أنهى الحزب الاشتراكي الموحد مؤتمره الوطني الرابع (19،20،21 يناير 2018)، باختيار "الأفق الجديد: بناء قوة المستقبل لتحقيق الانتقال الديمقراطي" أرضية سياسية. وتمثل الوثيقة، خطابا سياسيا تعاقد عليه المؤتمرون ليجعلوه بوصلة توجهاتهم وخارطة طريق إيديولوجي بعناوين برنامج اقتصادي وسياسي وثقافي. وبمواقف تحدد العلاقة بالنظام السياسي وأطراف التحالف، وشكْل الأداة التنظيمية المؤهلة لقيادة قوى التغيير بالانتقال إلى الملكية البرلمانية. سننطلق من هذا الخطاب المكتوب، لاستخراج عناصر المسألة الدينية، واسقراء علاقتها بالإصلاح الديني، باعتباره واحدا من مداخل الانتقال إلى الديمقراطية في السياق المغربي الراهن. نافذة: يتحدد أي خطاب بعناصر منها: مصدر/ منتج الخطاب ولغته ودلالته في سياقاته المختلفة. ويتضمن مدلول كلمة سياسة - في الغالب وارتباطا بموضوعنا- عنصرين: أولهما الدولة ونمط الحكم، وثانيهما العلاقة بالمجتمع. إذ السياسة مجال عمومي يعنى بتدبير شؤون الناس. ولذلك فهي مجال اختلاف وتدافع. وأما الدين فهي الفطرة البشرية المتسربة في الاعتقاد والمتجلية في الأخلاق. لذلك ترتبط بالحرية الفردية في علاقة الإنسان بعالم لا تدركه الأبصار. إنه الجانب الروحي والقيمي في الإنسان الذي يعبر عنه سلوكيا بالتدين، والذي يفترض ألا تتدخل السياسة لفرضه أو لمنعه أو لتقنينه ما لم يلحق الأذى بالمجتمع وما لم يمس بحرية الآخرين. ولما حمل الإسلام مبادئ في علاقة الدين بالسياسة، وفي علاقة الدولة بالمجتمع، قائمة على الحرية والعدالة، تدخل بعض الساسة الحكام، الذين تعارضت هذه المبادئ مع مصالحهم، فعملوا على إشاعة قراءة للدين، تقيد الإنسان وتستعبده للاستحواذ على المجال العمومي قصد تأمين المصالح. وسخروا لذلك علماء الدين المطواعين، فانتشرت ثقافة دينية حلت محل الدين. صارت مرتكز حركات تكفيرية عملت على معاداة العقل والعلم محجمة دور ثقافة الحرية والعدالة التي دعت إليها مختلف الديانات. ورغم محاولات كثير من علماء الدين المتنورين، تدخلت مؤسسات السلطة لصالح ثقافة التسلط وإلغاء حقوق المجتمع. ألا يكون الإصلاح الديني ضروريا، ومهمة من مهام الانتقال إلى الديمقراطية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ نود في هذه المقدمة الثانية، الانطلاق من النص المكتوب، باعتباره حمال مضامين هذه المسألة الدينية. الخطاب المكتوب: في وثيقة "الأفق الجديد" مهمة ثالثة، من المهام العشرة التي تعقب المقدمة. وفيها ثلاث مسؤوليات: 1- تدقيق العلاقة مع المسألة الدينية. 2- الرد على الذين يتهمون اليسار بمحاربة التدين. 3- تقديم إيضاحات حول منظور الحزب في التعامل مع الدين الإسلامي ومفهوم الدولة المدنية. وتوخيا لعلاقة مباشرة بين المكتوب، ننقل للقارئ نص الفقرة الشارحة: "لقد ظهر، من خلال الممارسة العملية في الميدان، أننا محتاجون إلى التأكيد على عدم وجود تعارض بين انتمائنا الديني وانتمائنا اليساري، وأن ما نرفضه هو نوع من التأويل المتحجر للنص الديني، وأساسا مع التوظيف السياسي للدين واحتكاره، وعلى أننا دعاة احترام حرية المعتقد واحترام كافة الأديان المتعايشة في الفضاء المغربي، وأننا نخوض معركة للتنوير والحداثة، وهي مفتوحة أمام مساهمة علماء الدين المتنورين، وتستهدف في الأصل، استئناف جوانب من المشروع الفكري لعلماء النهضة الذي انطلق في القرن التاسع عشر". وفي الوثيقة عناوين ذات صلة بالدين، ثقافة وسياسة: - في الباب الأول، عنوان مركزي يحدد الهوية: هوية يسارية متجددة، مستوعبة للتطورات، ومستفيدة من الوجه المشرق لتراثنا الديني