اتفاقية المغرب والنمسا-هنغاريا سنة 1783م يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني. وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة. إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى. جد عنصر مهم في العلاقات المغربية النمساوية سنة 1194ه / 1780 م، فقد حرر القنصل العام النمساوي الموجود في قادس مذكرة إلى بلاده يقترح عليها إبرام معاهدة مع المغرب على نحو ما فعلته الدول الأوروبية الأخرى وذلك إذا كانت النمسا ترغب في سلامة تجارتها البحرية بالمنطقة. وبهذه المناسبة أخبر القنصل النمساوي بلاده بأن العاهل المغربي سيدي محمد بن عبد الله قد قام بمبادرة رائعة من جانبه، وذلك بقراره إرسال سفارة هامة إلى فيينا تستهدف ثلاثة أغراض. فهي تهنئ الإمبراطور جوزيف الثاني من جهة، وتقدم له من جهة ثانية التعازي بمناسبة وفاة والدته الإمبراطورة ماريا تيريزيا ( Marie – Thérèse) كما أنها من جهة ثالثة تدعو الإمبراطور لعقد اتفاقية ثنائية بين الطرفين. ولم يفت القنصل المذكور أن يبرز في تقريره أن المغرب هو الدولة الوحيدة التي استعصت على الباب العالي، وأنه لابد من الاهتمام بالسفير المغربي الذي يوجد في طريقه إلى فيينا، وتخصيصه بأنواع الاحتفال لكونه يمثل ملكا يضاهي سلطان تركيا. ومن الطرف أن نجد ضمن أعضاء البعثة جوقة موسيقية اعتبارا ربما لما بلغ للعاهل عن الموسيقي النمساوي موزار. وهكذا تم استقبال السفير المغربي من طرف الإمبراطور يوم 28 فبراير 1783 وأخذ له رسم ملون جميل أثناء استقباله. وقد شارك في المفاوضات من الجانب النمساوي Von Bihn والمكلف بالعلاقات الخارجية المدعو Bernados di Inich وتوصل الطرفان إلى اتفاق تم التوقيع عليه يوم 17 أبريل 1783م. تجدر الإشارة أن النص العربي لهذه الاتفاقية محفوظ في أرشيف الدولة في فيينا ، وذلك على اعتبار أن الاتفاقية تتضمن نسختين أصليتين الأولى حررت باللغة العربية موقعة من طرف ممثل الإمبراطور والثانية حررت باللغة اللاتينية تحمل توقيع محمد بن عبد الملك. وقد ترجمها إلى اللغة الفرنسية لوي برونو ونشرها جاك كايي، ملحقا لمقالة خاصة بالسفارة النمساوية إلى المغرب. ثم أعاد نشره في مؤلفه :Caillé Jacques, Les Accords internationaux du sultan sidi Mohamed Ben Abdellah ( 1757 – 1790), Librairie de Droit et de Jurisprudence,1960.pp.246-249.. ونص الاتفاقية باللغة الفرنسية: الحمد لله وحده رسائل ودية وردت من أكبر السلاطين أوغوست جوزيف الثاني إمبراطور روما وجرمانيا والقدس والمجر وبوهيميا ودلماتيا وكرواتيا وسلوفينيا وغاليس ولودوميريا والدوق الأكبر للنمسا ودوق بورغون واللورين المبجل أمير توسكان وميلان وبارم وكونط هبسبورغ وفلوندرا وتيرول. الشريف أمير الأمراء سيدي محمد بن عبد الله بن سيدنا إسماعيل سلطان المغرب وفاس وسوس ودرعا وتافيلالت وسلطان المغرب أرسله السلطان سفيرا المحبوب والمحترم القائد سيدي محمد بن عبد الملك باشا طنجة . يخبر هذا الأخير شفويا وصوله إلى إقامة جوزيف الثاني وقدم له رسائل اعتماده سفيرا ورغبة السلطان في إقامة علاقة بين البلدين تسودها الموافقة والرضا إذ شاء الله سرا وعلانية قد بعث لتوقيع اتفاقية سلم. رد عليه فخامة الإمبراطور بمودة كبيرة أنه يرغب في تحقيق السلم التام والصداقة الصادقة والدائمة وأن يسود م بين الشعبين السلم في علاقات التجارية برا وبحرا. أمر الإمبراطور استكمال اتفاقية مطابقة لمشاعره. يمثل باسم الإمبراطور المميز بين (Bihn) مستشار الكتابة والمكلف بالعلاقات الخارجية السيد Bernados di Inich من جهة والسفير من جهة أخرى. وبعد مناقشة اتفقنا على البنود التالية للاتفاقية. شروط عقدها من ناب عن سيدنا المقدس بالله مع جنس النبريال في تاريخ 1183. * الشرط الأول إن رعية السلطانين يتعاشرون على وجه المواصلة والموافقة لا يكون بينهم اختلاف في البحر والبر و من احتاج إلى مواساة صاحبه يواسيه مثل الأصحاب. * الشرط الثاني إذا تلاقى مركب البرزكان مع القرصان وأحب القرصان تفتيش الكاغد من البرزكان لا يرسل إلا اثنين في فلوكة ينظران الباسبرط. * الشرط الثالث إذا اجتمع قرصاننا مع برزكان الأنبلادر يظهر له باسبرط في المركب والناس في الفلوكة ولا يطلع أحد للمركب ليلا لفسد له الكرنطينة * الشرط الرابع أن لا يفتش باسبرط إلا القرصان حين يتلاقى مع البرزكان ويقابلون القطع على ما هو معلوم. * الشرط الخامس إذا ألقت الريح مركبا لنا إلى مراسهم أو ساحلهم يكون كل ما فيه محفوظا مأمونا ويقف معه أهل ذلك المحل و يعطونه كل ما يحتاج إليه وإذا اسلم ذلك المركب واحتاج إلى بعض الحوائج يقضونها له حتى يسافر مأمونا وكذلك إذا حرث مركبهم بساحلنا وكانت لهم به سلعة لم يرد بيعها في بلدنا وأراد ردها لبلده لا يلزمه شيء من الأعشار. * الشرط السادس أن لا يأسر أحد الجانبين من رعية الآخر أحد وإن وجد أسير في مركب العدو لا يأخذه هو ولا سلعته بعد ما يثبت أنه من رعية أحد الجانبين ولا يطلب أحد منهما صاحبه بقليل ولا كثير. * الشرط السابع أن تجار الأنبلادر يدخلون لأي مرسى أرادوا من مراسينا وتجارنا يدخلون لمراسيهم كذلك وقائد المرسى يراعي التجار كما يراعي غيرهم ويبيعون ويشترون ولا يطالبون بزيادة على العادة في الكمرك. * الشرط الثامن إن سلعة النابريال الواردة في مراكبهم أو مركب غيرهم لمراسي سيدنا يدفع عليها العشر كاملا مثل ما يدفع أجناس النصارى وإن لم يرد إنزال سلعته فلا يعطي شيئا. * الشرط التاسع أن قونصو الأنبلادر أو نائب القونصو يكون مكرما وداره محترمة ويعلق سنجقه كما يعلقه القنصوات وإذا وقع خصام بين أناس من جنسه مع بعضهم بعضا فالقونص الذي يكون في البلاد هو يفصل بينهم. * الشرط العاشر إذا كانت كيرة مع المسلمين كلهم ولو كان أجناس النصارى كلهم كيرة مع المسلمين فالنابريال يبقى في الصلح المذكور وإن كانت لسيدنا كيرة مع جنس آخر وللنبريال كيرة مع جنس آخر يمنع أحد الجانبين الآخر من المسير والتجارة في بلاد عدوه. * الشرط الحادي عشر إذا انحرف هذا الصلح وكان بيننا وبينه حرب فلا يترامى أحد الجانبين على الآخر إلا بعد ستة أشهر وإذا كان أحدهم في بلد الآخر يكون مامونا في نفسه وماله حتى يرجع لبلده بعدما يموت ستة أشهر ولا يضيع له شيء من ماله في بلد الآخر بموجب شرعي. * الشرط الثاني عشر الصلح الدائم على هذه الشروط لا يفسده أمر يحدث بعده بل فيه زيادة ولا نقصان. يسلم السفير المفوض للإمبراطور النص الدبلوماسي المحرر بالعربية والموقع من طرفه. بموجب السلطات المخولة إلي أعطيه النص المحرر باللغة اللاتينية والموقع بخط يدي ومختومة. ويجب الحفاظ على ما تم الاتفاق عليه، يوم 17 أبريل 1183 م الموافق 12 جمادى الأولى 1197 ه ( صلى الله عليه وسلم). طابع خادم العرش العالي بالله محمد بن عبد الملك . نصت هذه الاتفاقية على " امتياز النمسا على سائر الدول الأخرى، كما عالجت قضايا تحرير الأسرى من الجانبين وهي القضايا التي كانت تشغل بال الملك محمد الثالث، كما اهتمت المعاهدة بحقوق