بعد صراع طويل مع المرض، غادرنا أمس الخميس 24 يونيو، الكاتب والناقد والباحث بشير القمري. وبرحيله يفقد المغرب الثقافي أحد علاماته المضيئة هو الكاتب المتعدد، الساحر صاحب القبعة التي يخرج منها كل شيء حي. بين الأدب والنقد والسينما والمسرح، هطل مطر المبدع الأصيل بشير القمري مدرارا على حقول الثقافة المغربية، حاملا معه رياح الحداثة النقدية كما نظر لها روادها الفرنسيون الذين تأثر بهم في مساره الدراسي والنقدي، مواصلا مسيرة الحفر في المنجز الثقافي المغربي بكل تلاوينه. اشتغل بشير القمري أستاذا جامعيا بكلية الآداب القنيطرة وبكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بالرباط، انضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1976، وظل عضوا عضو بمكتبه المركزي منذ 1996 الى 2004). نشر سنة 1972 بجريدة العلم المحرر، البيان، الاتحاد الاشتراكي،أنوال، القدس اللندنية، أخبار الأدب القاهرية، وبمجلات: فصول ، وعلامات والكرمل الفلسطينية، و»الآداب» البيروتية، وآفاق (اتحاد كتاب المغرب) ،أقلام، الثقافة الجديدة، الزمان المغربي، البديل؟، شؤون (الإماراتية)، الأقلام، آفاق عربية (العراق). صدرت له العديد من الاعمال الادبية والنقدية منها:» المحارب وبالأسلحة» مجموعة قصصية، «حفريات المدن: نصوص» ، «سر البهلوان» نص روائي، «رجعة ليلى العامرية – التنين: مسرحيتان «، «في التحليل الدراماتورجي للنص»، شعرية النص الروائي»، «مجازات: دراسات في الإبداع العربي المعاصر» بالإضافة الى الترجمة. كتب في السياسة والأدب، رواية وقصة، وغرف من معين الترجمة إيمانا منه بأنها رافد مهم من روافد تطوير المعرفة والثقافات، بما تمنحه من إمكانات لتطوير التجارب الإبداعية المحلية، وإغناء الرؤى والمقترحات الجمالية في الكتابة. وبهذه الأسلحة ظل منذ الثمانينات ولايزال، يحارب كل الدخلاء على قلعة الإبداع، ويذود عن حياض الكتابة التي تنتصر للقيم، وللإنسان والجمال. نبرة التمرد العالية في كل كتاباته الإبداعية، نابعة من رفضه الدائم لمهادنة الدرجة تحت الصفر للكتابة، وهي نفس النبرة التي تُلمس في كل مساجلاته، في الادب كما في السياسة وفي الحياة التي عاشها، كدأبه، بكل عنفوان الكاتب وكبريائه الذي لا ينحني للرياح.
هنا شهادات عن الراحل المتعدد الكاتب والناقد والمترجم، عن هذا المتأبي على التدجين بعيون زملاء عاشروه وخبروا صدقه في الكتابة وصداقته في الحياة، في ملف خصصناه منذ سنتين احتفاء بحضوره الإبداعي والإنساني. نجيب العوفي :«المحارب وبالأسلحة» «المحارب وبالأسلحة» عنوان مجموعة قصصية لبشير القمري ، تتحرّك في مزرعة ألغام تيماتيكية وفي خُطوط التّماس مع أسئلة ساخنة . وبشير بالمناسبة في تمَاسّ دائم مع الأسئلةالساخنة ، إبداعية كانت أم نقدية – ثقافية ، أم سياسية – اجتماعية ، أم هي محضُ مناقشات ومُطارحات يومية مع أصدقاء الحياة والثقافة وهم كُثْر .ولكنّهم في النّائبات قليل .وما أخَالُ بشيرا إلا لاهجا بلسان دعبل الخزاعي /ما أكثر الناس بل ما أقلهم / والله يعلم أني لم أقل فنَدا إني لأفتح العين حين أفتحها / على كثير ولكن لا أرى أحداهكذا يبدو لي بشير القمري ، على الدوام ، محاربا صنْديدا شاكي السلاح ، ماضي العزيمة،منتقلا من ساحة نزال وسجال لأخرى .