والثقافي. - يضم الباب عنوانين فرعيين هما: موقفنا من المسألة الدينية – رفض الإرهاب وتقويض أسسه الفكرية والإيديولوجية. - في الباب الثاني، عنوانان هما: صعوبات في التدبير الديني الرسمي- احتداد النقاش حول الهوية والقيم. وبفحص متون عناوين المقدمة والبابين الأول والثاني، يمكن الوصول إلى المضامين التالية: - التراث الديني والثقافي المشرق واحد من الينابيع الثلاث التي يستمد منها الاشتراكي الموحد مبادئه ومنطلقاته النظرية والسياسية. - الدين مكون في هوية المجتمع، وبذلك تنطلق من إنسانية الثقافة، بالسعي إلى الرقي بالإنسان وتمتيعه بحياة فكرية وروحية وجمالية مكتملة. - مصالحة بين العلمانية والدين، وفي هذا تقدم نقدا للعلمانية الفرنسية، وتعتبر أن العلمانية أكبر ضامن للحرية الدينية ولممارسة الشعائر. وفي الفقرة الثانية من العنوان الفرعي: موقفنا من المسألة الدينية، نلفي الشرح التالي: "العلمانية تقوم على الفصل بين الدين والدولة، وتجعل من الدين قضية شخصية تعني الفرد في علاقته بخالقه". - اعتبار الدين الإسلامي ملكية جماعية للمغاربة، ومدلول الدولة المدنية فصل الدين عن الدولة، وليس عن المجتمع. لحمايته من التوظيف لأغراض غير دينية. - التقاء الأصولية المخزنية والأصولية الإسلاموية في "تسويق قراءة للدين قائمة على منهج مسوغ للتطرف والانغلاق والماضوية والاستعلاء". - للإرهاب مسببات وعوامل، وهو ثلاثة أصناف: إرهاب السلطة التي تستغل الحرب على الإرهاب لمصادرة الحريات- إرهاب الأصولية الإسلاموية التي تستغل الدين- إرهاب الدولة الذي تمارسه الإمبريالية أو الكيان الصهيوني للاعتداء على حقوق الشعوب وعلى سيادتها الوطنية وتقتل الأبرياء وترتكم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. والمهمة ذات العلاقة بالمسألة الدينية، هي القضاء على مسبباته والعمل على تقويض أسسه الفكرية والإيديولوجية وحماية فئات الشباب المهددة بالاستقطاب إليه. - الإصلاح الديني: بعد أن كان ثاويا خلف كلام نقد الخطاب السلفي المتزمت ونقد التوظيف السياسي للدين، تصرح الأرضية بأن الحزب، معني بالدعوة إلى إصلاح ديني. فتحت عنوان: موقفنا من المسألة الدينية، وردت صيغة "الإصلاح الديني" في التركيب التالي: "ليست هناك ديانة يمكن أن تعفي نفسها من اختبار الإصلاح الديني". وباعتبار العلاقات النصية في الخطاب، نلفي هذا الإصلاح مهمة ضمن المشروع الديمقراطي الذي يناضل من أجله الاشتراكي الموحد. إلى جانب التصور لا تقف الأرضية عند الموقف، بل تقترح: - نشر ثقافة التنوير والحرية، والدفاع عن قيم العقل والعلم والمعرفة والاجتهاد. - تخليص الدين مما ألحق به من عناصر الخرافة وثقافة الخنوع والاستغلال والتكفير. - مقاومة الثقافة التقليدية الموسومة بالتزمت، التي أنتجت قراءة حرفية وظاهرية للنصوص الدينية في قضايا كالإرث والزواج والإعدام... وحرمت الاجتهاد وشرعت الإقصاء والميز والقتل. - ربط الإصلاح الديني بالمشروع الفكري لعلماء النهضة في القرن التاسع عشر, - إشراك علماء الدين المتنورين في معركة التنوير والحداثة. وأما محور البرنامج (الباب الثالث) ومحور التحالفات (الباب الرابع)، فيتطرقان للعلاقة بالتيارات والحركات الإسلامية. فتقبلها الأرضية ضمن مكونات جبهة الانتقال إلى الديمقراطية بميثاق ملزم. وتحصر العلاقة معها، خارج ذلك، في الحوارات الفكرية الفردية العلنية المستقلة. وبتجميع وترتيل عناصر الحقل الديني، نلاحظ تعميما بدل تفصيل، وعدم التطرق إلى آليات تشغيل مقترحات هذا الإصلاح، وعدم الإشارة إلى مدخل أساس، ويتمثل في إعادة قراءة