يتمدّد الشرق الأوسط، بجيوشه وديبلوماسيته وحساباته ومليشياته وشطرنجه، إلى تخوم ليبيا، إلى الشرق المغاربي. وتتمدّد أفغانستان إلى تخوم مالي، والساحل جنوب الصحراء الإفريقية الشاسعة. من الشرق جاءت روسيا وتركيا ودول الخليج ومصر، تحمل رهاناتها إلى خاصرة أراضي عمر المختار، كي تجرّب توازنات الشرق الأوسط في شرق المتوسط. وفي مالي، دولة الساحل، تدخل دول الغرب، بما فيها فرنساوأمريكا ودول العناد الآسيوي، كالصين، ترافقها «القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي»، ثم الحركات الأخرى التي تنتعش في الهلال الصحراوي غير الخصيب. ويتقدّم المغرب الكبير، إلى أقل من نصفه: وحدهما المغرب والجزائر تقدّمان قراءة لاستراتيجيات التوتر والتفاوض في المنطقتين، في ما يشبه التنازع بين خطّي عرض، أحدهما متوسطي والثاني صحراوي. بالنسبة لليبيا، صار التوافق الذي ترعاه الدول القوية في العالم، أرضية لجدلية الفشل، يفيد بأن لا أحد منتصر على أحد، «فلنجلس إلى طاولة التفاوض على قاعدة تمكين الليبيين من فرصة أخيرة قبل الحرب الأهلية النهائية». وبالنسبة لموريتانيا، فهي تحتفظ بالموقف الأخف صدى، موقف الحد الأدنى، باعتبار الجوار الحارق مع الصحراء المشتعلة في الساحل، وصعوبة الاختيار بين الرباطوالجزائر المتقابلتين في ملف ليبيا، كما في ملف الصحراء المغربية، موضوع رهاناتٍ مغاربيةٍ متناقضة. تونس، بين كمّاشتين مغاربيتين لدولتين نفطيتين تعيشان معا صعوبة التحوّلات الكبرى لعالم التشظّي الحالي، الجزائر وليبيا، وتعاني من تداعيات توازناتها الداخلية. وكان من المعبر حقا أن يتحرّك المغرب الكبير، من خلال منظمة الاتحاد التي تجمعه ببيان في موضوع ليبيا، وقد قرأنا وتابعنا ترحيب الأمانة العامة لمجلس الشورى لاتحاد المغرب العربي بإعلان «كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح وقفا فوريا لإطلاق النار والعمليات القتالية في ليبيا، ودعت إلى مرافقة هذا المسعى، تعزيزا لنجاح العملية السلمية». وكان من الغريب، مع ذلك، أن أمانة الاتحاد لا ترى حربا أهلية بعدُ في ليبيا، لهذا أشادت «بالإتفاق الذي تمنته دائما ودافعا إلى إبعاد شبح الحرب الأهلية وانعكاساتها على وحدة ليبيا وسيادتها واستقرارها وازدهارها، والتحكم في ثرواتها واستغلالها في كنف الحوار والتوافق والمصالحة، وحافزا قويا لرسم معالم دولة ليبيا الجديدة بعيدا عن أي تدخل أجنبي». متمنيّات تبدو أبعد من متمنيّات الأعياد في بلادٍ تنحو نحو حروب الطوائف. متمنيّات تكاد تكون «عذرية» بدون جدارة سياسية لهذا الاتحاد في تقديم قراءةٍ، ولو من باب الموقف التاريخي لما يحدث في منطقةٍ توجد على فوهة قرن آخر مغايرٍ تماما لقرونها السابقة. ومن ذلك غياب قراءةٍ تربط التوأم الليبي بصنوه المالي في لعبة الأمم. تقول حوليات الخريطة السياسية في المنطقة إنه، منذ زلزالها سنة 2011، صار الربط بين ليبيا وبين دول الساحل وتناقضاتها، وبالأخص دولة مالي، شرطا في تحليل التحرّكات الدولية. ويكاد هذا الترابط يكون ترابط بطن تحبل بتوأمين، كلما تحرّكت منطقة استجابت لها الأخرى، بالتوتر نفسه على سلم ريختر الاستراتيجي. يكفي أحيانا قراءة حوار أو تتبع «باليه» ديبلوماسي أوروبي أو مغاربي، لكي نعرف هذا التواشج في الجغرافيا السياسية، وفي التوتر الإقليمي. وقد سبق للمركز الوطني للبحث الاستراتيجي الفرنسي أن أنجز دراساتٍ، بعضها يعود إلى 2013، حول انشغالات أوروبا، عموما وفرنسا خصوصا، عن تفاعلات دول المغرب الكبير. ولعل المقاربة الأوروبية، استراتيجيا، ترى في دول