(وكنت السر والليل كاتمه) يقول المتنبي كاتم السر طبعا لايمكن أن يكون سوى إنسان عاقل، ولا يمكن أن نتصور بأن هذه الديمومة الزمنية الفيزيائية يمكنها كتمانه، ولكن مقصدية المتنبي تنحو منحى الربط بين الذاتي والموضوعي بين الخاص والكوني، كما لو أن الذات الشاعرة بسعة الكون الليلي كله تصير الليلة الواهبة، المحروسة، الافتتاحية ليلة كاتمة أيضا للسر. شعر المتنبي طبعا مليء بهذه الإشارات للمحايثة بين الذاتي والكوني. الليل محل الثقة بالنسبة للشاعر، لأن كتمان السر يفترض بدءا وجود ميثاق ثقة بين الطرفين. أحيانا يكون ثمن كتمان السر الموت، أو يصير السر مصير وجود بالنسبة لذات تختبر ثقله وفداحته. قد تطوح الأسرار بالحيوات وأحيانا أخرى ترتبط الأسرار لا بمصير ذات، بل بمصائر ذوات عديدة حين يتم تسريب أسرار جماعات وفرق ودول بأكملها، لذا كان السر دوما فرديا مرتبطا بمصير ذات أو ذوات قليلة العدد جدا ونادرة، وكان أيضا جماعيا مرتبطا بأنظمة سياسية ودول. لقد ارتبطت الأسرار، في هذا السياق دائما، بأجهزة ومكائن غامضة ومغلقة تسحق الوجود الإنساني والقانوني والحقوقي والاجتماعي للإنسان، مثل الأنظمة السياسية الدكتاتورية سواء كانت ستالينية فاشستية أو لاهوتية، ومثل أجهزة المخابرات وعصابات المافيا والجريمة المنظمة .لذا دائما ما كانت مشروعية السر محل نقاش .لماذا تستمر ممارسات التستر والاخفاء في الوجود؟ وحتى في الأنظمة الديموقراطية فإن التباساتها تشي برفض إشاعة السر، ليعرفه الآخر من جهة ومن جهة أخرى المطالبة بمعرفته وذلك لصالحها. لذا فإن السر، بعيدا عن الوضع الاعتباري للذات الشاعرة، يشجع أحيانا كثيرة على الاستبداد، ثقافة الأسرار، طقوسها، مرجعياتها، ميكانيزماتها القوى الساهرة عليها تمهد، بهذا الاشتغال البارانوي العصابي، عليها سرير الاستبداد. كل الممارسات والتجسيدات الاستبدادية البارانوية الصلبة سواء كانت مرتبطة بمنظمات أو أنظمة سياسية ودول، إلا ونلفيها ناهضة على ثقافة السر. سنة 2003 إبان غزو العراق من طرف جورج بوش والجيش الأمريكي، ظلت السلطات الأمريكية تخفي عن الجمهور السر الكامن وراء الأسباب الحقيقية لهذا الاجتياح الحربي ، وخلقت بالتالي حكايات وأكاذيب تبرر الغزو مثل توفر عراق صدام حسين على أسلحة دمار شامل . إزاء هذه السرية التي طبعت تحديد الأسباب واتخاذ القرار من طرف السلطات الأمريكية، ظهرت سرية أخرى، أي نوع من السر الأكثر مكرا. رأى المواطنون المعارضون للصراع بأن رأيهم تعبير فقط عن أقلية وينظر إليه بطريقة سيئة، حاولوا اللجوء إلى دائرة الصمت .للسر إذن دلالتان اثنتان وفقهما يتمظهر: فالسر هو ما يعرضنا باستمرار للاستبداد، لكنه أيضا هو ما يحمي من ضغوط وقمع المواطنين .لكن في الحالات كلها فإن السر يجب أن يحارب .لماذا ؟ لأن السر يشتغل وفق مبدإ الإقصاء إنه يبعد ويقصي وهو ما أشار إليه جورج سيمل عالم الاجتماع الألماني في القرن التاسع وأحد القلائل الذين اشتغلوا عليه. فإذا كان السر كفيلا بإيجاد رابط قوى جدا بين فردين فذلك لأن ثمن اشتغاله ذاك هو إقصاء طرف ثالث (غير مؤهل) .