إنّه المحارب الثقافي بامتياز . وبكامل عُدّته وعتاده .فهو ناقد أدبي من عيار ثقيل ، وناقد سينمائي من مؤسّسي وبُناة النقد السينمائي المغربي ،وكاتب قصة قصيرة مجدّد وعلى بيّنة من قواعد الصنعة القصصية ، وكاتب رواية حاذق ،متى استطاع إليها سبيلا ، في زحمة انشغالاته وأنشطته الثقافية المتعددة .وما إن يفِد اسم بشير القمري على اللسان، حتى يفِد معه اسم شقيقه الأكبر الشاعر والمسرحي الحسين القمري . ولا يخالجني شك في أن لهذه القرابة الدموية أفضالا جزيلة غير منظورة على القرابةالأدبية . وإذا كان الحسين قد اتخذ من الشعر شِرْعته ووجهته ، فإن بشيرا قد جعل من النقد والسرد شرْعته ووجهته . والإثنان معا قمران أدبيان من الناظور، يُعدّان من أوائل المؤسسين للحركة الأدبية في تلك الربوع .وما يهمّني في هذه الورقة ، هو إسهام بشير في مجال النقد الادبي المغربي ، وهوهمّنا المشترك وشغلنا الشاغل . ففي هذا المجال أبْلى بشير بَلاء حسنا ، وقدّم للمكتبة النقدية المغربية والعربية بعامة ، أعمالا نقدية وازنة من قبيل «شعرية النص الروائي، في انفتاح النص والقراءة مجازات ، دراسات في الإبداع العربي المعاصر في التحليل الدراماتورجي للنص»، وهي أعمال تتّسم باجتهادات منهجية ونقدية غنية .تحقيبيا ، وللتّحقيب دائما دالّته واعتباره، ينتمي بشير القمري إلى جيل الثمانينيات الذي تلا مباشرة جيل السبعينيات . ويُصنّف مع سعيد يقطين وحسن بحراوي ومحمد أقوضاض وعبد الله شريق .. وأسماء كريمة على الدرب ، كمجددين وداعمين للخطاب النقدي المغربي – الحداثي ، بعد جيل السبعينيات الذي تصدّرته أسماء ادريس الناقوري وعبد القادر الشاوي ونجيب العوفي وإبراهيم الخطيب ورشيد بنحدّو وسعيد علوش وأحمد المديني وعبد الرحيم مودن الخ .وقد جاء بشير وصحْبه في غمرة الحماس للنقد البنيوي – الشكلاني والانبهار بنصوصه وعلاماته . من هنا اتّسمت مقارباته وقراءاته النقدية في هذه الفترة ، بمياسم وبصمات الحداثة النقدية الفرنسية بشكل واضح ، ومع سبق ترصّد وإصرار نقدي .وكان بارت وتودوروف وجيرار جنيت وفيليب هامون وجوليا كريستيفا ومن لفّ لفّهم ، هم مراجعه الحداثية الأثيرة وأساتذته المقربون . وهؤلاء وأضرابهم هم مراجع المرحلة وأساتذتها المهيمنون . هذا من غير أن يصْرم بشير حبل ودّه واحترامه ، مع أساتذته المغاربة والمشارقة التقليديين . وهذه خصلة نقدية – وثقافية تُحسب له .لكن حين يخلو إلى سِربه وعشيرته ، يصير محاربا – مشاغبا شاكي الأسلحة والدروع .أذكر في هذا الصدد ، لقاء ثقافيا – نقديا قديما ، بمقر اتحاد كتاب المغرب بزنقة سوسةبالرباط ،أيام عزّ الاتحاد . وكان اللقاء حول أحد الأعمال السردية الصادرة حديثا. وأظنها مجموعة (الماءالمالح ) للقاص والباحث محمد الدغمومي . وكنت من المشاركين بقراءة في هذا اللقاء .وبعد أن فُتح باب النقاش ، تصدّى لي بشير القمري بمرافعة نقدية حامية ، مدعّمة من ألفها إلى لجيرارجنيتfigures الياء بأحد أعداد ولما أنهى مرافعته ، قلتُ في سياق تعقيبي :أخي البشير، تلك « فيكوراتهم « فأين « فيكوراتنا « ؟ للعلم ، تعني ( وجوه ) figures و لا أريد بهذه الحفرية النقدية مناوشة الصديق بشير عودا على بدء ، بقدر ما أروم مناوشة ذاكرته النقدية والثقافية العامرة ، والعودة به إلى الزمن الثقافي الجميل ، بعد أن أسدل ثوب الحداد على عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج .لست أودّ في هذه الكلمة – الشهادة الإحاطة بالعالم الأدبي الفسيح لبشيرقمري، بل هي إطلالة من علّ . ولعل أبلغ من يتكلّم عن القمري ، هو القمري ذاته ، عبر أعماله الأدبية المنشورة ومقالاته الغزيرة وعبر بوحه الذاتي ، العفوي والتلقائي ، المتْرع بالشؤون والشجون .في تعليق له على كتابه ( حفريات المدن ) يقول : إنه تجوال في عنفوان الجسد والذاكرة ، وصخب العيش والوطن ) .وكذلك هو مساره الوجودي والثقافي ، كمثقف مغربي – عربي مسكون بكوابيس عصره ، ومشحون غيظا وحنقا على عصره وأناس عصره .وبشير إلى هذا ، وخلافا لكثير من المثقفين الجامعيين الدائرين في أفلاك تخصصاتهم ، كاتب سياسي واجتماعي، يخوض في قضايا الوقت السياسية والاجتماعية ، ويُساجل كديْدنه دائما ، رموزا سياسية واجتماعية من مشارب ومنازع مختلفة ، وبرؤية نقدية كاشفة وجريئة ، لا تُراوغ ولا تداهن .وكأنه بذلك يوسّع أفق النقد ويدفع به إلى مداه ، فينزل به من أبراج النصوص الأدبية إلى معترك الحياة الاجتماعية والسياسية . ولعل هذا ما يفسر ويبرّر هذا الاقتحام الجميل والجرئ لبشيرلعالم الصحافة المغربية والعربية ، حيث يحضر اسمه هنا وهناك ، متابعا مسائلا ومساجلا . هذا يعني بعبارة ، أن بشير القمري من النخبة ، الخارجة عن نطاق النخبة .»
حسن يحراوي: لحظات من صداقة مدوية البشير والصداقة: لا يستريح البشير القمري إلى العلاقات الرومانسية، الخاملة والهادئة حدّ السأم، يفضل عليها ألف مرة الصداقات القوية والمودّات الصعبة التي تختبر المشاعر وتجعلها على محك التجربة والمعاناة..ولذلك لا يصمد معه سوى الرفيق الصميمي، العنيد والذي يكون بوسعه أن يقهر الروتين ويبدد رخاوة الأيام وهي تمضي بطيئة أو سريعة مخّلفة وراءها الغبار والذكريات. البشيروالكتابة: يكتب البشير بسرعة كبيرة ويترجم بسرعة أكبر..لا يعني ذلك أنه يستسهل الكتابة أو يستعجل الترجمة..بل كانت له طريقته الفريدة في العمل..البيت للقراءة والمقهى للكتابة..أي توزيع هائل ودقيق لفضاء العمل..يظل يفكر في موضوعه مدة من الوقت قد تطول أو تقصر حسب الأحوال والمزاج..وعندما تحين لحظة الولادة يجلس إلى طاولة في مقهاه المفضلة بعد أن يتزود بكمية معلومة من الأوراق البيضاء ويشرع في الكتابة بقلم حبر أسود لا يفارقه أبدا..يفعل ذلك بانتظام بالغ وجدية عجيبة منتقلا من سطر إلى سطر، ومن فقرة إلى فقرة من دون أدنى خطأ أو أقل تشطيب..تماما مثل آلة كاتبة أو جهاز حاسوب..وبين الفينة والأخرى يأخذ جرعة من قهوته السوداء ونفثة من سيجارته التي تكون قد أوشكت على الانطفاء..ثم هو لا ينسى أن يتبرع في زحمة انشغاله ببعض النقود الصغيرة لجماعة الشحاذين الذين تعودوا أن يطوفوا على رواد المقاهي..يقوم بذلك من دون أن يرفع بصره عن ورقته..أقصد عن أوراقه التي يظل يتحسسها بأصابعه ليخمّن العدد المتبقى منها للتسويد..ثم يعود لمواصلة الكتابة. كتب البشير المقالة والبحث والقصة والرواية والمسرح والسيناريو والنقد السينمائي وهلم جرا..ونشر كتبا في المغرب ومصر وتونس ولبنان والعراق وسوريا.. البشير والترجمة: بالنسبة للترجمة يحرص على قراءة النص الأجنبي مرة أو مرتين..