يسود الاعتقاد في مجتمعنا في أوساط العوام أن الإسلام ُيحرم الموسيقى والغناء، ويعود ذلك إلى تأثر هؤلاء العوام بخطاب وفتاوى الفقهاء المتشددين قديما وحديثا. وعلى عكس ذلك، ليس هناك تحريم للغناء، ولا للموسيقى في الإسلام، حيث يستند هؤلاء الفقهاء في «فتواهم» هذه إلى قوله تعالى: «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل لله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين» (لقمان 6). إن هذه الآية لا تشير إلى الغناء، ولا إلى الموسيقى، وإنما تتحدث فقط عن لهو الحديث. وقد استند هؤلاء الفقهاء في تأويلهم لهذه الآية إلى أخبار أغلبها مشكوك فيه. وتتضمن سورة «لقمان»، التي تحتوي هذه الآية، على تقابلات بين من يؤمن ومن يكفر. ومن الحق أنها لا تروم تحريم الغناء، ولا الموسيقى، وإنما تقصد أولئك الذين كانوا يقومون بإلهاء الناس عن الاستماع إلى القرآن الكريم في زمن كان ينزل فيه شيئا فشيئا، حيث إن لله تعالى يشير في هذه الآية إلى بعض الذين كانوا يمنعون الناس من الاستماع للقرآن المجيد. لقد كان في إمكان لله تعالى أن يستعمل عبارة مباشرة تفيد قطعا تحريم الموسيقى والغناء، لكنه، ولحكمته، لم يفعل ذلك، لأن الأمر لا يتعلق بالموسيقى، ولا بالغناء. كما قام هؤلاء الفقهاء المتشددون بالاستناد في فتوى تحريم الغناء والموسيقى إلى الحديث القائل: «لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخمر والمعازف». فهذا حديث رواه البخاري، لكنه غريب، لانه ُروي بصيغ متعددة ومختلفة. صحيح أن الأحاديث النبوية الشريفة تُروى بالمعنى، لا باللفظ، لكن هذا الحديث ضعيف، فقد انتقده ابن حزم، كما أنه ورد في مواضع أخرى في صيغ أخرى. وهناك صيغة أخرى ورد فيها كل ما ورد في الصيغة أعلاه، لكن لم يرد فيها تحريم الخمر، إذ يقول فيه الرسول (ص) ما معناه: «في آخر الزمان تستحل أمتي الحر والحرير والمعازف». لم يتم ذكر الخمر في هذه الصيغة. وكلمة «المعازف» هي جمع ل «معزف» والمعزفة والمعازف لغة هو «الدف». هكذا، فالمعازف هي «الدفوف». ويروي أغلب المفسرين الأحاديث أن الرسول (ص) استمع إلى الدف، واستمتع به، ولم يحرمه، وهذا ما يعني أن الدف حلال، وإذا كان الدف حلالا من جهة، وحراما من جهة أخرى، فإننا أمام خلط كبير هدفه التقول على النص بغية تحريم الغناء والموسيقى، في حين أننا عندما ننصت إلى الكون، نجده قائما على أنواع مختلفة من أنواع الموسيقى؛ فحينما تهب الرياح على الأشجار، تحدث سمفونية موسيقية رائعة، كما أنه عندما تتكسر أمواج البحر على الصخور، نجد في ذلك إيقاعا موسيقيا راقيا. ولما تغرد الطيور، فإنها تصدر موسيقى جميلة. إضافة إلى ذلك، فإن تعاقب الليل والنهار يشكل موسيقى داخلية عميقة، كما أن أصوات الطيور والحيوان هي إيقاعات موسيقية، بل إن تنفس الإنسان نوع من أنواع الإيقاعات الموسيقية… لذلك، فإن هؤلاء الفقهاء المتشددون ينكرون على الإنسان جوانبه الروحانية والوجدانية. وهذا ما يفسر رفضهم للفنون والآداب والجمال، وكل ما ينتجه متخيل الإنسان، وهذا ما جعلهم بدون ذوق… وعندما ينعدم الذوق، يسود العنف والكراهية وتنحط قيمة الإنسان…. وإذا كان في كل المخلوقات شيء من روح لله، فإن هؤلاء الفقهاء لا يعترفون بذلك، بدليل أنهم يحرمون الموسيقى وكل ما يصدر عن مخلوقات لله من إيقاعات وأصوات…. إن هؤلاء الفقهاء لا يدركون أن للموسيقى والغناء أبعادا إنسانية عميقة كثيرة، وهذا جعلهم يحرمونها لأنهم يجهلون أبعادها وفوائدها… وبهذه المناسبة، يحضرني كلام الغزالي الذي يقول فيه: من لا يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج. لذلك أدعو لهؤلاء الفقهاء بالشفاء من علة فساد المزاج حتى يتمكنوا من الاستمتاع بالموسيقى وجمال الحياة. كما أدعو إلى الاستمتاع بالموسيقى والغناء وبكل نعم الحياة التي أنعم لله بها علينا، شرط أن يكون هذا الاستمتاع بما لا يضر الإنسان، ولا الكون…