حائط أستند عليه اسمه القراءة يمكن للقراءة أن تصبح الحائط الذي تستندين إليه خوفا من الزوابع التي تهدد أمن حياتك الهشة وأنت في سن صغيرة جدا لا تقوين على المواجهة أو المقاومة بل تهربين بين ضفتي كتاب تحتمين به بما يهدد حياتك الصغيرة كورقة في مهب الزوابع تقاوم بالمقروء والخيال والحلم ومتعة ما تقرأ لتظل ملتصقة أطول مدة على غصنها. تحضرني صورة الطفلة الصغيرة المنكمشة في ركن من أركان البيت منحن ظهرها مكومة على كتاب تجلس لساعات تقرأ وليمتها من الكتب التي بحثت لوقت طويل كي تعثر عليها بالإمكانيات الضيقة والصعبة لاقتناء كتاب. لم يكن من السهل أن نشتري كتابا لأنه بكل بساطة لم نكن نملك نقودا لشرائه، لذلك مثل فأرة تبحث بمجساتها الصغيرة عن مخابئ خفية للورق أينما كان . لم تفلت مكامن ومخابئ بيتها من هذا التفتيش الدقيق عن أين يختبئ كتاب أو يوجد، فبعد الانتهاء من التهام ما تقع عليه من كتب وقصص ومجلات تقرؤها وبعد استنفاذ ماهو موجود وفي متناولها تذهب للبحث بجسدها الصغير عن كل ورقة أو بقايا كتاب ممزق بدون غلاف تبحث في الخزانات وفي كل ما يمكنه أن يشكل مكانا لحفظ شيء علها تعثر على ما تقرؤه ولا تخلو الطريق التي تمشي فيها من هذا البحث فكلما صادف خطوها ورقة ممزقة مرمية انحنت لتجمعها وتقرأ ما فيها كأنها عثرت على كنز يغذي هذا البحث الدؤوب عما يقرأ . تحضرني صورة الطفلة الصغيرة في ثوبها الوردي الدافئ بجسدها الصغير الغض الطري منكمشة على نفسها تغطي أطرافها العارية بما تبقى من ثوبها الوردي منحنية على كتاب تقرؤه. منفصلة عما حولها بعيدة غارقة في العوالم التي يقدمها لها كتابها، بعيدة عما يفزعها ، بعيدة عما يهددها من إكراهات واقع لاتدري مفاجآته وما يحمله لها من مخاوف مفاجئة، كان الكتاب بمثابة بساط سحري يحملها بعيدا عن هذا الواقع ومفاجآته التي لايستوعبها عقلها الصغير، وحتى تبعد عنه وتنفصل تبحث عما تقرؤه لتنساه وتتحاشاه لأطول مدة يسمح بها عدد صفحات الكتاب الذي بين يديها. فكلما عثرت على كتاب كبير بعدد صفحاته ، كلما كانت فرحتها كبيرة وكلما كان إغراء الابتعاد والذهاب بعيدا أكبر. فأي مغامرات تشد الأنفاس يعدها به ، وأي مشاعرجديدة، وأي أفكار ستكتشف، وأي أناس ستتعرف عليهم، وأي مصائر عجيبة ستجعلها تختبر ما تجهله في نفسها الطرية البكر والمجهولة. تذكر جيدا المشاعر المتنوعة التي اختبرتها وقتها، تذكر دقات قلبها وارتجافاتها، تذكر الدهشات، والفرح والحزن، والخوف والتوجس، والانتظار وهي تتقدم في العوالم التي يعرضها عليها الكتاب وحيواته الخفية. تذكر ماتعلمته حينها ، نظراتها في سعة فضولها ودهشتها وحلمها وتفكيرها وهي تخوض بحرا مجهولا أمام جسدها الصغير، كأنما كانت تعيش حينها ، أي زمن القراءة آنذاك تجربة تفوق سنها، كأنما كانت توضع مع الشخصيات والأفكار التي يمنحها لها الكتاب في محك حيوات تفوق خبرتها المنعدمة آنذاك والتي كان الكتاب معلمها الذكي والسري وقتها، يأخذ بيدها ليدخلها في تجارب وامتحانات تفوق ماتعلمته وهو نزر قليل لا يغني ولايسمن من جوع الفضول ودهشة الاكتشاف والتعلم. متى ما عثرت على كتاب صفحاته كثيرة كان وعد ما تنتظره من هذا الكتاب جياشا بحيوات وأفكار ودهشات ومشاعر قوية تحملها فوق إمكاناتها المحدودة وحياة صغيرة لاتملك أن تهبها هذا الدفق من العنفوان والدهشة والجيشان. الكتب قراءتها في وقت مبكر هي التي تخلق منا مانحن عليه في الوقت الحاضر، الإنسان المقدام الجريء في التفكير بخيال يشبه الديناميت يكره الحيوات الميتة المستسلمة للرتابة والخمول المكررة إيقاعاتها القاتلة، الإنسان الذي يعدد إمكانات الحياة والعيش وله القدرة على تجاوز مصائر مخيبة لآماله .. إنسان يصنع إمكانات جديدة للحياة ويحفر أسرة جديدة لمياهه الصاخبة متى وجدت الحواجز يخلق مايتحايل عليها ويبدل مصائره الجارية المتنوعة. تلك الطفلة المحني ظهرها على كتاب في شبه احتواء تام وكلي لما يمنحه لها، منكفئة عليه بينما إبهامها الصغير تمتصه بين شفتيها، ترضع كم الأفكار الذي تهبه لها قراءتها، حليب مدرار من أثداء متعددة يهبها لها المقروء المدهش الفتان لتصخب الدماء في جسدها، لتنقطع أنفاسها ولتلون وجنتاها المحمرتان بصخب العوالم المقروءة والمنقولة أمام شاشة عينيها وقلبها وعقلها. كم حياة عاشت، وكم من شخصية تقمصتها وانجرفت معها في المصير الذي اختاره لها كاتبها، كم مرة وجدت نفسها تبكي واستمر هذا البكاء حتى من بعد انتهائها من قراءة الكتاب، كم امتد تفكيرها وتقليبها لوجوه الأفكار التي ولدها الكتاب في رأسها، كم من الأسئلة اضطرم حريقها في رأسها الصغير،لماذا وكيف ومتى وأين … وكأنها تبحث بأسئلتها عن إيجاد مصائر وحيوات أخرى لما سبق للكتاب أن طرحه على رأسها وذهنها،متى بدأت تربط ما تقرؤه من أفكار ومن حيوات بواقع ما تحياه وتخبره فتعقد مقارنات مابين ما قرأته وما تعيشه فتعرف من خلال ماقرأته أن هذا الواقع أو هذه الشخصية إما مظلومة أو قاصرة أو عاجزة وأن ما يحيط بها من عوامل تتحكم في عجزها وتحعلها مسؤولة عما هي عليه، ذلك المقروء هو ما منحها وعيا بما يحيط بها رغم صغر سنها فما قرأته وما خبرته وما عاشته بين دفتي الكتب حيوات قريبة من تلك التي تحياها بعيدا عن الكتاب يمكنها أن ترى مايختفي وما يغيب وراء سلوكات الناس ، يمكنها وقتها أن ترى أسبابا لسعادة من حولها أو شقاءهم من خلال مقارنة ما قرأته بما تحياه وما يحيط بها ، هذا هو ما جعلها تلك الطفلة التي تميل للجلوس ومطالعة ما يجول حولها تأمله ومحاولة فهمه من خلال تجميع المعطيات و المقارنة والاستخلاص. ذلك الجسد الصغير المختبر لما يفوق حياته الصغيرة، وعي متشكل من خلال المقروء فضوله للاكتشاف كبير وخياله يكبر ويكبر ليحتوي اشياء عالمه ويتجاوزها بعيدا. لذة الاكتشاف التي يمنحها الكتاب، لذة المغامرة، ولذة التفكير التي تشط عن نظرات الجلاد المتوعدة بالعقاب متى ما اخترقت الحدود المضروبة أمام خطى طفلة تمشي في أراضي ملغومة لكن حميدة. نيتشه المعلم كنت ولازلت أومن أن جسدي معجون بالكلمات وبحيوات الكتب التي قرأتها ، جسد من كلمات وروح معجونة بأرواح ما قرأته في حياتها، لو نكتب سيرة الجسد القارئ والمسارات المتنوعة التي فتحها الكتاب امام الجسد ليختبر المجهول بالأقوات الفكرية والخيالية التي منحتها له الكتب، لأمكننا أن نسجل الحيوات العديدة التي اختبرها وعاشها هذا الجسد عبر ما قرأه وعبر أطنان الكتب التي قعد أمامها كمائدة أرضية تضم شتى أنواع الأغدية الروحية والعقلية والوجدانية. ألهمتني تلك الحيوات التي اكتشفتها في الكتب حيوات في المستقبل، لم يكن المقروء بمنأى عن روحي التي عجنت وعانقت ملتحمة بما قرأته. وجدتها تلك الكتب في آتي حياتي كأمهات حنونات وكحارسات متهجدات تحمي طرقي مما يصادفها من مخاطر واختبارات وأهوال صعب التفاوض مع هاوياتها. كان الكتاب بمثابة الضوء السري المنبثق في ليل التجربة يضيء ما خفي من الطريق ويفك ألغازها ويحمي من غيلان تكاد تفتك بالروح وتؤدي إلى هلاكها. لا أدري متى اكتشفت كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» كان بالنسبة لي المعلم والمنقذ من مخاطر واجهتها في حياتي القادمة ، في الأول كنت مفتونة بسحر بيانه وبلغته المجنحة وبعوالمه وأفكاره الغريبة، صادف في أعماقي روحا ثائرة، تحتاج لزاد فكري يقويها في مواجهة مايضعفها في عالم ذكوري متنمر مهووس بالسلطة وفرض