بطاقة: الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة غير المتفرغ في جامعة القاهرة. من مواليد (1935م)، حاصل على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة عام (1956م)، ودكتوراه الدولة من السوربون (باريس) عام (1966م). عمل أستاذاً زائراً في الولاياتالمتحدة (فيلادلفيا) (1971-1975م)، والمغرب (فاس) (1982-1984م)، ومستشاراً علمياً لجامعة الأممالمتحدة في طوكيو (1984-1987م)، وأستاذاً زائراً في العديد من الجامعات في فرنسا (تولوز)، وألمانيا (بريمن)، وأمريكا. وهو صاحب مشروع «التراث والتجديد»، على مدى نصف قرن، ويتكوّن من العديد من الجبهات، منها: إعادة بناء التراث القديم في (من العقيدة إلى الثورة) (علم أصول الدين) 1987م، (من النقل إلى الإبداع) (علوم الحكمة) 2000-2002م، (من النص إلى الواقع) (علم أصول الفقه) 2005م، (من الفناء إلى البقاء) (علم التصوف) 2008م، (من النقل إلى الفعل) (القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه) 2009-2010م. ومنها: الموقف من التراث الغربي في (ظاهريات التأويل) 1965م، (تأويل الظاهريات) 1966م، (مقدّمة في علم الاستغراب) 1991م، (فشته، فيلسوف المقاومة) 2003م، (برغسون، فيلسوف الحياة) 2008م، (رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا) 1973م، (نماذج من الفلسفة المسيحية للسنج) 1977م، (تعالي الأنا موجود لجان بول سارتر) 1977م. ويكتب الدكتور حسن حنفي في الثقافة الفلسفية، مثل (قضايا معاصرة) 1977م، (دراسات إسلامية) 1982م، (دراسات فلسفية) 1987م، (هموم الفكر والوطن) 1998م، (حصار الزمن) 2005م. وهو يكتب، أيضاً، في الثقافة السياسية: (من مانهاتن إلى بغداد) 2000م، (جذور التسلّط وآفاق الحرية) 2001م، (وطن بلا صاحب) 2008م، (نظرية الدوائر الثلاث، مصر والعرب والعالم) 2008م، (الواقع العربي الراهن) 2011م، (الثورة المصرية في عامها الأول) 2012م.
ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري. في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
n أشرتَ في كتابك «الدين والثقافة والسياسة» إلى ما يسمى ما بعد الأصولية. وكنتَ تقصد بهذا المصطلح اليسار الإسلامي أو الإسلام المستنير، واتهمت الغرب بالوقوف فحسب أمام ظاهرة الأصولية وغض الطرف عن التعامل مع ما بعدياتها. هل تعتقد أن هذا الموقف له علاقة برغبة غربية في نمذجة العنف ليكون جزءًا من ذرائعية التدخل بأشكال شتى، ولتكريس صورة الآخر العنيف والهمجي التي يقتات عليها وبها؟ pp الغرب ما زال ضحية بعض الصور النمطية المؤثرة فيه مثل ربط الإسلام بالتخلف والإرهاب واللاعقلانية، إلخ. فإذا حاول أحد أن يبين حقيقة المرأة في الإسلام، التنمية والتقدم في الإسلام وأعطى أسئلة من التاريخ انزعج الغرب من هؤلاء المفكرين الجدد الذين يحاولون تجاوز الصور النمطية التي اعتادوا عليها منذ أيام الاستشراق والاستعمار إلى آخره، وبالتالي أنا أحزن عندما أرى في وسائل الإعلام المصرية أن الرجل يضرب المرأة. نحن نعطي من يريد تشويهنا المادة التي يشوهنا بها ومن ثم فإن أهمية اليسار الإسلامي هو الخطاب الثالث. فقد واجهت الخطاب السلفي الذي يعرف كيف يأخذ ولكنه لا يعرف ماذا يأخذ. فهو