ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! (محمود درويش) كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟ ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
بودّي لو أكون واضحة من السطر الأول، فأقول أن الجسد التقريريّ صعبٌ للغاية عليّ. بحكم تعوّدي على عالم الاستعارة، أعترف بأنني أجد صعوبة ما كانت لتكون في عهود قديمة لأقابل تلك الصور.. مع أنني سبق وأن زأرتُ بها على منصات البوح الافتراضي من قبلُ. ولكن، الرحلة تُنبِتُ للجناح قيده هو الآخر. تكلّمي أيتها الجبانة.. الخط ركيك، ولا بأس.. عن أمّي عن نفسها قالت: في المستشفى، أوقعتك القابلةُ على رأسك وأنت رضيعة. لعلها قصدت أن القابلة أفلتتني، وأمام تهديدات أمي اعتذرت منها القابلة ومنحتني اسمها. تمّ تعريف الجسد مبدئيا، وهي عادة لدى بعض العوائل أن تمنح اسمين لكائن واحد، فكنتُ أمال ابنة القابلة وحياة ابنة أمي. يقال أن الرّضّع ترعاهم ملائكتهم، ظاهريا، قامت الملائكة مشكورة بالواجب، باطنيا؟ وحده يعلم. كما يقول المثل الرائج.. فكان جسدا لا يمرض إلا صداعا، وموسميّا، مغص في البطن بسبب التهافت على ثمار أشجار الجيران، المنهوبة من قبلي أو مع عصابة من الرفاق. إذا استثنيتُ الغثيان الذي كان (وما يزال إلى حد ما) يصيبني في وسائل النقل، وهشاشة الأسنان تحت نظام اهتمام صحي شبه معطل في بيتنا، فإنه بإمكاني منح علامة عشرة على عشرة لجسدي من هذه الناحية (إلى إشعار آخر) ربما في سن العاشرة دخلتُ تحديا مع الرفاق إذ كان ثمة أشغال حفر قناة للصرف الصحي تمر بحيّنا، وتجرأتُ على قبول التحدي، وقفزتُ واثقة أنني سأهبط على الضفة الأخرى سالمة، وكان أن سقطتُ في قلب الخندق وهشمت يدي تماما. مازال شعوري بملمس التراب الذي لامسته بطرف قدمي، إذ كدتُ أحققُ فوزا عظيما على كبرياء عصابة محترمة من القلوب الصغيرة التي كانت تترقب النتيجة، مازال ذلك الشعور حيًّا في مكان ما من ذاكرة الذكريات. أمرتُ ألمي بالتزام الصمت خوفا من رد فعل أمي، برد الدم وانسدلت ستارة الأدرينالين، وتصاعد الألم، وحدثت نميمة، وعرفت أمي، كنتُ جالسة أبتلع ألمي عندما جاءت وسألتني: ما بك؟ كان بي لحظتها ثلاثة مشاعر متحدة: الخوف، والألم والفرح.. كنت سعيدة لأن أمي أطلقت سراح حنانها في لحظة مصيرية كتلك.. وتأجل موعد أخذي للمستشفى ليلة كاملة. شفيتُ لأن أمي رفضت أن تجرى عملية على يدي، ولأن سيدة فاضلة غسلتها بالماء الدافئ والصابون المحايد، ومسدتها بزيت الزيتون، ووسّدتها بقطن وشاش لمدة لا أذكرها. وشفيت، لسبب وجيه آخر كما نعلم وهو: الوقتُ! لم يكن جسدي العنصر المدلل لعاطفتي، وبمعنى آخر أنه أخذ حقه من التجاهل.. كان كافيا أن يتدخل إبليس لتلغى صفقة صداقتي معه.. وإلى حد بعيد أنسجم مع فكرة أن الخمس سنوات الأولى من حياة كل أحد تحدّد الخطوط العريضة لشخصيته/كيانه/اختياراته الخ. سألتني مرة صديقة مرهفة، وتحديدا في أيام الزئير الافتراضي: ما الذي يجرحك يا أمال؟ جاوبت: يجرحني الجرح الأول، البقية تحصيل حاصل. سنوات مرت وما يزال الجواب صامدًا: يجرحني الجرح الأول، غياب الملائكة في تلك المرة ثم، في كل تلك المرات، كتلة لزجة على فخذ الطفلة،، الرعب، التفاسير الحقيقية والتي منحتها كطفلة لما لم أفهمه، أو بالأحرى لما فهتمته تلك الطفلة التي كنتها.. وإلى اليوم يخاف هذا الجسد من زوار الغفلة، من أشرار وهميين حتى، لا فكاك.. الزائر مكَث، اللوثة استشرت، والقطيعة؟ ولكن كيف؟ هيهات. سوف أتجاهله، سأتجاهله لأحميه، سأعاقبه، سأدمره.. دون وعي، أولا، ثم بتكثيف الإرادة.. إرادة الخوف.. حفيف الخذلان وفحيح زائر الظهيرة الأدرد.. الظّلّيّ.. خللٌ في استقبال الأصوات، خلل في الحنان، خللٌ حيثما ولّيت.. وتشتعل العصفورة العاقلة.. هيا أمال.. نحرج العائلة.. ستخسرين، ستندمين، ستهزمين، ستموتين.. نداءات أسمعها لا يحللها دماغي.. إنه معطّل هو الآخر.. زاد الطول، زاد الوزن، انضافت السنوات، غادرت الطفولة مكسورة وبقيت الطفلة معاقة.. جسدٌ غير مناسب.. ربما.. مسافات بين الكلمات ومعانيها.. الغريب ترسانة حب، الغريبةُ تتقاطر دفئا.. تفرّقي في العابرين.. فضائح، لن يرحمها إلا الله. أتمنى. صفّر الحكّام، القضاة، الشهود، المتفرّجون: انتهى ما منحناك من وقت للزئير! متى؟ من خوّلكم؟ بفطرتي زأرتُ.. أوغاد! تساقطتُ كثلوجٍ سخيّة على نار روحي.. وأعيدها: محسودة قطط الشوارع، الكلاب الضالة، كل من عداي.. لِم لم تحصلي على ميدالية عالمية في النواح؟ يا ساتر! قدراتٌ في تخليق الضحك من قلب العدم.. أواه، تكونين ملعونة ولا ريب. اكتشفت المرآة في الوقت الذي يبدأن فيه بالتخفف منها.. التجاهل إذا، الذي فهمت بعد ألف زمان أنه الحضور الكامل.. ولأن الزائر زار وأقام، ما لم يكن ثمة من أسباب يفهمها إلا العميقون في علوم النفس، فقد تسبب في أن تظل الصور مكثفة.. وأن يعمل الدماغ بطريقة ليست شعبية.. وأن أنطلق في رحلتي الصغيرة كيفما اتفق، وأن تتلاحق الحياة، قطعة قطعة، دائما.. على الإيقاع ذاته: كيفما اتفق.. بروباغندا الاعتراف، ماذا بوسع المرء أكثر من ذلك؟ والبئر ليست دائما بغطاء. كان لي شغف بالتواصل عبر الرسائل، أكتب وأكتب لكل من أحب.. ههههه أكتب رسائل أسلّمها يدا ليد وأطلب الرد: أن تحضر الملائكة.. التي غابت حين الزائر زار، ودشّن الأقدار. جاءت الكتابة دون موعد.. شيئا كالصدفة، وقيل كلام عسليّ، واندهشتُ، وصدفة عاشت الصدفة، وبدا كما لو أنها ذلك الضيف الطموح الذي بيّت نيّة التملّك. وشُغِفتُ نثرا! فنثرت وتناثرت.. وإنها لطريقة عجيبة في الزئير! ومع الوقت، الرتابة، والتراكم.. اكتشفت أنني أرسم، رسومات منوّعة، واكتشفت أنه حاضر وأن قصته هناك: جسدي، في كتاباتي. في الفزاعة والطائر، في البحر والليل والمدينة والحذاء، في علامات الترقيم وحتى،، في المسافة البيضاء بين الحروف التي لا تقبل الربط! بهدلتني أيها الجسد، ولئن قبلت دعوة مجهول فيك فلآمل أن تتحقق فيك بدورها معجزة السلام. حق الجسد على الروح أن ترفق به. والسلام. شاعرة – الجزائر