الديوانة، والاحترام المتبادل بين الدولتين، كما أكدت على أن النص اللاتيني للمعاهدة يبقى هو الأصل… ولابد من الإشارة أن السلطان محمد الثالث كان يهدف من خلال الاتصالات إلى تطويق الخلاف بين العثمانيين وبين النمسا. وقد أبرمت الاتفاقية المذكورة في فيينا بتاريخ 14 أبريل 1783 / جمادى الأولى 1197 وصودق عليها يوم 24 من الشهر المذكور من طرف الإمبراطور النمساوي، بينما تمت مصادقة العاهل المغربي عليها في منتصف سنة 1784/ شعبان 1198. ففي سنة 1962 اقترح جاك كايي مقاربة دبلوماسية، بحيث أعطى لنا وبالتفاصيل تسلسل الأحداث للرحلة السفارية المغربية، وقدم معلومات وتفاصيل جزئية ودقيقة لا تقف عند الجانب الدبلوماسي فقط وإنما ترصد أكثر الفعل والممارسة الدبلوماسية التي كان ينهجها السلطان سيدي محمد بن عبد الله. ففي خلال مطلع عام 1782، انتشر الخبر في أوساط القناصلة المسيحيين المقيمين بطنجة أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله قرر بعث سفيرا إلى أوروبا، والذي سيبدأ زيارته بتوسكان ثم فيينا وأخيرا سان بتسبورغ. وقد أسندت هذه المهمة إلى باشا مدينة طنجة السيد محمد بن عبد الملك. ويتضح من خلال بورتريه السفير ( لوحة البعثة السفارية لأحمد بن عبد الملك إلى فيينا) أنه كان في ريعان شبابه ويخلف انطباع رجل منفتح ومهذب. وقد سبق له أن زار عام 1778 فلورانسا بصفته سفيرا ووقع خلالها اتفاقية 8 فبراير 1778 مع الدوق الأكبر لتوسكان. وعند عودته إلى طنجة في 8 ماي 1778، مخفورا بفرقاطتين روسيتين وهي أول مرة ترسو فيها الباخرتين الروسيتين). افتك السفير خلال هذه البعثة اثنتان وستون أسيرا مغربيا وحمل معه هدايا الدوق الأكبر إلى السلطان سيدي محمد بن عبد لله. اندهش السلطان لمثل هذه الهدية، إذ لم يكن يتوقع أنه سوف يفتك أسراه بدون فدية علما بأنه كان مستعدا لافتكاكهم بمقابل معقول. ومن جهة أخرى، وفي عام 1779، وخلال تمرد العبيد حيث تعرض الباشا للتهديد من طرف جيش البخارى والذي نهب منزله، وإذاك التجأ إلى مدينة أصيلا لأسابيع معدودة. 7 تم ترتيب البعثة السفارية لمحمد بن عبد الملك بعناية كبيرة. وخلال منتصف شهر يونيو رستا بطنجة باخرتين، الأولى سويدية والثانية إيطالية (البندقية)، استأجرهما السلطان من مدينة قادس لحمل السفير محمد بن عبد الملك إلى مدينة ليفورن (Livourne) مصحوبا بحاشيته ومحملا بالهدايا والتي تدخل ضمن البروطوكولات الدبلوماسية. وفي الشهر الموالي، تلقى أوراق اعتماده سفيرا إلى فيينا، وفي شهر غشت توصل بالهدايا التي سوف يحملها باسم السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى بلاطات توسكان، والنمسا وروسيا، وهي تشمل على: خيول وسروج وأقمشة حريرية. استؤجرت السفن الثلاث والمخصصة لنقل السفير المغربي إلى فيينا لمدة ثلاثة أشهر ونصف بقيمة عشرة آلاف جنيه للشهر. (تكلفة الاستئجار: 35000 جنيه). وبما أن هذه الفترة سيتم تجاوزها، فقد تنبأ قنصل فرنسا السيد لوي شينيي بصعوبات الآداء وراسل وزيره في هذه الصدد: " يبدو أن بلاط السويد وفيينا على كل حال سيتحملان قسطا من نفقات هذه السفارة ". ففي 15 شتنبر 1782 غادر عبد الملك طنجة باتجاه فيينا رفقة عشرين شخصا من الوفد المرافق له ومنهم الكاتب الحاج محمد المهدي ، وصاحب إسطبل البعثة محمد بن عبد الرحمان، وقبطان من العسكر الشريفي وأربعة ضباط آخرين وكاتب خاص وستة موظفي المخزن وإمام البعثة وأخيرا كثير من الخدم. (*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس)