لم تحظ علاقات المغرب ببلدان أوروبا الشرقية باهتمام المؤرخين، وإنما ظل البحث حولها حبيس بعض المقالات والندوات. ولذلك ظلت معرفتنا بالعلاقات التاريخية التي تربطنا بهذه البلدان لا ترقى إلى مستوى رساخة وقدم علاقاتنا بهذه الدول، ووفق ذلك يأتي هذا الكتاب بخلفية تقديم سرد تاريخي لا يقف عند حدود الذاكرة المشتركة بين المغرب وبين دولة النمسا- هنغاريا ولا التاريخ الدبلوماسي بين البلدين، وإنما يشدد بعمق على العبقرية المغربية في صناعة سياسة خارجية حافظت للمغرب على مركزه الدولي وجعلته لاعبا إقليميا ودوليا متميزا. وبتفكير أعمق وعى صناع القرار السياسي والإستراتيجي في المغرب بأنه إذا ما أرادوا استمرارية الدولة وتحقيق استقرارها والحفاظ على هيبتها على الصعيد الإقليمي والدولي، وأن لا يظلوا رهنا لواقع السياسة الداخلية، أن يقفزوا على الواقع الداخلي، ويوسعوا دائرة انفتاحهم على المحيط الدولي. ووفق هذه الرؤية، راهن سلاطين الدولة العلوية على اتساع العلاقات السياسية والاقتصادية للمغرب مع القوى الدولية المؤثرة، وكان لهذا السلوك السياسي الخارجي أثر في توسيع قاعدته الجيو سياسية. وعلى ضوء ذلك، إن تقييم التحرك السياسي المغربي تجاه النمسا- هنغاريا وفق الأهداف المعلنة من زيارة السفير محمد بن عبد الملك إلى فيينا، والتي كلفت خزينة الدولة مبالغ مالية كبيرة، بغض النظر عن مبلغ 35000 جنيه كمصاريف تأجير ثلاثة سفن والتي ستقل البعثة السفارية برئاسة باشا مدينة طنجة السيد محمد بن عبد الملك. ويضاف إلى ذلك أن إبرام الاتفاقية كلف عشرة أشهر من ذهاب السفير المغربي وعودته إلى طنجة. (انطلاق البعثة من طنجة يوم 15 شتنبر 1782 ورجوعها إلى طنجة يوم 15 يوليوز 1783). ينطلق إصرار المغرب على كسب تحالفات دولية جديدة من فهم ديناميات المنطقة وبنيتها الجيوسياسية وارتباطها بالمصالح. ويمكن تحديد هذه الديناميات بما يلي: راهن السلاطين العلويين على تطويع الساحة الدولية لفائدة الدفاع البرغماتي عن المصالح الوطنية أولا. توظيف الموقع الإستراتيجي للمغرب في إستراتيجية سياسته الخارجية وذلك على اعتبار أن البحر المتوسط أصبح حلبة تجاذب وتنافس بين القوى العظمى. وفي السياق ذاته، أبدا المغرب رغبته في جعل المغرب شريكا جذابا للدول التي لها مصالح بالمتوسط. ومنها دولة النمسا- هنغاريا. بناء شبكة علاقات اقتصادية وثيقة مع دول أوروبا الشرقية مثل النمسا – هنغاريا… فطن المغرب منذ القرن الثامن عشر أن دبلوماسيته مجبرة على رسم سياستها الخارجية من منطلق مغادرتها المدارات القديمة. والتي كان يعتمد فيها على مرجعيات لا تتوافق مع القانون الدولي والمعاهدات الدولية من جهة، ولا هي منسجمة مع طبيعة المسارات الفعلية للوجود والحاجات الوطنية من جهة أخرى. وهنا تأتي إستراتيجية ربط علاقات مع دولة النمسا – هنغاريا من أجل كسب حلفاء من داخل النظام الغربي. وأسفرت التوجهات المذكورة عن انتقال المغرب إلى ممارسة الدبلوماسية المرنة والشجاعة والسباقة إلى الدعوة إلى السلم والصداقة، وكان من شأن هذه السياسة أن أصبح الانفتاح على الخارج ضمن الأولويات الوطنية وذلك من أجل تحقيق الانفتاح الاقتصادي… وبدأت تتضح بوادر ذلك في هذه المرحلة التي يمكن أن تؤسس انطلاقة اقتصادية تجعل حضور المغرب في الاقتصاد الدولي فعالاً وأساسياً نظراً لوعيه بموقعه الإستراتيجي. وتنفيذاً لهذه التوجهات الجديدة، حرص المغرب على اتباع دبلوماسية هادئة وفعّالة مع ضرورة الوقوف بمسافة واحدة من جميع الدول الراغبة في نسج علاقات الود والسلم والتجارة. وفي حدود المسار الأخلاقي والقانوني لنهج السياسة الخارجية. وبذلك مارس سلاطين الدولة العلوية ''الدبلوماسية المرنة والشجاعة''. أو ما يطلق عليه مسمى "المرونة الشجاعة". وبالنظر