الجسد النَّسويّ.. مفخّخاً (3) كان دعاة العقل التدميريّ الذين قادوا الإرهاب في العراق، ومنهم أبو مصعب الزرقاوي، قد وجدوا ضالّتهم في النساء كنماذج بشرية من الممكن استثمار كيانها في شحذ همم المقاتلين الذكور من جهة، وتوظيف أكبر عدد من الطاقات النسوية في عملهم التخريبيّ تحت عنوان "الجهاد" من جهة ثانية. ولذلك راحت جماعات هذا العقل تجنِّد النساء على مستويين؛ مستوى التحضير والإعداد يقمن به نسوة معينات، ومستوى التنفيذ الميداني يتم اختيار فتيات معينات له. لا يتحرَّك دعاة العقل التدميريّ إلا وفق رؤيتهم الخاصة، فهم يختارون الفتيات من بيئة مغلقة دينياً مذهبياً واجتماعياً. وعندما ألقت القوات الأمنية العراقية في مدينة بعقوبة، بتاريخ 24 25/8/2005 على الانتحارية "رانيا إبراهيم" أو "رانيا مطلك العنبكي"، كشفت هذه الفتاة عن طرائق ومناهج تجنيدها، وعن البيئة الاجتماعية والدينية التي عاشت في كنفها. فقد كانت والدتها "سعاد الخزرجي"، وخالتها "وجدان الخزرجي"، هما اللتان هيّأتاها للعملية الانتحارية الفاشلة، أمّا والدها فقد قتل في عملية انتحارية نفّذها بمدينة "أبو صيدا" في بعقوبة قبل ذلك التاريخ، بينما يقبع أحد أخوتها في السجن ممّا اضطرّها إلى الزواج من أحد عناصر تنظيم "القاعدة" في منطقتها، وهو الذي رغّبها لخوض غمار تلك العملية الانتحارية بمساعدة والدتها وخالتها. في نوفمبر 2005، كانت العراقية "ساجدة الريشاوي" قد استعدَّت لتفجير جسدها في أحد فنادق العاصمة الأردنية عمّان. كانت ساجدة امرأة ريفية تبيع الخضروات في أحد أسواق المناطق الغربية بالعراق. وقبل العملية الانتحارية التي طلب منها تنفيذها، كانت ساجدة قد تزوَّجت من أحد أعضاء تنظيم "القاعدة" في العراق الذي كان يقوده أبو مصعب الزرقاوي الذي خطط لهذه العملية. وكان أخوة الريشاوي الثلاثة قد شاركوا في عمليات انتحارية ليفقدوا حياتهم، ولتبقى ساجدة وحيدةً حائرةً لا تملك من المعرفة والتعليم ما يؤهّلها لاتخاذ موقف معيّن يبعدها عن طريق الموت هذا، لكنها وجدت نفسها مجبرة على المضيّ قدماً في هذا الطريق، فذهبت إلى عمّان، ورأت بأمّ عينها زوجها وقد فجَّر جسده في ذلك الفندق، في حين لم يحالفها الحظّ لتقوم بالفعل ذاته ولتفشل في العملية، ويتمّ إلقاء القبض عليها، وإحالتها إلى القضاء الأردني. وإذا كانت العراقية ساجدة الريشاوي لم تحصل على فرصة للقيام بعملية انتحارية داخل العراق، ولتذهب إلى الأردن بحثاً عن فرصة لكنها فشلت، فإن البلجيكية "موريل ديغوك/ 38 عاماً" التي انتسبت إلى تنظيم "القاعدة" في أوروبا بعد إشهار إسلامها، حملت نفسها وذهبت إلى العراق في عام 2005. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام تجهَّزت بحزام انتحاري غطى خصرها، وذهبت برفقة أمراء من "التنظيم" إلى منطقة معينة في مدينة بعقوبة شمال بغداد بانتظار عبور دورية عسكرية أمريكية، وعندما اقتربت تلك الدورية نفّذت العملية، ولكن دون أن تقتل أي أمريكي. كانت هذه النماذج النسوية الانتحارية مقدِّمات عملية ليتحوَّل الأمر إلى سياق وأسلوب، وتتمادى تنظيمات القتل والتخريب، ويتمادى دعاة العقل التدميري في توظيف المزيد من النسوة للقيام بعمليات انتحارية في مدن العراق، بعد أن ضاقت سبلهم في "محافظة الأنبار" التي تحرَّرت منهم بصولة من أهاليها