يدعونني إلى الأخذ بالأحكام كافة الحدود ومنع الاختلاط وكذا. ثم يتحدث أيضًا عن الحرية والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية لكنه لا يعرف كيف الوصول إليها في الواقع، فهو مرة يسميها اشتراكية ومرة يسميها قومية ومرة ليبرالية. أنا أريد أن أعطي خطابًا ثالثًا يعرف كيف يقول، أي يستعمل لغة التراث الإسلامي الذي تحول إلى ثقافة شعبية وماذا يقول ليتحدث عن مصالح الناس. فما زال يؤثر فينا ما حدث للمصري الذي ضربه ابن عمرو بن العاص عندما قال له عمر: لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ هذه هي الليبرالية. عرابي وقف أمام الخديو توفيق في قصر عابدين وقال له قولته الشهيرة التي صارت مثلًا: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فوالله لن نستعبد ولن نورث بعد اليوم». لقد أخذ الرجل مطالب الناس وعبَّر عن رغبتهم في انتزاع الحرية. الأفغاني يقول مثلًا: عجبت لك أيها الفلاح، كيف تشق الأرض بفأسك ولا تشق بها قلب ظالميك. حتى القرآن يصف أخوين أحدهما عنده 99 نعجة والثاني له واحدة. الأول يريد الاستيلاء على نعجة أخيه. الأول لديه كل شيء والثاني ليس لديه شيء. إن أغنى أغنياء العالم من أمتنا وأفقر فقراء العالم من أمتنا أيضًا. هذا ما جعل اليسار الإسلامي يخاطب قلوب الناس. n ولكن أين صوت اليسار الإسلامي اليوم؟ pp لعلك تذكر أنني أصدرت أول مجلة تحمل اسم هذا التيار عام 1982م لكنها صودرت بعد أول عدد وذهبتُ بسببها إلى المحاكمة. لكن للأسف اليسار الإسلامي الآن ليس له منبر وليس له تنظيم ولا جمهور لكنه في قلوب الناس. ستعرف ذلك إذا ذهبت إلى أواسط آسيا مثلًا. n هل ترى نجاحًا لمشروع اليسار الإسلامي عبر سنواته الماضية؟ pp نجح في القلوب لدى الأغلبية الصامتة. وعندما يظهر يتجلى كما هو الحال في مهاتير محمد وقد تعاملت معه في معهد الدراسات الإسلامية الذي أسسه للنهوض بمشروع 2020، وتعاملت مع عبدالرحمن وحيد في ماليزيا وما زالوا يرسلون إليَّ العديد من الباحثين ليستمعوا وجميعهم باحثون شباب وأساتذة يطرحون عليَّ ما يفعلون وأناقشهم فيه. عبدالرحمن وحيد كان رئيسًا للجمهورية وكان تلميذًا لي في جامعة القاهرة وكذلك أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا كان تلميذي في جامعة القاهرة، وكذلك رجب طيب أردوغان جاء إلى القاهرة واستمع إليَّ لكن السياسة استدعته. n مشروعكم في مجمله يقوم على استعادة نوع ما من الإسلام شأن مفكري اليسار الإسلامي. بالطبع ثمة أهمية لثورة فقهية كاملة كما ترون، لكن النتيجة في النهاية تتحصل فيما انتهى إليه محمد أركون من ضرورة العودة إلى ما أسماه إسلام الصفاء الأول. ألا ترى أن ثمة خطرًا من وصول مشروع الإسلام السياسي إلى الحكم؟ pp الخطورة موجودة إذا ما دخل هذا المشروع إلى الحكم. التجربة الغربية نجحت؛ لماذا؟ مارتن لوثر حاول، وجاء هيغل وحوَّل العقيدة المسيحية إلى فكر. التثليث ليس الأب والابن والروح القدس لكنه الجدل بين الموضوع ونقيضه ومركبه، وهذا الجدل في التاريخ والأسرة. كنت أشرح للطلبة هذا الكلام فيقولون: إنهم لا يفهمون منه شيئًا، أقول لهم. مش فاهم التثليث؟ لكنك تفهم تثليث: «أنا والعذاب وهواك» هذه هي الهوية والواقع والآخر. ثم جاء الهيغليون الشبان وتساءلوا: ما الذي سنعمل بهذا الفكر وكيف نوظفه؟ لا بد من تركيبه على الإنسان والحرية وعلى الوعي إلخ، وكونوا تيارًا اسمه اليسار الهيغلي، ثم أتى ماركس وقال: ما الذي أفعل بالإنسان والوجود الذاتي والوعي؟ أين المجتمع والصراع، من هنا قدم نقدًا لنقد النقد أو يسار اليسار. n ولماذا لم يتحول الفكر عندنا إلى تطبيق يمس حياة الناس؟ pp عيبنا أننا نريد الانتقال من الدين إلى الثورة من دون تحويل الدين إلى فكر، ثم ننقل الفكر إلى الواقع. وهذا ما حدث مع الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، ومع دعاة التيار العلمي مثل فرح أنطون وشبلي شميل وإسماعيل مظهر الذي قضى حياته يدافع عن دارون. نحن نريد أن نقفز على المراحل، لكن هذا يمثل السبب الرئيس في أننا كلما ننهض نقع ثم نقوم فنقع، سواء من يقوم بذلك الشعب أو النخبة العسكرية. n هل تعني أن النخبة الثقافية هي فقط التي لم تُجرب؟ pp نحن لم نجرب حتى الآن النخبة الثقافية، كما حدث في الثورة الفرنسية. لكن يظل الخوف أن تقع النخبة الثقافية في أخطاء جسيمة بسبب تملقها للجماهير أو رجال الدين. n كنت أحد دعاة ما يسمى ب«ريح الشرق» وهي فكرة أظنها لم تلقَ صدًى في الواقع السياسي الإسلامي؟ pp أنا من الذين ساعدوا في تعزيز فكرة «ريح الشرق» فهناك جماعة إسلامية في إسطنبول عملتُ معها على تأسيس جماعة تحمل هذا الاسم. وكنت أدعو عبرها إلى كسر طوق التبعية. كنت وما زلت أرفض الإذلال التركي أمام الاتحاد الأوربي بسبب أنهم مسلمون. فما زال الغرب يذكر حصار الأتراك لفيينا، وما زال هناك حي تركي في فيينا. هم لا ينسون تاريخ الإمبراطورية العثمانية. n كيف ترى، بعد مرور عشرات السنين، منجز مفكري اليسار الإسلامي محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبد لله العروي وغيرهم. ما الانتقالة التي تراها تحققت في العقل العربي بعد مرور كل هذه السنين؟ pp الثقافة المغربية بطبيعتها لا تتحمل إلا نجمًا واحدًا. هي ثقافة البطل الواحد. فكان عبد لله العروي أولهم بعد محمد عزيز الحبابي. الأول في الشخصانية والثاني في الماركسية. ثم جاء محمد عابد الجابري فأزاح هذين النجمين وأخذ مكانهما. والآن بعد أن رحل الجابري جاء طه عبدالرحمن ليملأ الفراغ بالعقل الكوثري. وهناك آخرون، لكن طه عبدالرحمن هو أشجعهم وأبلغهم. أما من ناحية التقييم فإن «نقد العقل العربي» للجابري فيه صدى لكانط في كتابه «نقد العقل الخالص» و«تكوين العقل العربي وبنيته» فيه صدى للمنهج البنيوي كما يعترف الجابري في المقدمة. تكلم الجابري عن العقل الأخلاقي من دون تكوين أو بنية، ثم عن العقل السياسي، وقال لي: إنه كان يريد أن يكتب جزءًا خامسًا عن العقل العلمي وجزءًا سادسًا يختم به دراسته عن العقل الغربي. لكنه لم يستطع وشعر بأنه ما زال في ثقافة مغاربية إسلامية لا تستسيغ كثيرًا موضوع العقل الغربي وبخاصة أن هناك من الأمازيغ أي من البربر، وهم الذين فتحوا الأندلس، من يرى في ذلك رنة عرقية. على أية حال لم يستطع الجابري إكمال مشروعه، ونظرًا لأنه يعيش في بيئة إسلامية كتب تفسيرًا تقليديًّا للقرآن من الفاتحة إلى الناس في ثلاثة أجزاء صدرتْ أخيرًا، ولا يعلم أحد عنها شيئًا.