ظهرت في فكرنا العربي المعاصر عدة ثنائيات مثل الدين والدولة، الأصالة والمعاصرة، الرجل والمرأة.. ألا يعد هذا الأسلوب انغلاقا أدى إلى نشوب المعارك زائفة بين المسلمين؟ كل الثقافات فيها هذه الثنائيات، ففي الثقافة اليونانية تجد ثنائية الصورة والمادة، العقل والمعقول، الحركة والسكون، الكم والكيف، وحتى في الحضارة الغربية الحديثة أو ما يسمى بالعصور الحديثة، ظهرت ثنائيات أخرى مثل الإنسانية والواقعية، الروحية والمادية، والرومانسية، الشكل المضمون.. الخ. فلا غرابة أن تظهر في ثقافتنا العربية الإسلامية مثل هذه الثنائيات، ولكن القضية أن السؤال الجدير بالطرح هو: ما العلاقة بين الطرفين؟.. لقد كانت العلاقة عند اليونانيين علاقة حاو بمحوي، ولكننا نلاحظ أن العلاقة عند الغرب قد أخذت طابع (إما/ أو) وهذا منطق يعتمد على المواجهة بين طرفين، وعليه رأينا في تاريخ الغرب الصراع بين المثالية والواقعية، وبين الكلاسيكية والرومانسية. بعد ذلك رأينا ظهور طرف ثالث تمثل في الكلاسيكية الجديدة والرومانسية الجديدة والمثالية الجديدة والواقعية الجديدة والتي جاءت لتفسر بعض معاني وجوانب الطرف الآخر.. نحن عندنا العلاقة بين الطرفين ليست علاقة تشابك ولا علاقة توالٍ وتوسط، ولكنها علاقة تعارض وهذا هو الخطر في هذا المنطلق. الناس يتصورون أن الله والطبيعة متعارضان مع أن الذي يقرأ القرآن الكريم يجد أنه أكبر كتاب قرب الطبيعة وأن النظر في الطبيعة عند الفلاسفة هو مقدمة للإلهيات.. لو أخذنا النفس والبدن لوجدنا أننا نضعهما في منطق التعارض من حيث إن البدن له مصير والنفس لها مصير آخر، البدن يفنى والنفس تبقى والأمر ذاته بين ثنائية الله والإنسان. المطلوب منا ليس إلغاء هذه الثنائيات، إذ إنها تعبر عن وضع الإنسان في العالم، بين القديم والجديد والنزعات المثالية والنزعات الواقعية، ولكن تصحيح العلاقة هل هي علاقة تضاد أو هي علاقة تكامل؟، لأننا لو تصورنا المسألة في هذا الاتجاه أي علاقة تضاد، فسينشأ لا محالة الصراع بين كافة الأطراف، أي بين السلفيين والعلمانيين، بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والجديد، وهذا هو الحال اليوم في العالم العربي. أما إذا كانت العلاقة تكاملية وأن كلا الطرفين وجهان لشيء واحد، بهذا الأسلوب فقط بإمكاننا أن نرد للعالم توازنه وللإنسان وحدته لأن البشر في نهاية المطاف نفس وبدن، والحياة دنيا وآخرة، فلا مجال للتصاريح ولا للغلبة لطرف على حساب طرف آخر إثارة وأثرة ولكن في نفس الوقت من خلال التكامل العضوي بين الطرفين. أنا أصيل ومعاصر في نفس الوقت، فيّ من القدماء والمحدثين والمطلوب اليوم هو تصحيح العلاقة وليس إلغاء السؤال.
n ما الذي حدث لتنحسر الشريعة الإسلامية لتبقى في مدارات الشكل فقط؟ pp الخوف!!.. في حقيقة الأمر الشريعة هي من صنع الفقهاء والمشرعين.. صحيح أن الكتاب والسنة فيهما المبادئ العامة، لكن مجموع القوانين هي من وضع الفقهاء.. يجب الإشارة إلى أن الفقهاء قديما كانوا يفرقون بين السياسة الشرعية في العبادات والمعاملات، ولو أخذت الأحكام السلطانية لوجدت أن الباب الأول في الوزارة.. فالقضية قضية حكم بالدرجة الأولى، وكذلك الأمر مع ابن القيم.. إذن لقد كان الفقهاء القدماء نظرا لشجاعتهم يدخلون على الشريعة من أبواب الحكم، السياسة، والاقتصاد والمعاملات والتجارة والإقطاع (القطاع العام وهي المراعي التي كانت تعطى للفقراء) والركاز (أي ما هو في باطن الأرض من معادن وخيرات) عندما خاف الفقيه وسيطرت الدولة على أسباب الحياة انكمش الفقه ودخل في الشكليات وغالى فيها وترك مصالح المسلمين.. معلوم في التاريخ أن الفقهاء نوعان: نوع أخذ الحلة والجبة والركب والمنزلة لأنه فقيه السلطان، ونوع ثانٍ دخل السجن ومورست عليه أنواع التعذيب لأنه أفتى بما لا يهوى السلطان.. وهكذا نجد في تاريخنا من الفقهاء الذين سجنوا ومنهم ابن حزم وابن تيمية والعز بن عبد السلام.. نحن اليوم نعيش مرحلة خوف من السلطان، لأنه يستغل الموارد الطبيعية والثروات ويوظفها لصالحه وصالح طبقته ولم يتجرأ أحد من الفقهاء على أن ينبهه إلى أن المال مال الله وأن الإنسان مستخلف فيما أتاه لله، له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، ولكن ليس له حق الاحتكار ولا الاستغلال ولا الاكتناز.. أين الفقيه الذي يمكن أن يقول ذلك؟!.. نحن نحتاج إلى فقيه الأمة وفقيه الشعب وليس إلى فقيه السلطان. n حال المسلمين اليوم يدعو إلى الرثاء، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة الدين هل يمكن أن تشكل العودة إلى الدين خطورة؟ pp يتوقف الأمر على فهمنا للدين. ماذا يعني الدين؟، لو كان الدين كما تصوره اليوم بعض الحركات الإسلامية المحافظة التنفير منع حرية الفكر رفض التعددية امتلاك الحق ورفض الرأي الآخر، لو كان فهم الدين على هذه الشاكلة فإن النتيجة بطبيعة الحال ستفضي إلى ما هو عليه الحال اليوم من اضطهاد للعلماء والمفكرين والأدباء.. أما إذا كان فهمنا للدين هو أنه مع حرية الفكر (سيد قطب، وهو أديب وشاعر، له مقال رائع عنوانه: الإسلام حرية إبداعية في الفن والحياة)، فإن الإسلام سيكون بألف خير.. وهناك كم هائل من التصريحات الواضحة في الإسلام التي تؤكد حرية الفكرة متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا وقوله تعالى: أفلا تفكرون (أفلا تنظرون) أفلا تعقلون، وبالتالي دعوة القرآن إلى حرية الفكر وإعمال النظر، بل إن الشك عند الجبائي وهو من علماء المعتزلة أمر ضروري، حيث يقول إن النظر ليس هو أول الواجبات، وإنما الشك هو أولها، مثل سيدنا إبراهيم عليه السلام شاهد كبير على هذا الأسلوب بلى ولكن ليطمئن قلبي.. للأسف الشديد، لقد أخذنا اليوم الإسلام بهذه الروح المتعصبة وأبعدنا الجانب العقلي فيه، وبالتالي لم يبق لنا إلا الانفعال والتعصب. وفي نفس سياق حديثنا، أذكر أن أحد كبار الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر وأظنه ليسنج قال: لو أعطوني الحقيقة في يميني والبحث عن الحقيقة في يساري لاخترت يساري. إن عظمة الإنسان تكمن في البحث وفي الكشف وفي الوصول من المقدمات إلى النتائج، ولذلك ترك لنا الوحي القرآن والإسلام في خطوطه العريضة وترك مكانا للاجتهاد والاستنباط والمشاهدة والبراهين، بل إن الأشاعرة يقولون إنه حتى وإن تضافرت كل الحجج النقلية لإثبات أمر بأنه صحيح ما أثبتته، إذ لن يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية.. إن حجة عقلية واحدة تساوي آلاف النصوص لأن النص متشابك ويحتاج إلى منطق لغوي، فيه التقديم والتأخير وخاص وعام وأمر ونهي.. وبهذا الشكل يكون النص بحاجة إلى عمل كبير ليتضح ويضبط ويتحول من متشابك إلى مختص، أما العقل فبديهي رياضي منطقي يستطيع أن يوصلك إلى اليقين.. في المنطق الإسلامي ونحن نرد على اليونان اعتمدنا على قاعدة ملخصها ما لا دليل عليه يجب نفيه. إن فهمنا للدين على منوال الجماعات الحالية، يعرض الإسلام والمسلمين إلى خطر كبير يمس أساسا حرية الفكر والأمن الاجتماعي وسلامة الدولة، ولكن لو فهمناه كما فهمه المعتزلة والفلاسفة والفقهاء الأوائل من أهل الاستنارة لكان الدين الإسلامي أحد عناصر التقدم. n لكن واقع المسلمين اليوم معاكس تماما، إذ إن بعض المفكرين يرون أن الإسلام في الوقت الراهن لم يستطع الانسجام مع مفهومي الحرية والديمقراطية بسبب تنامي تيارات إسلامية ذات نزعة أصولية راديكالية ترفض التعامل مع الآخر.. كيف تنظرون إلى هذه الإشكالية؟ pp عندما نتكلم عن الإسلام يجب أن نفرق بين مستويين: الإسلام من حيث هو كما نعرفه ونقرأه ونعرضه للناس في الكتاب والسنة، والإسلام باعتباره متغيرا سياسيا، أو ما يسمى بالإسلام السياسي، فهو ظاهرة اجتماعية وسياسية نشأت في الأربعة عقود الأخيرة لظروف معينة. لقد كانت الحركة الإسلامية متصدية للاستعمار في القرن التاسع عشر ومنها خرجت كل حركات التحرر الوطني خاصة في المغرب العربي. أذكر أنني كنت في باريس أثناء حرب التحرير الجزائرية، وكنت ألتقي ببعض الجزائريين الذين كانوا يحملون في جيوبهم الإيمن القرآن الكريم وفي جيبهم الأيسر صورة جمال عبدالناصر.. وبهذا الشكل كان الوطن والدين شيئا واحدا ومتماهيين.. ولما نجحنا في حركات الاستقلال جاءت الدولة الوطنية حصيلة الاستقلال فسيطر عليها العلمانيون وأبعدوا عنها الإسلاميين وهذا ما حدث في حالة مصر، وعندما جاءت الجمهورية الثانية وأرادت التخلص من الناصريين أخرجت الإسلاميين من السجن سنة 1971م.. وبعد ارتماء السادات في أحضان أمريكا والصلح مع إسرائيل بإمضاء اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام انقلبت الحركة الإسلامية عليه وصفته جسديا وبدأت تستأسد في الحياة السياسية.. إذن الإسلام هو ظاهرة نفسية واجتماعية وسياسية غير شرعية. ومن خلال هذه الحالة السيئة للغاية، نقول إن الإسلام السياسي لا يمثل الإسلام الأصيل، ومن هنا أقول لابد من تغيير ظاهرة الإسلام السياسي عن طريق إعطاء الشرعية للحركات الإسلامية حتى تمارس نشاطها في الحياة طبيعيا وتكون لها كلمتها اليومية وجريدتها وحزبها الرسمي لتدخل في حوار مع باقي التيارات الأخرى لتشكيل ائتلاف وبرنامج وجهة وطنية لأنه اتضح اليوم وبشكل جلي في كل الوطن العربي عدم قدرة أي تيار وحده أن يأخذ الأغلبية، لابد من حكومة ائتلافية وجبهة وطنية تضم الإسلاميين والليبراليين والمستقلين. يجب أن نسمح بالتعبير للجميع، وحتما سنتوصل إلى اتفاق وإجماع على مقاومة الاستعمار في فلسطين وعلى الاتفاق على مبدأ حرية المواطن ووحدة الأمة. في رأيي هناك إمكانية ومساحة للاتفاق بين هذه التيارات.