الذين وجدوا في مساعي تنظيم "القاعدة" لتجنيد النسوة توجهاً سافراً، خصوصاً وأن أمراء التنظيم بدؤوا يضغطون على الأهالي بتزويج بناتهم القصَّر لمقاتلي التنظيم، وبعد يومين من الزواج تحال العرائس إلى عمليات انتحارية وسط شعور الأهالي أن طريقة التنظيم هذه لا تعدو أن تكون طريقة للاستهانة بالمرأة العراقية، والضحك على ذقون أبناء المجتمع العشائري في تلك المناطق. وكلما ضاقت فرص حصول تلك التنظيمات على النسوة العراقيات والعربيات لتفخيههنَّ، نراها تلجأ إلى ما هو أكثر تعبيراً عن لا أخلاقيات رؤاهم صوب المرأة، ففي إحدى العمليات الانتحارية التي جرت في عام 2008 ببغداد، وظَّف قادة التخريب والقتل والموت إحدى الفتيات من ذوي الحاجات الخاصة، وقال اللواء عبد الكريم خلف، مدير عام العمليات في وزارة الداخلية، إنّ التفجير الذي جرى في "سوق الغزل" المكتظّ ببائعي الطيور والحيوانات المنزلية، نفّذته شابة عمرها 15 سنة وكانت مختلَّة عقلياً. إنّ اللجوء إلى توظيف "الجسد النسوي العليل" في عمليات انتحارية تهدف إلى قتل الناس الأبرياء وقتل الفتاة المختلة عقلياً، لا يعدو أن يكون تدنيساً لكرامة هذا النوع من النسوة اللواتي هنَّ قاصرات عن العقل والإرادة والقرار؛ فأي امتهان هذا الذي يحطُّ من كرامة المرأة، وأية عقلية تدميرية تلك التي تنحدر إلى مستوى رخيص حتى ترمي بالجسد العليل إلى محارق القتل الجماعية. لقد كان عام 2008 عاماً حافلاً بتوظيف النساء في العمليات الانتحارية، ففي وقت تقول فيه إحصاءات وبيانات الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم "القاعدة" وأخواته بأنها جندت نحو 77 امرأة كلها حققت هدفها، قال عبد اللطيف ريان، المستشار الإعلامي لقوات التحالف في العراق: "إن عدد اللواتي نفّذن عمليات انتحارية بأحزمة ناسفة في العراق وصل إلى 49 انتحارية حتى مطلع شهر أيلول/ سبتمبر 2008، مشيراً إلى تنفيذ 27 عملية في عام 2008. إلا أنّ إحصاءات إعلامية تابعت المشهد الأمني في العراق أشارت إلى وصول عدد العمليات إلى أن أكثر من 60 عملية انتحارية حقَّقت الهدف المنشود منها في محافظاتالعراق مثل: الموصل، ديالى، الأنبار، كركوك، بغداد، بابل، كربلاء" (3). يمثل هذا التكليف العدواني لجسديَّة المرأة في العالم العربي امتداداً لواقع التردي الذي أذاق المرأة العربية صوراً من القهر المجتمعي، والفقر الاقتصادي، ومن ثم القهر الأصولي الذي جاء لينقضَّ على موجودية المرأة العربية من خلال تفخيخ جسدها وتفجيره أمام الملأ، وفق منظورات أصولية متطرِّفة تهيمن على المسرح في العالم العربي والإسلامي. الهوامش: 1 – أنظر مقال بيتر بيرغن وبول كروكشانك: الانتحاريات.. واجهة الإرهاب الجديد، "مقال"، جريدة الشرق الأوسط، عدد "10484"، 13 أغسطس 2007. 2 – تقول بعض المصادر إن الشيخ "أحمد ياسين" ما كان يوافق على توظيف النساء في العمليات الانتحارية ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي. أنظر في هذا الصدد مقال "من يقف خلف النساء الانتحاريات؟"، ترجمة: عمار كاظم محمد، عن جريدة "النيويورك تايمز"، مقال إلكتروني. أنظر موقع جريدة "المدى العراقية" الإلكتروني. 3 – أنظر في هذا السبيل: سامان نوح: عراق الغد.. ظاهرة الانتحاريات في العراق نتاج تخلف وفقر أم مقاومة؟، (مقال)، موقع: www.alshahed.free