تساقطت الأوراق، وعادت إلى السقوط مرّة، وأخرى، وأخرى، فى سرعةٍ يائسة لتدارك الموقف، وقف «ديونيزيُو بنسُون» الذى فقد في حيرة وتشوّش، السيطرة على أعصابه. على وجهه كان يتصبّب عرق بارد من فرط يأسه، ثمّ سرعان ما بدأ هذا العرق يملأ كلَّ جسمه، الآن أصبح يلعب وكأنّه أعمى دون أن يكسب ولو مرّة واحدة ،وكان كلّما عاود اللعب إنّما كان يعود ليخسر المزيد فلم يشأ قطعاً الابتعاد عن «الأوراق» التي كان يضعها تحت كوعه كلما انتهى من توزيعها على مشاركيه فى اللعب. كان يقول : – الآن لا يمكنني أن أخسر، ويهمس بكلمات أخرى غير مفهومة وغير واضحة. لا يمكنني أن أخسر .. كان كلٌّ من مربّي المواشي وطبيبه يقظيْن ، كما كان هناك رجل آخر يرمقهم جميعاً بنظراته المتتبّعة. كان يحدّق النظرَ فى أعينهم وحركاتهم ويتأمّل رباطة جأشهم فى اللعب، إلاّ أنّه لم يكن يكترث بما تراه عيناه من الأخطاء والحماقات التي كان يرتكبها ذلك الرجل الذي كان قبل قليل هادئ البال، متمالكاً أعصابه ونفسه، والآن ها هو ذا يلقي بقبضة يده بكلّ ما يملك على أديم الأرض . تجرّأ مُربّي الماشية على القول : – إنّك تلعب بمصيرك يا سيّد ديونيزيُو، لا ينبغي لك أن تلعب بهذا الشكل.إلاّ أنّ ديونيزيو لم يكن يُصغي إلى ما كان يقوله له غريمه . كان الفجر قد بدأ ينسج خيوطه البيضاء فى الآفاق، وطفق الضوء يتسلّل من النوافذ الكبرى واستقرّ على بساط الطاولة الأخضر . بدأت الوجوه تلمع وهي منهكة من سهر اللاّعبين، كان ديونيزيو يراهن بآخر وثيقة عنده. ترك برهة الأوراق على ظهرها. بينما كان الرّجل الآخر يراقب أوراقه، وعندما طلبت منه ورقتين أكثر ، سلّمهما في الحين ، وعاد للانتظار من جديد. نظر فى اتجاه برناردا كوتينيُو، كان وجهها شاحباً وديعاً وهادئاً وهي مُستغرقة في سباتٍ عميق. ثمّ حدّق فى الرّجل الذي يقابله فى اللعب محاولاً استدرار أو استجلاب علامة مّا أو تتبّع أيَّ أثرٍ لخمود الهمّة . عندئذ فقط، أرخى الورق، كانت يداه ترتعشان، ومن عينيه كان يخرج بريق معدني كالشّرر. أرخى ثلاثاً وأخذ ثلاثاً أخرى إلاّ أنّه لم يقارنها ببعضها ، كان خصمُه يعرض لعبه، أمام هذا الذي ليس في يده شيء . ثمّ صاح : برناردا ، اصحي يا برناردا ، لقد خسرنا كلّ شئ هل تسمعينني ؟ اتّجه نحو زوجته التي تغطّ في نوم عميق وهزّها من كتفيها . -هل تسمعينني يا برناردا…؟ لقد خسرنا كلّ شئ، كلّ شئ، حتى هذا. وبقوّة اقتلع عِقد الماس الذي يطوّق جيد برناردا كوتينيو الذي تناثرت خرزاته فى الأرض ، وهو ما زال يصيح : -اصحي يا برناردا… الطبيب الذي كان هناك دنا منهما، أبعد ديونيزيو إلى جانب، وهو يرفع بأصابعه جفنيْ المرأة ، بينما كان يفحص قلبها ثمّ قال : لا يمكنها أن تصحو ..إنّها ميّتة . ثمّ لاحظ الجميع مدى ضياع وانهيارهذا الرجل الذي استمر في هزّ ورجّ زوجته وهو يقول لها: – لماذا لم تخبريني أنّك ميّتة برناردا ؟ وعند صياح الرّجل هرعت ابنتهما برناردا بنسُون الإبنة، وعندما رآها ديونيزيو بدا كما لو هدأ . قال للصبيّة : تعالي لتودّعي أمّك . وبعد أن فهمت ما حدث ارتمت بقوّة فى حضن أمّها الميّتة ، فى حين تحوّل ديونيزيُو نحو الرّجل الذي كسب ونهب منه تلك الليلة كلَّ ما كان يملكه . وقال له :في تلك الغرفة أحتفظ بتابوت، وهو يشير إلى باب صغيرة تقع في جانب الصّالة. – ذاك لم يدخل في اللّعب ، كلّ شئ إلاّ التابوت. غادر القاعة، وسُمعت خطواته الثقيلة وهو يقطع الممرّ الطويل في هذا المنزل الكبير ، ثم سُمع صوتُ طلقةٍ ناريةٍ كتيمة شبيهةٍ بضربة عصا نزلت على جلد عجل . * الكاتب المكسيكي خوان رولفو من أشهر وأبرز كتّاب القصّة القصيرة في أمريكا اللاّتينية في القرن العشرين (1917-1986) ، هذه القصّة من مجموعته «السّهل يحترق» (1953) التي نال بها شهرة عالمية. ** كاتب ومترجم من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.