هكذا يمر السر عبر عملية تمييز بين فردين أنت وأنا أو بين مجموعة ونحن، ويتوافق تبعا لذلك مع إنتاج أو إعادة تأكيد نوع من انعدام التناسق المرتب بين الأفراد. نجد من جهة القلائل من الأفراد، أي البعض الذي يملك «الحق» في المعرفة، ومن جهة أخرى كل أولئك الذين ليسوا «بحاجة» لهذه المعرفة . لهذا السبب بالذات يرقى وجود الأسرار وفضحها خصوصا في مجتمعات طامحة إلى المساواة بين الأفراد والمواطنين، إلى مستوى فضائح غير مقبولة. يمكن لفكرة السر أن تصير مقززة، بشعة ومتعذرة الاحتمال. إنها تذكرنا بالملموس بأن ميكانيزمات التفويض المرتبطة ارتباطا وثيقا بالتميز الاجتماعي والسياسي وبتقسيم العمل، يمكنها أن تتحول إلى استغلال بشع للسلطة. لذا ومنذ عصر الأنوار ظل الصراع من أجل المزيد من المساواة مرتبطا بالاحتجاجات من أجل الوصول إلى المعلومة، وانتشار المعرفة ودمقرطتها، عبر نقد «ثقافة السر» التي تتستر خلفها المؤسسات الدولتية (نسبة للدولة) والشركات الكبرى. حين نقوم بنقد «ثقافة السر» نطرح تساؤلات حول جدوى هذا الأخير ومنفعته وحول الكم الهائل من الأشياء والمعلومات التي يتم حجبها وإخفاؤها عنا . حماة الأسرار عموما لايعترفون بحق الأفراد الشرعي في معرفة أسرار ما يقع في كل لحظة . إنهم يرفضون تطبيق هذا الحق وأجرأته وهو ما يعرض ثقة الأفراد فيهم إلى الاهتزاز والانمحاء تبعا لذلك، ويعرض التمثيلية السياسية التي هي أساس كل ممارسة ديموقراطية لخطر فقدان المصداقية .هنا بالذات يلعب المجتمع المدني بقواه الحديثة الحية دورا رئيسا في مساءلة المعرفة الرسمية، الاحتجاج عليها، تأزيمها ودحضها، لكن ليس انطلاقا من الفراغ والشعارات الجوفاء، بل من أنشطة وإنتاج نوع من الخبرة المضادة حتى يتم التأثير إيجابيا في تحويل المسارات والسيرورات التي داخلها تتخذ القرارات. حينها وبعد بذل مجهود دؤوب إيجابي وفعال، قد يتم الاعتراف بالحق في الوصول إلى المعلومة كيفما كانت طبيعتها ومضمونها. يلزم القول في هذا السياق بأن الحق في الوصول إلى المعلومة، ليس مجرد شعار أجوف يصير موضوعا للمزايدات من طرف الأحزاب والصحافة، التي هي في الحقيقة جزء لايتجزأ من سيرورة إخفاء المعلومات وطمسها وحجبها . يدخل هذا في إطار الاعتراف بحق غير الحاكمين في معرفة الطريقة تحديدا التي هم بها محكومون . حين يغيب هذا الاعتراف بهذا الحق، يسود الغموض بؤر اتخاذ القرار، وتتصف ممارسة السلطة من طرف الحاكمين بنوع من اللبس وانعدام الوضوح واحتكار المعرفة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى انتشار التفسير المؤمراتي للأحداث، أي تغليب نظرية المؤامرة في قراءة وتفسير كل شيء، وإنتاج رؤية زائفة ومغلوطة للعالم الذي داخله نعيش. هنا بالذات يصير الأفراد، كما قال المتنبي، مثل الأسرار التي يكتمها ليل السلطة الاستبدادية الطويل. حين يتضاعف الوعي لدى الأفراد بأهمية المعلومة غالبا ما يعبرون، بطريقة إيجابية وفعالة، عن رفضهم منح النيابة عنهم وتمثيلهم، أي منح السلطة لماكنات سياسية اقتصادية وإعلامية تتجاوزهم وتنظر إليهم من أعلى . إن فضح السلوكات السرية لمالكي السلطة أو الدائرين في فلكها، وللمثقفين المزيفين، هو في المقام الأخير تعبير عن رفض الأفراد لأن يتم التعامل معهم من طرف المؤسسات والفاعلين فيها كمجرد أغبياء تنطلي عليهم الحيل .