تشعبت قضية ورطة الحكومة الإسبانية غير محسوبة العواقب وتشابكت، باستقبال زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي على أرضها، بتواطؤ جزائري، للعلاج تحت ذريعة إنسانية في غفلة من المغرب، مما فجر الموقف بين الرباطومدريد، جراء الرد المغربي الصارم والحازم. منذ اندلاع الأزمة واصل المغرب ضغطه ونهجه التصعيدي تجاه الإسبان بإغراقهم بسلسلة من الأسئلة والمطالب المنطقية لفضح تصرفاتهم غير الودية، فيما ظل الارتباك والتخبط سيد الموقف عند الحكومة الاسبانية، فرضت معه الأزمة نفسها كفاعل في المشهد السياسي الإسباني. التحرك الدبلوماسي المغربي النشيط والفعال المشرف والثابت، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، أسعد المغاربة ورفع رأسهم عاليا، وأبان عن عزيمة وإرادة ملكية، غيرت من النهج المحافظ المتسامح للدبلوماسية المغربية وأسلوب التعاطي مع القضايا المرتبط بالسيادة، وهو انقلاب يحظى بالإجماع الوطني. فجلالته رفع سقف المطالب المغربية أمام الحكومة الإسبانية، مشددا على صلابة الموقف المغربي وتمسكه بكامل حقوقه في الدفاع عن وحدته الترابية، والتصدي لكل ما يحاك ضده من مناورات ودسائس تورطت فيها إسبانيا، مطالبا بإعادة النظر في راهنية ومستقبل العلاقات بين البلدين على أسس احترام السيادة المغربية والتعاون البناء والمثمر وفق قواعد ثابتة ومتكافئة. لم تتوقف المواجهة مع الإسبان على الدوائر الرسمية، بل واكبها تحرك سياسي وإعلامي مكثف من جانب الأحزاب السياسية المغربية، ومراكز الدراسات المتخصصة في قضايا السياسات الدولية وأساتذة جامعيين وباحثين في علوم السياسة والقانون الدولي والعديد من المنابر الإعلامية، التي تجندت للدفاع عن الموقف المغربي، وسلطت الضوء على جوانب مختلفة من العلاقات المغربية الإسبانية بالدراسة والتحليل والنقد. وهو نهج يجب أن يستمر ويحافظ على نسقه كاستراتيجية في التعاطي مع الشأن الإسباني بكل مظاهره، والالتفات أيضا إلى تلك اللوبيات المعادية للمصالح المغربية التي تناهض أي مسعى أو تقارب مع بلادنا. ومما بات يقلق أعداء المغرب بإسبانيا ويزعجهم تلك الطفرة الاقتصادية النوعية التي حققها المغرب، خلال العشرين سنة الماضية، والمنجزات والمشاريع الكبرى المنافسة للجوار في مختلف المجالات، والعمل من أجل تأهيل الواجهة المتوسطية من طنجة إلى السعيدية للانفتاح أكثر على أوروبا وتوطيد علاقاته المتعددة الأبعاد مع دول الضفة الشمالية للمتوسط. فضلا عن دينامية الدبلوماسية المغربية وتوسع مجالات تحركاتها السياسية والأنشطة الاقتصادية الكبرى بإفريقيا وما تم إرساؤه من مشاريع استراتيجية كبرى واعدة بالقارة السمراء. يضاف إلى ذلك، الخطوة الرائدة في علاقات المغرب مع الولاياتالمتحدةالأمريكية باعترافها بمغربية الصحراء وإقدامها على فتح قنصليتها بالداخلة، صاحبتها العديد من دول العالم بفتح قنصلياتها بمدينتي العيون والداخلة، هذه الخطوة، لاسيما الأمريكية، أربكت حسابات الحكومة الإسبانية، ودفعتها إلى التخبط وارتكاب الأخطاء وافتعال الأزمات. ولاستيضاح الصورة أكثر، علينا أن ندرك أن الصحافة الإسبانية الوطنية والجهوية دأبت ومند سنوات طوال على نشر مقالات بمعدل 50 مقالا يوميا، 90 %منها مناوئ للمغرب في حملة إعلامية متحاملة مسعورة، مليئة