قبل أن تطيح الحيوط منذ مشاهدتي لأعماله السينمائية الأولى، أحسست أنني أمام مخرج سينمائي مغربي، يتقن لعبة الحكي السينمائي، بلغة بصرية سلسة وجذابة وإنسانية، «تأسرك» طيلة عمله السينمائي المقدم. حكيم بلعباس، صوت سينمائي مغربي إنساني آت إلى السينما من بابها «الشرعي». لم يقفز بالمظل ليعتدي على حرمة المعرفة السينمائية الجمالية، كما فعل ويفعل العديدون، وبإيعاز من «بياعين عايشه» كما نقول في ثقافتنا الشعبية المغربية. حينما تنبش في ذاكرته المكانية والعائلية والثقافية والعلمية واللغوية، الخ، تجد أنه خلاصة «حتمية» لما هو عليه اليوم. ما كان عليه إلا أن يكون سينمائيا وبامتياز. تربى في حضن أسرة شعبية متعددة الأفراد ومنها تشرب العديد من الثقافات الشعبية، زد على هذا كونه سليل دروب مدينة بجعد ذات البعد الروحي/الصوفي والشعبي، دون نسيان كونه تربى في قاعة سينمائية، لاسيما وأبوه كان يملك قاعة سينمائية بمدينة أبي الجعد. طبعا، وهو عاشق للغة الجمال والفنون. متحكم في أربع لغات (حسب علمي المتواضع) وبكل ما تحمله حمولاتها الثقافية والفنية والإنسانية الباطنية. العربية والفرنسية والانجليزية واللغة العامية المغربية الشعبية. إذ أعتبر شخصيا، تحكمه في خبايا اللغة العامية المغربية الشعبية، من العوامل الرئيسية التي خصبت مخياله وبصيرته ومخزونه البصري السينمائي الشعبي والانساني، وهو ما جعله، ومن خلالها، يصول ويجول في بقية اللغات الأخرى وما تحمله من حلم وجمال وقيم إنسانية. وفق هذه العناصر السابقة والمختزلة، من الممكن القول، إن حكيم بلعباس، صوت سينمائي محلي/شعبي/ إنساني. مميزات ثلاثية أكسبته صفة إنسانية/عالمية أفلامه. لأنه أدرك أن أجمل طريقة للوصول إلى العالمية، أن تحكي واقعك باعتباره تخييلا جميلا، لا أن تحكي تخييلك باعتباره واقعا (وبس). كلما اقتربت من عوالم حكيم بلعباس السينمائية، تضمن لنفسك التماهي بعوالم إنسانية جميلة. توقف زمنك الشخصي، وتستحضر ما كنت عليه سابقا. أعماله جذابة وسلسة وتدغدغك في عمقك وتجعلك تحت رحم شرطه الانساني الذي يحف ويلف كل أعماله. هي أعمال، وبجانب أخرى قليلة جدا لبضعة مخرجين آخرين، ما قدمته السينما المغربية لنفسها لتكون صورة عن هذا الانسان المغربي الذي له محليته وخصوصيته في فهمه لذاته وللآخر وللعالم ككل. وفق ما سبق، من الممكن قراءة أعمال حكيم بلعباس. سينمائي نحت لنفسه أسلوبه الخاص في التعبير الفني والجمالي والبصري. فهو يشبه نفسه ولا غير. من هنا تستحضرني قولة عباس محمود العقا رحمه لله، حينما قال ما معناه، كن أنت ولا تكن غيرك ولا تطمس نفسك. أفلامه، سنؤرخ بها وجودنا الثقافي المغربي الشعبي. فماذا لو لم يكن هذا المخرج وبضعة مخرجين مغاربة قلائل؟. ربما لبقينا أيتاما تنهشنا الرداءة التي تحيط بنا هنا وهناك؟. حينما عرض فيلمه الجديد «لو كان يطيحو لحيوط»، حجزت لنفسي مقعدا أمام الشاشة الكبرى. هكذا هم المخرجون الذين يمارسون عليك وبلغة الفن والجمال، «سلطتهم» البصرية، ليجعلوك، تحضر لمشاهدة أعمالهم. وهذا ما كان فعلا. منذ الحكاية الأولى (الفيلم عبارة عن ثمان عشرة حكاية)، تشعر أنك بين يدي زمن طفولي. أو على الأقل بين زمن لم يعد معاشا اليوم. رائحة الطفولة والماضي بين يديك. في نقد زمن الطفولة، هو زمن فلسفي وجداني شعري، الخ، يجعل من يحتمي به، راغبا في البوح وقول لا