النص القرآني اعتمادا على التطورات المعرفية والمنهجية في علوم اللغة والخطاب وعلوم الإنسان عامة، والعلوم الحقة والتجريبية، بما لا يتعارض وقيم الإسلام في الحرية والعدل والمساواة، وانطلاقا من مبادئ الرحمة والتعايش والعالمية. امتداد الكلام: قبل 14 سنة، وقبل أن يتحول الاسم من "اليسار الاشتراكي الموحد" إلى "الاشتراكي الموحد، قدم المؤتمر الأول وثيقة مرجعية نصت على ما يلي: "إن حزب اليسار الاشتراكي الموحد وانطلاقا من موقفه المبدئي من كل توجه هوياتي، الهادف إلى إرساء مجتمع متفتح ومتعدد عوض مجتمع الطوائف، يولي كل الاهتمام للمحاولات الهادفة إلى قراءة النصوص المرجعية من زاوية ما يطرحه العصر من أسئلة قصد جعل الإسلام عنصرا مساهما في تحديث المجتمع وتحريره من وصاية حراس التقليد والتخلف والجمود الفكري". وبقراءة لغة وعبارات البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الرابع (21 يناير 2018)، تنضوي عبارة "الإصلاح الديني" ضمن دلالات عبارات: نهضة ثقافية، إشاعة الثقافة التنويرية، ونصل إلى هذا المضمون باستدعاء نوع من التأويل. وباستحضار أدبيات أخرى، ونقاشات، والكلام المنقول إعلاميا، يمكن استخلاص المواقف التالية: - الثقافة الدينية المتزمتة: عامل تخلف – مساندة للاستبداد- خلفية ثقافية للإرهاب. - الأصولية الدينية: يمين متطرف- تنشر التفرقة بين مكونات المجتمع- توظف الدين وتستغل التدين لأغراض لا دينية- تستفيد من الديمقراطية للقضاء عليها بمشروع استبدادي- سياساتها ، عبر تجارب الحكم والحكومات، ليبرالية تبعية تساهم في التفقير. - السلطة السياسية: استغلال محاربة الإرهاب للسطو على الحقوق والتضييق على الحريات. - لقاء التزمت والتطرف والسلطة: عرقلة الانتقال إلى الديمقراطية. - المهام: نشر ثقافة التنوير- محاربة الأصوليتين المخزنية والدينية. - المَخرج: دولة مدنية تحترم الدين وتحمي التدين. - الطريق: إصلاح ديني و/بانتقال سياسي. - الهدف: مجتمع المعرفة والمساواة- قيم الاختلاف والتسامح- علاقات التعايش والحوار. تنزيل الكلام: إذا ربطنا الخطاب المكتوب حول المسألة الدينية، بديمغرافية الثقافة داخل الاشتراكي الموحد، كما استخلصناها من الملاحظات الأولى، حول استمارات قلة من المشاركين في البحث الأكاديمي الذي رافق المؤتمر الوطني الثالث سنة 2011، ومن الخطاب المروي بين أعضاء هذا الحزب، ومن تنوع ممارساتهم الثقافية السلوكية، يمكن المغامرة بملاحظة التنوع الثقافي التالي، بين أعضائه ومناصريه: علمانيون لا دينيون- علمانيون منفتحون- ديمقراطيون مسلمون. وكلهم ينافح من أجل دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة. وبتنزيل أفعال الكلام، في فضاءات السلوك وساحات العلاقات الاجتماعية، ومنتديات الحوار، يبدو أن هذا التنوع الثقافي ليس وليد انفتاح جديد، وفي الوقت ذاته، يجعل خطاب الاشتراكي الموحد واقعيا، وينقله من شعارات الحداثة إلى أفعال التحديث. فهل سيكون موضوع الإصلاح الديني عنصرا من عناصر انتقاله التدريجي من حزب في مجتمع إلى حزب لمجتمع، وإلى حركة مجتمعية تتآلف فيها مشارب ثقافية وتتوحد حساسيات وتتنافس تيارات لرسم معالم الاشتراكية والديمقراطية، بمضامين العدالة والحرية؟ في الانتظار: هل يتم الإصلاح الديني بلا برنامج؟ هل سيمثل المولود السياسي الجديد، الذي بشرت بمهامه أرضية الأفق الجديد حركة مجتمعية بمشروع مجتمعي؟ ننتظر أفعال الكلام... .................................................................................... 01 فبراير 2018 *باحث في الخطاب المغربي المعاصر.