الأحكام وتقييد الحريات، كلما شعرت بضعفي وعجزي سارعت إلى قراءته والتجأت إليه لأقويني بأفكاره التي تتغنى بالإرادة الحرة وبالإنسان الذي يتغلب على الصعاب وينتشي بتأسيس عالمه الخاص وراء كل خير وشر أوجدا للتحكم في إرادة الإنسان وتقييده بأغلال تحد من حريته ورغبته في الاكتشاف وخرق المجهول. كان ولابد من اكتشاف هذا الكتاب في حياتي، كان ظهوره في تلك الفترة من فتوتي الأولى نتيجة تراكم مجموعة من القراءات والكتب التي منحتني الزاد الذي يمكنني من قراءته والاجتهاد في فهمه واستيعاب أفكاره الثورية المتغناة بالإنسان المتفوق على كل ما يضعفه في مجتمعات تتفنن في تقييده ومراقبته وعقابه. نيتشه المعلم الذي منحني القدرة لإدراك ضعفي ومحاولة التغلب عليه وتقويتي، كنت الفتاة التي تشق طريقها معملة فكرها فيما يصادف طريقها، تكره الظلم، تكره ما يضعفها وتتعلم أن تتخلص مما يصيبها من الوهن ، تعلمت أن تكون روحا حرة تستهويها البراري والآفاق المفتوحة تضيق بكل عقل منغلق وبكل إرادة واهنة تسخر بشراسة من الجبن والجبناء ولاترحم صغاراتهم، لذلك كان من الصعب مواجهة مجتمع مبني على النفاق والخضوع ومباركة كل من هو مستعد للتخلي عن حريته من أجل مكاسب مادية مقابل إهدار كرامته وقبول أثقال عبودية تهد كاهله وتقزم أو تردي بإنسانيته . كنت طفلة مرهفة حساسة خجولة تحب اللعب بدماها التي تشكلها بيدها تصنع منها حيوات تغرق فيها ومعها تؤنس وحدتها الكبيرة. كنت أحب اللعب مااستطعت إليه سبيلا بدماي وعرائسي البسيطة، ربما تفتقد إحداها يدا، أو رجلا أو رأسا لكنها مع ذلك تساهم في الحياة التي يخلقها حلمي، أكلمها، أهمس لها تبادلني الحديث ، تجيب على أسئلتي الحائرة، أحدق إليها فأراها تتحرك في حياتها الخاصة بها. لكن عقلي الصغير آنذاك ما كان يفهم أو يدرك مايدور حوله، كل شيء كان يبدو غامضا . فقط خلال لعبها تستطيع أن تجمع الأطراف الملتبسة والمشتتة من أشياء لا تفهمها لتركبها في اللعب ولتخلق منها ولها معنى خاصا بها يرضي حلمها وخيالها آنذاك. طفلة ضعيفة وحيدة تحدق إلى عالم جبارلاتفهمه، كل خطوة تهديد لهشاشتها الرقيقة ولأحلامها المنقذة. وجاءت الكتب في البداية قصصا وحكايات تدخلها لعالم البشر تتهجى في الأول حروفها وتكتشف المعنى الفاتن لعالم كبير يقدم لها مفاتيح الفهم لما يدور حولها، يفك الغموض المغلف للأفعال وللبشر ولعالم الكبار. تتحرك ببطء في أراضي ملغومة، تتحرك بهدوء مدركة هشاشة خطوها، كانت دائما روحا غريبة، وحيدة بالرغم ممن يحيطون بها، تعيش في أعماقها وتحاول ما استطاعت اكتشاف ومشاركة العالم حولها. بالرغم من حماستها المحتفية بالعالم كان الحذر عين أخرى تقلب بها ماتراه وتلاقيه في حياتها. نيتشه المعلم ونيتشه روح القوة التي نفخت في روح هشة مدركة لعالم الكبار المهدد. انكفأت على أفكاره أقرؤها وأحاول استيعابها، وفي نفس الوقت أكتشف مكامن الضعف في، وما يجب أن أشتغل عليه في ذاتي والذي يخلصني من ضعفي وهشاشة خطوي، كانت ثقتي بذاتي تتشكل كلما نما وعيي بما يحيط بي، أتجرد من كل خوف يمكن أن يشل إرادتي، أسير في طريقي بخطوات حذرة وواثقة ما أمكن بالرغم من وجود عوائق تطيح بهذه الثقة. كان الصراع قائما بين وعيي بذاتي وبين ما يهدد هذه الثقة المكتسبة، أمشي بإصرار أحفر دربي الصعب، أحلم ، أفكر، أخطط، وبالطبع كانت هناك العقبات والأخطاء أو ما نسميه بالتجربة واختبارات الحياة، كانت موجودة لاسثتمارها وتوظيفها أيضا من أجل معرفة أكبر بالحياة والبشر. بحر صاخب هي الحياة محكوم علينا بالتجديف فيه بقوة واختراق عبابه المهدد والمظلم ولن تكون المعرفة سوى الضوء الذي يشق لنا الطريق أمام هذا اليم المظلم الهائج.