إلى تعقيدات الساحة الدبلوماسية والتي هي مسرح للابتسام وطلب المفاوضة والدخول فيها، فإن المغرب فهم هذه اللعبة وأتقن ممارستها، وذلك بطبيعة الحال بارتباطها بمدى وعي المغرب بتحدياته الرئيسية. فالمغرب منذ عهد السلطان سيدي محمد بن عبد لله أدرك حقيقة ومعنى اعتبار " الساحة الدبلوماسية مسرحا للابتسام"، حيث لم يتوان في تأكيد حضوره على الساحة الدولية، وربطه لعلاقات صداقة وتعاون مع دولة النمساهنغاريا، إلا دليلا على توجه المغرب نحو الدبلوماسية المنفتحة على التكتلات والتحالفات الدولية والإقليمية، وزيادة الاستثمار في دبلوماسية الوزارة البرانية. إن رغبة المغرب في ترجمة وتجسيد مثل هذه السياسة لا يمكن أن يتحقق ما لم يترافق بعناصر حيوية أخرى. ففي مقدمتها ستسهم سياسة المغرب الاقتصادية في تقوية نسيج علاقاته الدولية، ومسار التبادل المشترك في المصالح والسياسات. كما أن النتائج الملموسة للسياسة الخارجية المغربية تعتمد على مدى تجاوزه للتحديات المنتظرة، ولكنه من ناحية أهم عليه أن يرسم إستراتيجيته على أساس التنبؤ السليم بالأحداث المستقبلية ورسم سيناريوهات افتراضية عقلانية لمصالحه وحلفائه البعيدين. ومن هنا وعى المغرب أنه ليس من مصلحته الانحياز إلى كتل بعينها ضد أخرى. كما جعل دبلوماسيته تبتعد بالبلد عن المغامرات والعواصف المحتملة من خلال النأي بالنفس ولعب دور متوازن يجمع التمسك بالمصالح الوطنية من جهة والتفاعل والمرونة مع المحيط من جهة أخرى. إنها ليست مهمة سهلة أبدا، ولكنها ليست مستحيلة إذ برهن سلاطين الدولة العلوية على تشبثهم بالتخطيط السليم للمستقبل، وتحويل الخصم إلى حليف إستراتيجي. تعد هذه السياسة إحدى أهم فعاليات الدولة المغربية التي عملت من خلالها على تنفيذ أهدافها في المجتمع الإقليمي والدولي. وهدفت إلى تحديد سبل التواصل مع دول العالم الأخرى، من أجل تحقيق أمنها وضمان الحدود والحاجات الأساسية للدولة. ويمكن دراسة موضوع السياسة الخارجية المغربية من منطلق البحث عن سبل تحقيق تلك الأهداف، ليكون العمل محصلة توظيف شروط المكان والإمكانيات بما يتناسب مع حقيقة الدور المطلوب. ولم يكن المغرب في يوم ما عاجزا عن تقديم دواع لعلاقات دولية بناءة عبر إستراتيجية ترمي إلى زيادة الفعالية الأساسية وتوسيع حجم التفاعل والتبادل مع جميع دول العالم. الفصل الأول: العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والنمسا- هنغاريا على إثر قنص المغاربة لسفينة نمساوية في محرم 1175/ غشت 1761 على عهد الملك محمد الثالث ارتفعت أصوات الاحتجاج بإمبراطورية النمسا ضد قلة الأمن بالبحر المتوسط. كان دافع بلاط النمساوهنغاريا هو السير على نهج جارتها السويد والنرويج التي وقعت مع المغرب معاهدة 1763، وكانت وذلك بتقوية تجارة رعاياها في السواحل المغربية. كما أن هذا لا يستثني التفكير في أن رغبة النمساوهنغاريا في ربط علاقة سلم مع سيدي محمد بن عبد الله تحكمت فيها التهديدات المستمرة للقراصنة المغاربة، والتي كانت تعيق بسط تجارتها البحرية. كما يضاف إلى هذه وذاك، رغبة سلطان المغرب في تصفية الأجواء الدبلوماسية مع هذه الإمبراطورية، ولذلك سيفعل السلاطين العلويين هذا التوجه وسيبرمون مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات. الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة بين المغرب والنمسا – هنغاريا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين واكب الانفتاح التجاري للدولة المغربية على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله توسع في علاقاته الخارجية، فسمح السلطان المغربي للأوروبيين بإنشاء قنصليات وإبرام معاهدات سلم وصداقة واتفاقيات للتبادل التجاري، فارتبطت العلاقات الاقتصادية بانفتاح