بالأكاذيب والمعلومات المغلوطة والمفبركة والآراء المسمومة بغاية تضليل وإشاعة الكراهية لدى الرأي العام الإسباني، باعتبار أن هذا الجار الجنوبي العنيد، يشكل مصدر إزعاج وخطر محدق بإسبانيا، مستغلة قضايا: الصحراء، المخدرات، الهجرة غير الشرعية، والتهريب بل وحتى تلفيق الإرهاب، بغاية ترسيخ عقدة العداء للمغرب وتسميم أجواء العلاقات المغربية الإسبانية. وفي موقف مناهض لهذا التوجه، أكد مؤخرا مدير اليومية الإسبانية «لاراثون» أن « الغطرسة الأوروبية لبعض وسائل الإعلام والسياسيين الإسبان ليست المسار الصحيح لحل النزاع مع دولة حليفة «. قضية «بن البطوش» اليوم أخذت أبعادا خطيرة، لم تكن في حسبان مدريد، تداخل فيها السياسي بالدبلوماسي بالأمني والاستخباراتي والاقتصادي والإعلامي والاجتماعي والحدودي والسيادي وغيره، دفع بها المغرب جملة واحدة أمام الحكومة الإسبانية ورئيس وزرائها « بيدرو شانشيز» الذي أصبح في مأزق لا يحسد عليه، فرغم تبريراته ووزيرة خارجيته الغامضة، لم يتمكن من إقناع لا خصومه ولا مواليه داخل المشهد الإسباني، لا سيما بعد أن بدت تنكشف بعض خيوط اللعبة التي لم يقرأ مسبقا «بيدو شانشيز» أبعادها وانعكاساتها الخطيرة على العلاقات مع المغرب وتداعياتها على حكومته. فشرع في خلط أوراق الأزمة وصرف النظر عن أسبابها الحقيقية. فلم يكن أمام «شانشيز» سوى الاحتماء بمظلة الاتحاد الأوروبي في محاولة لإقحام أوروبا في أزمته مع المغرب. اندفع نائب رئيس المفوضية الأوروبية في أول رد فعل، عندما ناصر إسبانيا انطلاقا من نظرة استعمارية، لما اعتبر حدود أوروبا ما وراء المتوسط، واتهم المغرب ب « ابتزاز أوروبا عن طريق الهجرة»، متجاهلا أصل الخلاف ومتغافلا عن أن إسبانيا غلبت مصلحتها الوطنية على حساب المصالح الأوروبية العليا وخرقها لقواعد فضاء «شينغن» الأوروبي. الرد المغربي لم يتباطأ عندما قدم ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية، دلائل بالأرقام والحجج الدامغة، على تعاون المغرب في قضية الهجرة غير النظامية، مشيرا إلى أن هناك محاولة لتشتيت النقاش من جانب الإسبان بغاية خلق أزمة غير موجودة في الأصل بين المغرب والاتحاد الأوروبي، تجدر الإشارة إلى هنا، إلى أن العديد من الدول الأوروبية ليست لديها نفس النظرة والموقف تجاه المغرب لاسيما في قضيتي الصحراء والهجرة غير الشرعية. الصلابة التي أظهرها الموقف المغربي تجاه الحكومة الإسبانية في أزمة المدعو «إبراهيم غالي»، بلغت مداها بالتحذير، الذي جاء على لسان ناصر بوريطة، حين شدد على أنه: « إذا فكرت إسبانيا أن الأزمة يمكن حلها بتسلل إبراهيم غالي إلى الخارج بنفس الطريقة، فإن ذلك سيفاقم الوضع ويمكن أن يؤدي إلى حد القطيعة»، من جانبه، دعا المدير العام للشؤون السياسية بوزارة الخارجية إلى إجراء تحقيق شفاف لتسليط الضوء على كافة ملابسات هذه القضية. زادت من حدة هذه الردود تدخل كريمة بنيعيش، السفيرة المغربية بمدريد، التي استنكرت التصريحات غير الملائمة والوقائع المغلوطة، التي أدلت بها للبرلمان والصحافة وزيرة الخارجية الإسبانية، متسائلة عما إذا كانت تصريحاتها خطأ شخصيا للمسؤولة الإسبانية، أو أنها تعكس النوايا الحقيقية لبعض الأوساط الإسبانية المعادية للوحدة الترابية للمملكة. موقف المغرب أضرم النار داخل البيت