ساحل جنوب الصحراء، بالذات، جوارا ترابيا واجتماعيا ودينيا، بل حتى إثنيا، مع الكيانات المغاربية، في وقتٍ تعالج فيه الجوار الأوروبي من زاوية الرهانات الاقتصادية والأمنية والجيواستراتيجية في منطقة الهجرات والتهريب والجريمة المنظمة… إلخ. ومن زاويةٍ كهذه، تكون دول الساحل معرّضة «للأفغنة»، باعتبار قيام بنيات دولة إرهابية، تدعم العداء للغرب، سيما أوروبا شرق المتوسط، وتشكل امتدادا للخطط الأفغانية منذ القاعدة الأولى، في الفضاء الصحراوي الواسع جنوب الصحراء وفي الساحل الإفريقي. هذه القاعدة التي أعلن جزء منها بيعته لدولة الخلافة الإسلامية (داعش)، تضم أزيد من ستة آلاف مقاتل، موزّعة على التخوم الصحراوية، حسب المركز الأمريكي «إي جيه ووورلد» (ag world)، وهي تملك، بشهادة خبراء عديدين في الميادين العسكرية، أسلحةً لا تتوفر عليها بعض دول المنطقة. وفي الوقت الذي نتحدث نحن بلغة واحدة «غيبية» غير موجودة لدى دول المغرب الكبير في المعالجة، كل التحليلات والمتابعات الغربية تسلط الضوء على نقاط الخلاف وبناء السياسات المتنافرة أو المتنافسة. وفي هذه المعالجة، يتبين أن هناك اختلافات أوروبية – أوروبية، أوروبية – مغاربية، ومغاربية مغاربية أساسا، تجعل التوأم المغاربي، المفروض فيه تطوير تعاون متقدّم ومشترك، في وضع متنازع، لا سيما بالنسبة للعواصم الباحثة عن «مركزية» إقليمية تعطيها الريادة السياسية في المنطقة، كما أنها تتنافس تبعا لمواقف دول القرار الأوروبي في المنطقة، ففي الشأن المالي، كما في الشأن الليبي، لفرنسا دورها المركزي، فهي قادت قوات حلف شمال الأطلسي في التدخل ضد معمر القدافي، في العام 2011، يوم كان رئيسها هو نيكولا ساركوزي، ثم التدخل في مالي بعد سنتين، ومواصلة التتبع القريب لتطورات الوضع، تارة بشكل مباشر وتارة بشكل غير مباشر بتعاون متعدّد الأطراف الإفريقية. وعندما تكون فرنسا حاضرة، يكون المغرب الكبير موزّعا دوما حول قضايا تبدو، للوهلة الأولى، عنوانا لتلاقي التحليل وتلاقي المواقف، فالساحل يعد امتدادا جنوبيا للمصالح الحيوية لدول المغرب الكبير. ونذكر أن الجزائر تريد أن تلعب دورا في تأمين الساحل، وهي تعاند شياطينها، في تأمين منشآتها النفطية، كما حدث في ما سميت «عملية عين أمناس» التي أرعبت الدولة وأظهرت هشاشتها. والمغرب يقرأ التحرّكات الجيوسياسية من زاوية تأمين وحدته الترابية التي ما زالت نقطة عمل ثابتة في جداول مجلس الأمن، ويخضع لابتزاز كثير، قريب وبعيد، في هذا الشأن. وتتفق تحليلات كثيرة على أن فرنسا تجد صعوبةً في مواجهة أمريكا في الساحل. والدولتان المغاربيتان تعرفان هذه التفاعلات، وعليهما أن تتحرّكا «بالميزان»، كما قال محمود درويش في «مديحٍ الظل العالي»، فعليهما أن يعدّا المشاركة الأمريكية فرصة، فواشنطن تريد محاربة الإرهاب والنفط، ودولتا المغرب الكبير يجب أن تريا فيها مناسبة تعويض، بعد ما تم تسجيله منذ عقدين من انحسار وجمود في الاندماج المغاربي، وبعد فشل مسلسل برشلونة الداعي إلى تطوير علاقاتٍ قويةٍ بين أوروبا المتوسطية ودول المغرب الكبير وانهيار الاتحاد من أجل المتوسط.. وتعليق دور فرنسا المركزي في الأبيض المتوسط. وحقيقة الأمر، لا ليبيا وما تحبل به أرضها من مخاطر، ولا مالي وما قد تفضي إليه الأوضاع فيها من تفجّرات حدودية، دفعتا إلى تعاون استراتيجي يخرج المغرب الكبير من أدواره الفردية. ومسؤولية كل طرف سيسجلها التاريخ على كل حال، في تعطيل أدوار الشعبين في بناء استراتيجية مشتركة للسلم والديمقراطية. نشر بالعربي الجديد 25/08/2020