حسب درجة التعقيد..وقد يعود إلى القاموس للتثبت من معنى لفظة أو دلالة عبارة..ثم يجلس إلى نفس الطاولة في ذات المقهى أمام رزمة الأوراق البيضاء التي تنتظر التسويد.. ومع معرفته بعدة لغات (الريفية، العربية، الفرنسية والإسبانية) فإن البشير كما يعرف أصدقاؤه، كان دائما عاشقا للغة الضاد ومدافعا عنها في المحافل والمنتديات..ويحرص أن يستخدمها طلابه على وجهها الصحيح ولا يتساهل معهم في غير ذلك..وطبعا، نحن لا نحب شيئا بهذا المقدار ما لم ندرك سحره..كذلك يجهد البشير لكي ينقل إلى اللغة العربية ما يزيدها سحرا من اللغات الأجنبية عبر الترجمة.. ترجم البشير شعرية تودوروف في وقت مبكر ونشرها في مجلة (الزمن المغربي)..ونقل مع جماعة من رفاقه الدراسة المتحفية لبارت حول التحليل البنيوي للسرد ونشرها في مجلة «آفاق»..وظهرت له في الصحافة الثقافية نصوص مترجمة متفرقة لباختين ونلفلت وجنيت وغيرهم من رواد النقد الجديد.. البشير والسياسة: كان يساريا في مستهل شبابه عندما انتسب إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وناضل زمنا في صفوفه بكل القوة والعنفوان المعروفين عنه..واعتقل في تلك الليالي الحالكة لبداية السبعينات وأقام في زنزانة واحدة مربوطا في قيد واحد مع الزعيم الطلابي عبد الواحد بلكبير شفاه الله..ثم انتسب إلى الاشتراكية وصار اتحاديا في الثمانينات ونشط في الملاحق الثقافية لهذا الحزب واليوم صار ينظر إلى السياسة (مثل مطر على رصيف مائل).. البشير والمسرح: عشق المسرح نصا وعرضا وقضى أوقاتا طويلة في قراءته وساعات مديدة في مشاهدته..ألف عدة مسرحيات منها مسرحية (رجعة ليلى العامرية) واقتبس (اللجنة) لصنع الله إبراهيم وشخصتها فرقة (مسرح اليوم) للكبيرة ثريا جبران وحلل دراماتورجيا أعمال عبد الحق الزروالي الفردية..أعطى كل شيء للمسرح ولم يأخذ من شيئا..كالعادة. عزيز أزغاي: رجل لأكثر من قبعة جئت إلى مدينة الرباط في سنة 1993، قادما إليها من الدارالبيضاء، تلبية لدعوة نضالية كريمة تلقيتها، إلى جانب رفاق لي، للمساهمة في إطلاق مشروع جريدة « النشرة « الإعلامي الشبابي طيب الذكر. كنت حينها شابا يافعا مقبلا بتهور عن الحياة ومُوبِقاتِها، بعدما جرت في يدي بعض النقود، انتقاما من فقر ورثته منذ طفولتي الباكرة. والحياة في العاصمة ليست هي حياة الصخب البيضاوي العارم. كان تعبير « مْسَلْمين الرباط « يعني لي أكثر من سلوك سلبي وردود فعل متعالية، وهو ما كان يتطلب مني التسلح بغير قليل من الحذر اللازم من الرباطيين، ومن بعض ساكنتها من غير الرباطيين، ممن سقطت رؤوسهم في مدن أخرى نائية. وبالنظر إلى طراوة تجربتي في الحياة، وبسبب ثقافة السماع المغرضة، كونت، صورا سلبية على كثير من الناس، خاصة من جمهرة المثقفين، حتى أمست اللائحة طويلة. لهذا السبب، غالبا ما كنت أبادر إلى إشهار أسلحتي الدفاعية، كلما حدست في سلوك أحدهم ما قد أعتبره مشروع هجوم محتمل. وكم كنت قاسيا وفجا وصلفا مع أشخاص جميلين ومسالمين بسبب هذه الإشاعة أو تلك. ولحسن الحظ أن هذه الرعونة وهذا الغباء المراهق لم يستمرا طويلا، الأمر الذي جنبني كثيرا من سوء الفهم الساذج. وتشاء المصادفات الطيبة أن ألتقي بالكاتب والباحث الودود والأنيق بشير قمري، الذي كان