طبعا الشرط الأساس لهذا الرفض الفضح هو ألا يكون غوغائيا، ديماغوجيا وشعبويا، لأنه حينها سيؤدي إلى نتائج عكسية بالغة الضرر. إن الرفض الفضح يجب أن يكون بالغ الجدية، مسلحا بالوثائق وهنا بالذات فإن إنتاج خبرة مضادة يكون سلاحا حاسما. لكن السر رغم كل سلبياته ومساوئ اشتغاله، كسر يقصي ويبعد كما كبيرا من الأفراد، فإنه يحضر أيضا كسر يحمي. إنها الدعوة إلى تكريس الحق في أن تكون للأفراد أسرار وأن يحافظوا عليها. الكثير من الأنظمة السياسية الدكتاتورية المغلقة في القرن العشرين نهضت على استباحة أسرار مواطنيها، مع ترك كل ما له علاقة بميكانيزمات اشتغال سلطتها غامضا وممنوعا على الآخرين معرفته. لكن الأنظمة السياسية التي أسست أو التي مازالت تؤسس لحد الآن وجودها وممارستها على اختراق سر المراسلات، الإنزال البوليسي لتفتيش منازل الخواص في أي ساعة من النهار والليل ، وعلى التصنت على الهواتف، وعدم احترام خصوصية الحياة الخاصة والأسرار الطبية والمهنية والمالية …إلخ، هذه السلوكات كلها التي تطال حيوات الأفراد تدفعنا للإحساس بالقيمة التي لاتقدر بثمن، التي يجب علينا منحها للسر وللإخفاء والكتمان لأن فيه، بالنسبة لنا، حماية لحيواتنا. هكذا تقول المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لا أحد يجب أن يكون موضوعا لتدخلات اعتباطية في حياته الخاصة، وأسرته ومنزله أو مراسلاته». تنهض الليبرالية السياسية أيضا على منح السر قيمة هامة، والإعلاء من شأنه ليكون حقا كونيا من حقوق الفرد . ذاك ما يتماهى وأطروحة الفيلسوف الانجليزي جون لوك حول ضرورة الاعتراف بالسلطة التحررية للخواص في «لامبالاة» مواطنيهم بهم، وهي السلطة المحررة (بكسر الراء الأولى وتشديدها) التي يكفي لأي كان مغادرة قريته أو مدينته الصغيرة والذهاب إلى مدينة كبيرة لاختبار أهميتها. وفي زمن انتشار الهواتف الذكية وآلات التصوير الصغيرة جدا والعديد من الاخترعات التكنولوجية التي تتجسس وتتلصص على حيوات الأفراد الخاصة بل الحميمية جدا، وفي زمن أصبح فيه سهلا جدا نشر الفيديوهات على اليوتيوب أو الفيسبوك ….. إلخ التي تمس بالحياة الخاص للناس وبأعراضهم، فمن الضروري وضع قوانين زجرية لاحترام الحياة الخاصة، منع التصنت على الهواتف، أو تصوير الناس عنوة ورغما عنهم، كما نرى الكثيرين يفعلون ذلك بكل صلف ووقاحة وبدون أدنى وعي، وصيانة المعلومات والمعطيات الخاصة بالأفراد وعدم تحويلها إلى سلعة وبيعها لتستثمرها شركات التأمين والشركات التجارية التي صارت تتدخل عبر رسائل «sms» على الهاتف في الحياة الخاصة لكل واحد منا. يجب إذن النظر إلى إشكالية السر من منظور إيجابي أيضا، فالسر ليس شرا في ذاته، ليس بالضرورة شرا كما تذهب إلى ذلك بعض الكتابات التبسيطية في التحليل النفسي. إن الإشهار والإعلان وإشاعة الأسرار، في الكثير من الأحيان هي التي يجب تبريرها أكثر بكثير من الإخفاء والكتمان في. حالات أخرى شبيهة، فإن كتمان السر والحفاظ عليه يعتبر قمة الإحساس المدني والمواطنة. أغلب الأنظمة البوليسية الدكتاتورية والفاشية اعتمدت على إرساء دعائم سلطتها على الوشاية la délation والوشاة les délateurs. سرية التصويت أيضا مهمة لأنه حين يتم فضحها وإعلانها، إما بتلقي رشاوي مالية أو عينية من المرشحين وإخبارهم بطريقة ما من الطرق (الآن أصبح البعض يصور ورقة التصويت بهاتفه الذكي قبل وضعها في الظرف حتى يراها المرشح ويمنحه مقابلا لذلك) فإن عملية التصويت تفقد قيمتها وجدواها. إن الحق في اللامبالاة هو حق ضروري ومؤسس لما يمكن تسميته «سياسة السر» .