لزمن الحاضر، حيث الرداءة عنوان كبير له. حاضر بضع وضبع الحياة. هو هروب مرغوب فيه، بل عبره يتمدد الحلم وحلاوته حد جعلنا نتماهى بالفيلم، وتكون النتيجة أن هذا الفيلم هو ملك جماعي إنساني لأجيال محددة. «حيوط» عديدة، أسقطها، المخرج فينا ونحن نتابع عمله الجديد هذا. سلمنا لزمن الطفولة/الماضي ودهاليزه وجعلنا نقترب من سؤال الموت/الحياة. هذه هي الأفلام التي تحمل في جوفها حلاوة شبيهة بحلاوة العسل الحر. لا تشبع منه ومن رائحته وفوائده، مقابل العسل الاصطناعي المغشوش الذي كلما تناولت منه القليل جعلك تصاب ب»سريرة» وبالتالي تصبح مهددا في سلامة حياتك، وهو ما تفعله الكثير من الأيادي التي اعتدت على خطاب الصورة، في زمن تكنولوجي وفر تقنياته للجميع. ثمان عشرة حكاية منفصلة ومترابطة في الوقت نفسه. موضوعات متعددة تجمعها ثنائية الموت/الحياة، أو العدم/الوجود، أو الألم/الأمل. شخوص الفيلم، العديد منها أناس عاديون، بل هناك شخوص آخرون كالمكان والزمن والألبسة والموسيقى والنور والضوء. لنجمع كل هذا في كون الصورة كانت سيدة الفيلم. خطاب بصري شعري جمالي، يجعلك تجمع رجليك الممدة احتراما لمن أبدع هذا العمل. بل تجعلك تعتز بكونك أمام عمل فني بصري جمالي إنساني، ينتشلك من زمن الترامي على حرمة السينما، في زمن تفريخ «المخرجين» دون امتلاكهم لحس بصري ولا نظري ولا فلسفي ولا جمالي، وفي زمن السطو على الفنون، لأن العصر عصر التفاهات، و»قتل» «الشرعية» الفنية لتوليد «الخراب» الفني في أفق «قتل» ما تبقى فينا من حس نبيل. ومن، هنا، تسهيل بيعنا لمن لا يرغب في أن نحافظ عل خصوبة ذاكرتنا الانسانية التي وحدها تحمينا من ذل «عولمة»، همها الأول والأخير تعليب الحياة وبيعها وانتشال كل الجذور/العروق المتبقية في الإنسان كإنسان. طيلة حكايات هذا الفيلم، تشعر بنفسك أنك بين ممرات وجدانية ومكانية وزمنية وفنية، بناها صاحبها بلغة الجمال. بناها، ليعلن فينا وبنا ولنا بأن الحياة تكمن في تلك التفاصيل البسيطة، والصغيرة التي قد تخرج من أفواه أمهاتنا أو جداتنا أو جيراننا أو من خلال أفواه البسطاء الذين يعيشون في الهامش. هامش به من الممكن خلخلة وجداننا، ليدفعنا نعيد السؤال، ماذا لو مات ما تبقى منها فينا؟. المكان في هذا الفيلم، لم يكن مجرد مكان. بل كان ولوحده شامخا يسائلنا في صمت كيف هي أمكنة اليوم ؟. واطرح السؤال نفسه على زمن الفيلم وشخوصه وألبسته ونظراته ورقصاته الجريحة وصمته وموسيقاه وحمقه وموته وحياته. ألم أقل إن أعمال حكيم بلعباس، تمنحنا كنقاد، حلاوة التأويل، وتجعلنا ننجذب بل ونجذب، بدورنا، على إيقاعاتها، كما جذبت الأم في عرس بنتها حينما علمت بموت أمها، فتداخلت صورة الموت بالحياة (تلبس الفرح بالحزن) في مشهد هز كيان المتفرج. لو كان يطيحو لحيوط، حبة ضمن عقد ينظمه صاحبه، كما ينظم الرواي الشعبي حكاياته، أو كما كانت تنظم جدتي رحمها لله، عقيقها بشكل منتظم، حيث قيمة الحبة الواحدة ليست في ذاتها بل حينما تنتهي من نظم عقيقها، ليسر الناظرين في الأخير، وتتهافت عليه الحفيدات ليضعنه في عنقهن ويتباهين به في مناسبات عديدة. يبقى صوت حكيم بلعباس السينمائي، صوتا كسب لنفسه قيمته الجمالية المستمدة من حكايات البسطاء. حكايات بصرية، تجعلك تخرج من السؤال هل نحن أمام فيلم وثائقي أم روائي؟. وليكون الجواب، نحن أمام فيلم جميل لحكيم بلعباس.