دبلوماسي استفادت منه الدول الأوروبية عامة ودولة النمسا – هنغاريا على وجه التحديد. اتفاقية بين المغرب والنمسا- هنغاريا: 1183/1769/ 1770 . لم يشر أي مصدر مما رجعنا إليه إلى حيثيات وظروف عقد هذه الاتفاقية، وخاصة كتابي: Rivière P-Louis, Traités, Codes et Lois du Maroc,Tome Premier,Accords internationaux conclus par le Maroc avec les puissances étrangères ou intervenus entre ces puissances au sujet du Maroc de 1767 à 1923, Librairie Recueil Sirey, Paris,1924. Caillé Jacques, Les accords internationaux du Sultan Sidi Mohammed Ben Abdellah (1757 – 1790), Librairie Générale de droit et de jurisprudence, 1960. وقد انفرد بإيرادها كناش شروط الأجناس. والنص كما هو واضح يقدم مضمن اتفاقية أطول. وهو فيما يلي: الشروط المعقودة مع النبريال … (1183) (7مايو 1769) الحمد لله وحده مضمن شروط عقدها من ناب عن سيدنا المقدس بالله مع جنس النبريال في تاريخ 1183. * الشرط الأول: إن رعية السلطانين يتعاشرون على وجه المواصلة والموافقة لا يكون بينهم اختلاف في البحر والبر ومن احتاج إلى مواساة صاحبه يواسيه مثل الأصحاب. * الشرط الثاني: مضمنه إذا تلاقى مركب البزركان مع القرصان وأحب القرصان تفتيش الكاغد من البزركان لا يرسل إلا اثنين في فلوكة ينظران الباسبرط. * الشرط الثالث: مضمنه إذا اجتمع قرصاننا مع برزكان الأنبلادر يظهر له باسبرط في المركب والناس في الفلوكة ولا يطلع أحد للمركب ليلا لفسد له الكرنطينة الشرط الرابع مضمنه أن لا يفتش باسبرط إلا القرصان حين يتلاقى مع البزركان ويقابلون القطع على ما هو معلوم. * الشرط الخامس: مضمنه إذا ألقت الريح مركبا لنا إلى مراسهم أو ساحلهم يكون كل ما فيه محفوظا مأمونا ويقف معه أهل ذلك المحل و يعطونه كل ما يحتاج إليه وإذا اسلم ذلك المركب واحتاج إلى بعض الحوائج يقضونها له حتى يسافر مأمونا وكذلك إذا حرث مركبهم بساحلنا وكانت لهم به سلعة لم يرد بيعها في بلدنا وأراد ردها لبلده لا يلزمه شيء من الأعشار. الشرط السادس مضمنه أن لا يأسر أحد الجانبين من رعية الآخر أحد وإن وجد أسير في مركب العدو لا يأخذه هو ولا سلعته بعد ما يثبت أنه من رعية أحد الجانبين ولا يطلب أحد منهما صاحبه بقليل ولا كثير. * الشرط السابع: مضمنه أن تجار الأنبلادر يدخلون لأي مرسى أرادوا من مراسينا وتجارنا يدخلون لمراسيهم كذلك وقائد المرسى يراعي التجار كما يراعي غيرهم ويبيعون ويشترون ولا يطالبون بزيادة على العادة في الكمرك. * الشرط الثامن: مضمنه إن سلعة النابريال الواردة في مراكبهم أو مركب غيرهم لمراسي سيدنا يدفع عليها العشر كاملا مثل ما يدفع أجناس النصارى وإن لم يرد إنزال سلعته فلا يعطي شيئا. * الشرط التاسع: مضمنه أن قونصو الأنبلادر يكون مكرما وداره محترمة ويعلق سنجقه كما يعلقه القنصوات وإذا وقع خصام بين أناس من جنسه مع بعضهم بعضا فالقونص الذي يكون في البلاد هو يفصل بينهم. * الشرط العاشر: إذا كانت كيرة مع المسلمين كلهم ولو كان أجناس النصارى كلهم كيرة مع المسلمين فالنابريال يبقى في الصلح المذكور وإن كانت لسيدنا كيرة مع مع جنس آخر وللنبريال كيرة مع جنس آخر يمنع أحد الجانبين الآخر من المسير والتجارة في بلاد عدوه. الشرط الحادي عشر مضمنه إذا انحرف هذا الصلح وكان بيننا وبينه حرب فلا يترامى أحد الجانبين على الآخر إلا بعد ستة أشهر وإذا كان أحدهم في بلد الآخر يكون مامونا في نفسه وماله حتى يرجع لبلده بعدما يموت ستة أشهر ولا يضيع له شيء من ماله في بلد الآخر بموجب شرعي. الشرط الثاني عشر مضمنه الصلح الدائم على هذه الشروط لا يفسده أمر يحدث بعده بل فيه زيادة ولا نقصان. (*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس)