لقد كنت من بين الذين يدعون إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وكان ذلك يعود ذلك إلى مناهضتي لتيار الإسلام السياسي المنغلق الذي يدعو إلى بناء دولة الخلافة الإسلامية. لكنني لا أنفي أن هناك من يطالب بفصل الدين عن الدولة انطلاقا من رؤية عميقة أحيانا، وهناك من يدعو إلى ذلك انطلاقا من رؤية سطحية أحيانا أخرى. ويبدو لي اليوم أن الفصل المطلق بين الدين والدولة ليس ضروريا، لأنه ليس هناك بلد ديمقراطي في العالم المتقدم قام بالفصل المطلق بين الدين والدولة. وإذا لم يكن ضروريا الفصل بين الدين والدولة بشكل مطلق، فإن ما ينبغي القيام به هو أن نضع الدين في علاقة بالدولة. فالقرآن منفتح ومتفتح، حيث له نفس حيوي، ولا ُيجمده إلا من أغلق باب الاجتهاد والتفكير في النص القرآني وتدبره. وتكمن قوة هذا النص في انفتاحه، مما يجعله متعدد المعاني ومنفتحا على تطور الإنسان والمجتمع والحياة. وبهذا المعنى، ليس هناك من مشكل في علاقة الدين بالدولة بطريقة متفتحة، لأن هذا الانفتاح هو ما يمكننا من البحث دائما عما جاء الدين من أجله. وإذا أخذنا مثال فرنسا التي تعتمد اللائكية، فإننا نجد أن الدولة قد قررت أن يكون عيد الفصح عطلة. ويعني الفصل بين الدين والدولة ألا يكون هناك تسلط باسم الدين، لأن التسلط باسم الدين أمر مرفوض من زاوية الدين نفسه، وكذا من زاوية حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها كونيا. لكن أن تكون هناك مؤسسات تابعة للدولة تحمي الدين وترعاه وتضمن حرية ممارسة مختلف الطقوس والشعائر الدينية، فهذا أمر مطلوب. وإذا كانت حرية التدين جزءا لا يتجزأ من حرية الإنسان في تنظيم علاقته مع الغيب، وإذا كان ضروريا أن تكون هناك سلطة تحمي الحرية لكي تكون حرة، فإنه من الضروري أن تكون هناك سلطة تحمي التدين لكي يكون حرا. وتجدر الإشارة إلى إن الدين شأن شخصي، حيث إن الفرد هو الذي يستطع الاعتقاد، لكن المؤسسات ليست فردا. لذلك، فهي لا تستطيع الاعتقاد. إن الدولة المغربية ضرورة دينية ووضعية في آن واحد، لأنها تُجنب المجتمع السقوط في مخالب التطرف والإرهاب. وإذا كان مؤكدا أن الفكر السلفي المتشدد قد استفحل في المجتمع بتخطيط من جهات أجنبية وتمويلها لتياراته، فإن الدولة وقفت في وجه تحويل المجتمع المغربي إلى مجتمع «داعشي»، الأمر الذي كان يمكن أن يدخل مجتمعنا المغربي في تطاحنات وحروب، ما كان سيقضي على تماسك اللحمة الوطنية. فقد كان في إمكان جماعة الإسلام السياسي التي هي داعش بالقوة أن تتحول إلى داعش بالفعل، لأنهما في العمق تسعيان إلى تحقيق الغايات نفسها. لذلك، فلا فرق بين هاته وتلك. لقد كان في إمكان جماعات الإسلام السياسي أن تستقل بالمساجد والمدارس وتؤسس مدارس جديدة بتمويل أجنبي، فتصبح هذه المؤسسات كلها مشاتل لتجميد العقول وتكريس إلغاء البعد الروحي للإسلام وتفريخ إرهابيين كثر وتجييشهم وتسليحهم في آن، ما كان سيحول حياتنا إلى جحيم ويقضي على وحدتنا الوطنية ووطننا العزيز كذلك. وللتدليل على انفتاح الدين في علاقته مع الدولة في المغرب، فقد قام النظام السياسي المغربي بالدفاع عن «مدونة الأسرة»، الأمر الذي شكل ثورة في حينه. لذلك يجب أن نعترف بأن هذه المدونة لم يكن ممكنا تصور إقرارها آنذاك بدون دعم الدولة، لأن جماعات الإرهاب الفكري كانت ضدها جملة وتفصيلا. وآمل أن يستمر بلدنا في مثل هذه الإصلاحات وغيرها، لأننا لانزال في حاجة إلى ذلك. وبناء على ما سبق، فليس الأولوية هي فصل الدين عن الدولة، بل إن ما هو ضروري اليوم، هو العمل على توفير الشروط الضرورية التي يمكن أن تساعد مجتمعنا على القطع مع الفكر والثقافة الجامدين وكلّ ما يعوق تحديث الفرد والمجتمع وتطورهما وانخراطهما في روح العصر….