هناك أسرار ليس من الضروري إفشاؤها وإشاعاتها كالسر الطبي مثلا، إذ ليس مشروعا ولا أخلاقيا أن يفشي طبيب أسرار مرضاه الحميمية. لايوجد الحق في المعرفة ولا تكون له آثار إلا بوجود الحق في عدم المعرفة وواجب الصمت .يعني كل هذا في إطار الحياة اليومية المهنية والنضالية مثلا، بأن بإمكاننا أن نعارض بطريقة شرعية إيديولوجيا الشفافية الزاحفة والمهيمنة ، وفي الآن ذاته أن نرفض إفشاء المعلومات المتعلقة بنا للآخرين .لاشأن للمدير أو رب العمل الذي يشغلني بمعرفة أصولي وميولاتي الفلسفية والجنسية وديانتي… إلخ. الخطورة الآن في زمن هذه الشفافية المطلقة والهجومية هو أن العديد من الأسرار الشديدة الخصوصية أصبحت تذاع وتنشر بالرغم من أنها قد لاتفيد الآخرين. بين الشفافية وغموض الأسرار، بين إعلان السر وكتمانه، يجب إيجاد نوع من التوازن. لا يمكن التفكير في سياسة ممكنة للسر بدون إدماج قدر من الشفافية، أي نوع من التصور النزاع إلى المساواة والتحرر الجماعي لكن هل يمكن تفكير سياسة السر كهذه ، من جهة أخرى، إذا لم تدمج داخلها نوعا من الواقعية أي شكلا لتقيم الترتيبات وعلاقات القوى الكائنة. يظل السر إذن متأرجحا بين تصورين مثالي وواقعي، ويظل مكانه هو التربة المتحركة، الملوثة التي تفرزها الظروف والسياقات وتتحكم فيها الحكمة العملية. يطال هذا الوجود اليومي للأفراد كما يطال أيضا الحياة السياسية. إن الرهان الأساس الذي ينطرح هنا بقوة لايجب أن يكون محاربة السر ولا أيضا الدفاع عنه بشراسة، بل بالاحرى الصراع من أجل إمكانية مناقشته جماعيا. ما تحتاجه سياسة السر هو فضاءات مدنية مواطنية يعاد فيها توزيع ونقاش الأسباب الكامنة وراء الإخفاء والكتمان من جهة، ووراء الفضح وإذاعة الأسرار من جهة أخرى الأهم هو النقاش الجماعي حول هذه الأسباب، هل هي وجيهة أم مفبركة؟ ونزع طابع القداسة عن السر يكفي أن يقترح أفراد معارضون مثلا معيارا ترى فيه الجماعة من الأفراد، معيارا ذا قيمة عليا كحقوق الإنسان مثلا ليصير هذا النقاش الجماعي ممكنا، لكن بأدوات عقلانية فعالة وعارفة تحترم الرأي الآخر، بعيدا عن الغوغائية والشعبوية والسجال العدواني الذي يخفي الجهل وضحالة المعرفة التي تملأ الآن، صفحات الفيسبوك، وتويتر ويوتيوب ، حيث لا يفرق العديدون بين المس بالحياة الشخصية للناس، والتدخل فيها من جهة وبين النقد البناء من جهة أخرى . من بين الفضاءات التي يمكن مناقشة السر داخلها البرلمان ووسائل الاتصال المسموعة والمرئية، وأيضا الفضاءات الحوارية التي صارت الآن موجودة، وإذا ما تناسلت هذه الفضاءات والمؤسسات فسيكون ذلك مكسبا هاما لتدعيم وإغناء الحياة الديموقراطية، شريطة أن تكون هناك مؤسسات لحماية أي استغلال للمعطيات الخاصة للأفراد، أو أي تدخل عدواني في حياتهم الخاصة، ولحماية حرياتهم الفردية وحقهم في الحصول على وثائق إدارية بسهولة وسلاسة وحقهم في الأمن الشخصي. إن فضاءات ومؤسسات كهذه، من شأنها إن كانت خاضعة لتدبير معقلن وديموقراطي، ولحكامة جيدة، حمايتنا من الاستبداد، لأنه وحدها الأسرار التي لايمكن وليس مسموحا مناقشتها، تقود إلى الاستبداد…