يجتهد كثير من الأدعياء في تقديم صورة مخدوشة عن شخصه، وهي نفس الصورة السمجة، التي كانت تقدم لنا، نحن الطارئون على ليل العاصمة، عن أحمد المجاطي وإدريس الخوري ومحمد الهرادي ونجيب العوفي وغيرهم من الكتاب والمبدعين المرموقين. وقد كانت مفاجأتي كبيرة، وأنا أتقاسم قهوتي مع قمري بمقهى « المثلث الأحمر « المأسوف على أيامه الجميلة، حين اكتشف الوجه الآخر للبشير؛ الوجه الخفي، أو النقي. رجل هش، نبيل ودمث، وهو إلى ذلك صاحب ثقافة واسعة متينة ومتجددة. جلسة واحدة كانت تكفيني لأصحح « معلوماتي « عن هذا الريفي المقبل على الحياة والمعرفة بجوع كبير. ومع توالي الأيام، خاصة حينما عملنا جنبا إلى جنب داخل المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب، أو عندما كان يجمعنا ليل الرباط أو نهارات الدرس الجامعي، حيث كان السي البشير واحدا من أساتذتي في سلك الدراسات العليا، زاد اقترابي من الرجل، كما تقوت معرفتي به. وفي سياق هذه المهام الثقافية والأكاديمية، وفي كل هذه الأمكنة والفضاءات الرباطية، كنت أكتشف معدن الرجل النادر، بل أقترب أكثر من طبيعة شخصيته التلقائية المباشرة، التي كانت تزعج بعض المتطفلين، بسبب صراحته الواضحة، التي كان يواجه بها الرديئين والطارئين والأدعياء، ممن كانوا لا يقدرون قيمة الرجل ولا وضعه الاعتباري في مدونة الثقافة المغربية المعاصرة. والبشير، إلى ذلك، مثقف نهم ولا حدود لجوعه المعرفي، كما لا يقيم حدودا وهمية بين مختلف العلوم الإنسانية، التي بإمكانها أن تفيده في تكوين رأي أو صياغة مقال أو تجميع عناصر درس أكاديمي أو محاضرة علمية أو مجرد دردشة عابرة في مقهى عابر. كم كانت تغريني، أنا الطالب المتعلم، تلك الشحنة الإيجابية التي يتمتع بها الرجل حين كان يتناهى إلى سمعه عنوان كتاب جديد، سواء كان في النقد أو المناهج أو نظريات الأدب أو الإبداع، إن باللغة العربية أو الفرنسية، حيث كان يسعى جاهدا إلى اقتنائه، مهما ارتفع ثمنه. وكما لو كان يعارك الزمن، يحرص على قراءته وتلخيص محتواه، بسرعة قياسية، قد تكون ليلة واحدة، لتجده في اليوم التالي يبسط أمامك أهم أفكاره الكبرى أو مآزقه المحتملة بكل زهو واعتداد بالنفس. لذلك، ليس غريبا عن مثل هذه الذات القارئة المقبلة على الحياة، بدون إسراف أو تقتير، أن لا يكون لها نصيب في سخاء اليد والقلب. ولعل هذه الصفات هي ما جعلني دائما أتمثله بيد مثقوبة؛ أي أن ما يملكه ليس له، قد يتقاسمه مع صديقي حميم في مأزق، كما قد يدخل به بعض السعادة مع جليس عابر لمجرد أن يحدس في قلبه بعض النبل والصفاء والكرم المأزوم. نفس الرعاية كانت تمتد، أحيانا، إلى بيته، الذي كان ملجأ لبعض الخلص الذين كان يضيق بهم ليل الرباط، بعدما يكونوا قد حلوا بها لقضاء بعض مصالحهم الإدارية الطارئة. لم يكن يتوان في توجيه الدعوات الكريمة الملحة للمبيت عنده أو لتقاسم وجبة أكل أو مجرد قنينة ماء باردة! هكذا عرفت معدن الرجل عن قرب، بعدما أزحت تلك الغشاوة المغرضة التي كانت تفصل بيني وبينه، وهي نفس الغشاوة التي كانت تجعلني أتهيب من مجالسة بعض أدبائنا المعروفين، أمثال إدريس الخوري ونجيب العوفي ومحمد الهرادي، ممن استوطنوا الرباط في القرن الماضي، وأصبحوا من مسلميها الطيبين الودودين الكرماء.»