الإسباني، بعدما تحولت القضية إلى معركة بين الحكومة والمعارضة، لاسيما بعد ارتفاع أصوات عدد من كبار المسؤولين الإسبان السابقين الذين استغربوا من سوء تصرفات حكومتهم ونبهوها إلى الأهمية البالغة للتعاون مع المغرب في قضايا الإرهاب والأمن والهجرة، واكبها تدخل أحزاب وقوى سياسية منها الحزب الشعبي المعارض، التي تضغط بدورها مطالبة بالكشف عن الأطراف التي لعبت أدوارا في ورطة نقل إبراهيم غالي إلى إسبانيا محملة الحكومة بشكل مباشر مسؤولية الأزمة مع المغرب. التطورات المتسارعة للأزمة المغربية الإسبانية وما نضح عنها من معطيات، حولت الأنظار إلى وزيرة الخارجية «أرانتشا غونزاليس لايا» بالدرجة الأولى وإلى جانبها رئيس الحكومة «بيدرو شانتشيز»، لاسيما بعد أن كشفت وسائل إعلام إسبانية أن وزير الداخلية الإسباني» فرناندو غراندي» عارض بشكل مباشر قرار استقبال إبراهيم غالي سرا، لعلمه المسبق بأن موقفا من هذا القبيل سيؤدي إلى خلق أزمة كبيرة في العلاقات مع المغرب، لكن وزيرة الخارجية، أصرت على قرارها بعد موافقة رئيس الحكومة، في موقف يعكس مدى الاستخفاف والتهور لدى كبار المسؤولين الإسبان ويكشف الموقف العدائي لوزيرة الخارجية للمغرب. وهناك عدد من الإسبان العقلاء من رجالات السياسة والدبلوماسية والإعلام، انتقدوا موقف حكومتهم باستقبال إبراهيم غالي، واعتبروه تجاوزا وخطأ سياسيا غير مفهوم مما أثار أزمة دبلوماسية خطيرة مع المغرب، داعين إلى تصحيحه والحفاظ على العلاقات مع هذا الجار كشريك استراتيجي. برز أيضا ذلك التضارب في المواقف داخل أحزاب التحالف الحكومي، الحزب الاشتراكي وحزب «بوديموس»، بما يثير التناقضات والصراعات داخل المشهد السياسي الإسباني ويؤثر على المستقبل السياسي للحكومة، التي تحاول تهدئة الوضع وإعادة ترتيب أوراقها المرتبكة، كقول وزيرة خارجيتها قبل يوم من أنه يجب على إبراهيم غالي أن يمثل أمام القضاء الإسباني بعد تماثله للشفاء، وأن قنوات الحوار مفتوحة مع الرباط، لتعود في اليوم الموالي للظهور بمواقف مناوئة. لقد أكدت هذه الأزمة الحضور القوي للمغرب داخل الساحة السياسية والإعلامية بإسبانيا، وأبرزت من جانب آخر أن العلاقات المغربية الإسبانية هي أيضا موضوع خلاف حاد بين قادة إسبانيا والإشكاليات المطروحة لديهم حول كيفية تدبير هذه العلاقات. فلا شك أن هذه الأزمة الدبلوماسية بين البلدين سيكون لها تداعيات على الانتخابات المقبلة وعلى الأجندة السياسية للأحزاب، وعلى مستقبل العلاقة مع المغرب، الذي عبر بصوت عال أنه يرفض النهج الذي يسلكه المسؤولون الإسبان، مطالبا بمواقف أكثر وضوحا ونضجا وجدية وحكمة وصدقا لطي صفحة الماضي. الواضح من تجاذبات المواقف أن أزمة غالي لم تكن سوى النقطة التي أفاضت الكأس في العلاقات المغربية الإسبانية، فالأزمة أعمق بذلك بكثير، استخدم فيها المغرب ورقة غالي الجزائرية لرفع سقف التحدي أمام إسبانيا بغاية الكف عن مناوراتها ومناهضتها لجهوده في ترسيخ وحدته الترابية. وهو ما عبر عنه صراحة اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، مع الأمناء العامين للأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، يوم 28 مايو المنصرم، حين أكد أن جوهر الأزمة السياسية مع إسبانيا تتعلق بقضية الصحراء المغربية. (*) دبلوماسي سابق