حين يجعل الصحافي من الثقافة خلفية للصناعة الإعلامية هذه الشهادة حول كاتب ومكتوب، محض بوح ممكن مليء بالمشاعر والانطباعات والذكريات، فبيني وبين عبد الصمد بن شريف الكثير من وشائج القربى حلما ومسار درب ورفقة حميمية وغواية ومشتركا إنسانيا في لحظات الفرح كما في زمن الخيبات والانكسارات.. نحن معا جئنا إلى الإعلام والصحافة من بوابة الحلم، حين غادر عبد الصمد بن شريف زنزانته، عثر في هاوية الصحافة على حصن لتهريب الذكريات والجراح وما نجا من أمل بعد حادثة سير الاعتقال بالشرق، جاء من خيبة إلى حلم، كما هو جيلنا الذي انتقل من اليفاعة وجسارتها والحماس المتقد وهاوياته إلى حكمة العمر والرزانة التي يفرضها التقدم في الزمن ومراكمة التجربة، دون التخلي حتى بعد هذا العمر عن الحق في الأمل والحلم رغم ضيق أفق المجالات التي يسمح بها للإعلامي والمبدع المغربي للتقدم أكثر، ليس في السن، ولكن في التوهج والاستفادة من الخبرة والترقي الاجتماعي.. جاء عبد الصمد إلى الرباط من أقصى الهامش من "الريف المغندف" على رأي المبدع الأمين الخمليشي إلى هذه الرباط، معقل آمال وموطن أحلام وغواية متع بلا رقابة، من صهد الشرق إلى قلب هذه العاصمة الساحرة كما في متخيل أبناء الهوامش، وقد منحته الصحافة حيزا كبيرا لتأكيد ذاته في لحظة سياسية مفصلية من الزمن المغربي والإقليمي والكوني، انهيار جدار برلين ومعها الحصن الذي آوى أحلام اليساريين عبر العالم الثالث خاصة، هبة حقوقية، ميلاد الكتلة الديمقراطية، بداية الانفراج السياسي بإطلاق سراح الدفعات الأولى من المعتقلين السياسيين، ومن الناحية الإعلامية، بداية التحلل من قيود الرقابة الذاتية على الصحف وميلاد القناة الثانية والمخاض الأول للصحافة الخاصة أو المستقلة، وما رافق كل ذلك من عرضين للتناوب التوافقي وتغيير الدستور.. في هذا المعمان كان عبد الصمد بن شريف يهرب أحلامه على شكل حوارات ثقافية وإبداعية نشرت خاصة في الملحق الثقافي ل»الميثاق الوطني»، كانت مرحلة تيه لما بعد تجربة الاعتقال، ومنحته الصحافة حصانا ليعود بفروسية إلى مجال حيوي ليس بعيدا عما كان يحلم به. شكلت جريدة "الميثاق الوطني" يومها بوتقة أو مختبرا لتجميع كفاءات عديدة جاءت أساسا من اليسار الذي كانت قد لفظته الجامعات والسجون، والبحث عن أفق جديد في حقل الإنتاج الرمزي.. مع سعي حزب الأحرار يومها للعب دور حزب وسطي بين كتلة الوفاق والكتلة الديمقراطية، وسمح الانفتاح السياسي الرسمي والحزبي للتجربة الإعلامية للتجمع في استقطاب مجموعة من الأقلام كان بينها عبد الصمد بن شريف، الذي وجد في مجال الإعلام الثقافي والفكري ضالته وصبوته وحضنه الدافئ. كان الأمر أشبه بتعميق الرؤى وإدخال القناعات والتصورات السابقة إلى مختبر التحليل بشكل واع أو غير واع، ومجالا لتهريب الأحلام أو حماية ما تبقى منها من طيش سيف الانكسار.. لقد أنقذت الصحافة عبد الصمد بن شريف ومنحته غواية بلا حدود ،وأخلص لعشقها ووهبها قلبه وما ملك. كتاب "أسماء في الذاكرة" الذي نقرأه في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة، يعود في أصله إلى سنتي 1989 و1990، إنه باكورة أعمال بن شريف الذي اختمر اليوم واشتد عوده واكتمل نضجه، ولا زالت في ذهنه أفكار يانعة ومشاريع زاخرة نتوقعها بين الحين والآخر.. أن تكون صحفيا محاورا لقامات عملاقة في الفكر والإبداع والسياسة يفرض بالضرورة أن تكون قارئا ذكيا وفطنا لمشاريعهم الإبداعية والفكرية، قبل أن تحاور الروائي السوري حنا مينه على سبيل التمثيل، يفترض أنك قرأت منجزه الإبداعي "بقايا صور"، "الياطر"، "الثلج يأتي من النافذة" و"الشراع والعاصفة» وغيرها، بالإضافة إلى الحوارات التي أنجزت مع الكاتب وما كتب عنه، نفس الشيء يقال عن باقي الأسماء الكبرى التي حاورها الزميل عبد الصمد بن شريف، حيث نحس بعد الانتهاء من قراءة «أسماء في الذاكرة» أننا أمام صحافي نبيه، محاور ذكي لا يقوم فقط بتوليد الأفكار- كما القابلة- من ذهن المحاورين من حجم جبرا إبراهيم جبرا، جورج طرابيشي، علي أومليل، إدمون عمران المليح ومحمد الأشعري.. بل ينطلق من تصورات ومواقف، لذلك لا نعثر في "أسماء في الذاكرة" على أسئلة التصديق (الهمزة وهل؟)، التي تتطلب الإجابة بنعم أو لا، بل هيمنة أسئلة التصور(لماذا وكيف وأي) بلغة خفيفة الظل، أنيقة ومنتجة حول الأسئلة الكبرى المرتبطة بطقوس الكتابة، دور المثقف والثقافة، العلاقة بين الثقافة والسلطة، مرجعيات المبدع، دوافع الكتابة … نعثر في كتاب عبد الصمد بن شريف أيضا على وجود قلق فكري لدى الصحافي المحاور، وما تناثر من زجاج مرآة الإيديولوجيا المهشمة نلمسه مخبأ في ثنايا الكتاب وفي تفاصيل الحوار بصيغة نقدية، فقل لي كيف تحاور أقول لك: من أنت؟ عبد الصمد بن شريف مليء بالشغب الطفولي وكتلة من الأحلام، لذلك يحس معاشره أنه مليء بنوستالجيا تشكل ذاكرة مفتوحة على الرهانات المشتركة، كما هو عنوان أحد إصداراته، والعديد من كتبه موسومة ب"الذاكرة» كما في "أسماء في الذاكرة"، «أناشيد الذاكرة" و»ضد الغياب» لكنه لا يقف حيث كان بل يسعى دوما إلى صقل تجربته وتطوير أدواته الصحافية وتعميق مخزونه الثقافي، إذ يعتبر عبد الصمد بن شريف من كوكبة الإعلاميين الذين جعلوا من الثقافة والفكر خلفية للعمل الإعلامي، فهو قارئ نهم ليس فقط للمنجز الصحافي، بل متتبع جيد لما ينشر في مجال السياسة والفكر والإبداع والثقافة عامة، لقد نجح في أن يطوع اللغة في كتاباته الصحفية كما في حواراته التلفزيونية لأنه عاشق مبدع، وهو كاتب منفلت أيضا، عصي عن التطويع لذلك ظل دوما لا ينضبط لبيروقراطية المؤسسة، لطيف ولبق، ومتعالي عن الهشاشات التي تشكل مشتركنا الإنساني كجيل، وبعيد عن الدخول في حرب النمائم الصغرى، ورغم الحروب التي وجد نفسه فيها، فإنه لم يمل إلى أخلاق الجلاد بل كان يسعى للتخلص من جراح الضحية. *هذه الشهادة ألقيت في لقاء لتوقيع كتاب عبد الصمد بن شريف "أسماء في الذاكرة" بمدينة القنيطرة في 6 مارس 2020