او – سي جي سي) على اتفاق لرفع الأجور مع شركات تكرير وتوزيع البترول «طوطال انيرجيز»، فإن استمرار إضراب نقابيي الاتحاد العام للعمال (السي جي تي) جعل الاضطراب يستمر في سوق التوزيع ويضر بالعديد من القطاعات سواء النقل، الصحة والتعليم، أو المزارعين والمقاولات التي تجد صعوبة اليوم في الحصول على المحروقات. وبالموازاة مع هذه الإضرابات تظاهر عشرات الآلاف من الأشخاص، الأحد في العاصمة باريس، بدعوة من اليسار المعارض للرئيس إيمانويل ماكرون، احتجاجا على غلاء المعيشة بفعل الارتفاع الكبير للتضخم الذي تشهده فرنسا. ونظمت المسيرة بدعم من جمعيات واتحادات نقابية احتجاجا على غلاء المعيشة والتقاعس في مجال المناخ، وبلغ عدد المشاركين فيها 140 ألف شخص وفق المنظمين و30 ألف شخص وفق الشرطة. ولم تسجل خلال التظاهرة صدامات خطيرة، إلا أن بعض الواجهات الزجاجية تعرضت للتخريب على هامش المظاهرة كما سجلت مواجهات تم نقل بعضها على وسائل الإعلام. وقد تدخلت قوات الأمن عدة مرات مستخدمة الغاز المسيل للدموع بعد تعرض عناصرها للرشق من طرف بعض المتظاهرين. وعرفت هذه المسيرة مشاركة عدد كبير من نشطاء «السترات الصفراء» والمتقاعدين، وعدد من المتضررين من ارتفاع الأسعار وحالة التضخم التي تعيشها فرنسا. وتأمل المعارضة اليسارية بالبرلمان، التي تأخذ المعركة على المستوى التشريعي لتعطيل التصويت على مشروع قانون موازنة هذه السنة بالبرلمان، الذي لا يتوفر فيه إيمانويل ماكرون على الأغلبية، وهو الأمر الذي سوف يجبره، لا محالة، على تجاوز البرلمان واستعمال الصلاحية التي يمنحها له الدستور، وهو قانون 3-49، والذي يسمح باعتماد هذه الموازنة دون العودة إلى البرلمان. لهذا تعول المعارضة على الشارع وعلى النقابات وعلى النزاع القائم حول إضراب عمال المصافي، الذي بدأ في نهاية سبتمبر الماضي من أجل إضعاف الحكومة. زعيم المعارضة الفرنسية جان لوك ميلانشون اعتبر أن «التجمع الكبير، نحن من بدأناه بهذه المسيرة التي تكللت بنجاح كبير»، مشيرا إلى «تشكيل جبهة شعبية جديدة ستتولى السلطة في البلاد عندما يحين الوقت». ومن خلال هذا التصريح يظهر أن المعارضة تصبو إلى إسقاط الحكومة التي لا تتوفر على أغلبية. كما تعول المعارضة على «الإضراب العام» المقرر الثلاثاء المقبل، مشيرا إلى دعوات أطلقت في هذا الاتجاه خصوصا في قطاع النقل والوظائف العامة. وتراقب الحكومة «عن كثب» الإضرابات والتحركات الاحتجاجية، التي انضافت إلى الجبهة التشريعية، ومحاولة المعارضة التي تتشكل من أحزاب اليسار، التي تنضوي تحت راية التحالف الشعبي بالإضافة إلى حزب اليمين «الجمهوريون» وحزب التجمع الوطني، الذي يمثل اليمين المتطرف. هذه المعارضة المتباينة الأطياف في حالة تحالفها يمكنها أن تحجب الثقة عن الحكومة. هذه التحركات جعلت ايمانيول ماكرون يهدد باللجوء إلى حل البرلمان الذي يخوله له الدستور ، واللجوء إلى انتخابات مبكرة، وهي مغامرة لا أحد يتكهن بنتائجها، هل سيتمكن ماكرون من الحصول على الأغلبية التي لا يتوفر عليها في المؤسسة التشريعية أم أن المعارضة اليسارية ستتمكن من تحقيق الأغلبية أم أن اليمين المتطرف هو من سيحصل عليها، لهذا فإن حل البرلمان يبقى هو الآخر مغامرة سياسية لا أحد يمكنه التكهن بنتائجها. في ظل هذه الظروف، التي تتميز بالتوتر الاجتماعي والإضرابات، هل سيدخل الرئيس ماكرون تعديلا على نظام التقاعد في الأشهر القليلة المقبلة، كما وعد بعد فوزه بولاية رئاسية ثانية، ومن المفترض أن يدخل التعديل حيز التنفيذ قبل نهاية الشتاء، لكن التطورات والتوترات الاجتماعية التي تشهدها فرنسا ورهان القوة بين النقابات والحكومة حول الأجور ستكون مؤشرا كبيرا لنهجه المقبل، هل سيستمر في وعده أم أنه سيؤجل ذلك إلى ظرفية سياسية تكون في صالحه، والإضراب، الذي دعت إليه بعض النقابات، يوم الثلاثاء المقبل، سيكون ترمومترا حقيقيا بالنسبة للنقابات لمعرفة قدرتها على التعبئة في ظروف الغلاء التي تعرفها فرنسا، وكذا بالنسبة للحكومة التي سوف تقرأ نتائجه بإمعان، هل يمكنها الاستمرار في الإصلاحات خاصة إصلاح نظام التقاعد، أم تؤجل ذلك إلى موعد آخر أو إلى أغلبية سياسية قادمة.