الخرافات والأساطير مجرد اعتقادات أو أفكار قائمة على مجرد تخيلات دون وجود مسبب عقلاني أو منطقي مبني على العلم أو المعرفة، وترتبط هذه الاعتقادات بفلكلور الشعوب أو بالأنماط العليا للتفكير، حسب التحديد الذي وضعه لها جيلبيرت دوران، حيث إنها عادة تمثل إرثًا تاريخيًا تتناقله الأجيال وقد تكون دينية أو أسطورية، أو ثقافية أو اجتماعية، وقد تكون شخصية ترتبط ببعض الأفراد الذين يصنعون خرافاتهم بأنفسهم، أو يدفعون الآخرين المحيطين بهم إلى صنعها والتكتل حولها. قد يكون الكراكن أكبر وحش يمكن أن يتخيله البشر، ذلك الكائن القادم من الأساطير الاسكندنافية القديمة، والتي تزعم أن مخلوقات ضخمة لديها ثمان أذرع طويلة تطارد البحارة من النرويج عبر أيسلندا وعلى طول الطريق إلى غرينلاد، وتبتلع بأذرعها السفن في لمح البصر، وتغوص بها إلى الأعماق البعيدة. فكان للكراكن براعةً في مضايقة السفن، حيث زخرت حكايات البحّارة بما في ذلك التقارير البحرية الرسمية، بمعلومات تفيد بأن تلك المخلوقات تهاجم السفن بأذرعها القوية، وإذا ما فشلت تلك الاستراتيجية، فإن هذا الوحش يبدأ بالسباحة في شكل دوائر حول السفينة، مما يخلق دوامة عنيفة تسحب السفينة إلى أسفل، كما يمكن للوحش التهام طاقم السفينة بأكمله في وقت واحد. ولكن على الرغم من سمعته المخيفة، كان للكراكن فوائد أيضاً.. فوفقاً للأساطير كان الكراكن يسبح في الماء مصحوباً بمجموعات ضخمة من الأسماك التي تتدحرج من أسفل ظهره عند خروجه على سطح الماء، وبالتالي كان بإمكان الصيادين الشجعان أن يخاطروا بالإقتراب من الوحش للحصول على الأسماك الوفيرة. هل الكراكن حيوان حقيقي ؟ يعود تاريخ اسطورة الكراكن إلى عام 1180 في النرويج ، وكما هو الحال مع العديد من الأساطير، اعتمدت مشاهدات الكراكن على مشاهدة حيوان حقيقي، وهو الحبار العملاق ! فبالنسبة للملاحين القدامى، كان البحر مكاناً غادراً وخطراً، ويخبيء في أعماقه الكثير من الوحوش التي لا يمكن تصورها أو تخيلها، ومن المرجح ان أي لقاء مع حيوان غير معروف سوف يكتسب ميزة أسطورية من قصص البحارة، وبعد كل هذا سوف تتطور تلك القصص تدريجياً لتصل إلينا بهذا الشكل الخيالي . ولكن كانت أسطورة الكراكن قوية بما يكفي لضمها في أول استطلاعات علمية حديثة في اوروبا عن العالم الطبيعي في القرن الثامن عشر، حيث قام “كارل لاينايوس” -والد التصنيف البيولوجي الحديث- بضمّ الكراكن إلى شعبة الرخويات من طائفة رأسيات الأرجل، وذلك في الطبعة الأولى من Systema Naturae 1735. ولكن عندما تم العثور على حيوان عملاق من الرخويات تقطعت به السبل على شاطئ دانمركي عام 1853، قام عالم الطبيعة النرويجي جابيتوس ستينستروب بدراسته ووصفه بأنه “حبار عملاق” من نوع Architeuthis dux السبيدج العملاق، وهكذا أصبحت أسطورة الكراكن حقيقة في عالم كائنات الحية، وأصبح الحبار العملاق هو الصورة الحقيقية للكراكن الذي نشأ من الخرافات. وبعد 150 عاماً من البحث عن الحبار العملاق الذي يعيش في جميع محيطات العالم، لا يزال هناك جدل كبير حول ما إذا كان هناك نوعاً واحداً منه أو هناك ما يصل إلى 20 نوعاً، وبلغ طول أكبر حبّار من نوع Architeuthis الذي تم العثور عليه إلى حوالي 18 متراً، بما في ذلك الأزواج الطويلة جداً من المجسات ولكن الغالبية العظمى من هذا النوع التي تم العثور عليها كانت أصغر بكثير. جدير بالذكر أن عيون الحبّار العملاق هي الأكبر في المملكة الحيوانية كما انها ثاقبة في أعماق الظلمات التي تسكنها (حيث تعيش على أعماق تصل إلى 1100 متر وبما تصل إلى 2000 متر تحت سطح البحر) . مثل بعض أنواع الحبار الأخرى، لدى Architeuthis جيوب في عضلاتها تحتوي على محلول أمونيوم أقل كثافة من ماء البحر، وهذا المحلول يسمح للحيوان أن يطفو تحت الماء ، وهذا يعني أنه يمكن أن يبقى ثابتا دون السباحة بنشاط، كما أن وجود الأمونيوم غير المستساغ في عضلاتهم ربما يكون السبب في عدم تعرض الحبار العملاق للصيد حتى الإنقراض. هل الحبّار العملاق مفترس؟ لسنوات عديدة، ناقش العلماء ما إذا كان الحبّار العملاق صيّاداً رشيقاً وسريعاً مثل المفترس القوي الذي جاء في الأساطير، وبعد عقود من النقاش تمكن بعض الباحثين اليابانيين T. Kubodera وK. Mori من تصوير الحبّار العملاق Architeuthis في موطنه الطبيعي على عمق 900 متر شمال المحيط الهادئ، ما أثبت أنه سبّاح سريع وقوي، ومفترساً شرساً بمخالبه القوية التي تنقض على الفريسة. ولكن على الرغم من حجمه وسرعته إلا أن الحبّار العملاق لديه مفترس طبيعي وهو حوت العنبر، حيث عادة ما كانت تلك الممعارك بين هذين الجبارين متكررة وعنيفة، ومن الشائع العثور على العديد من الندوب على جلود حيتان العنبر التي تتركها مخالب الحبار وأذرعه التي تمتلك مصاصين مبطنين بأسنان حادة، ولكن الحبّار العملاق لا يمتلك عضلات في مخالبه لخنق الفريسة، ولذا لا يمكنه أن يتغلب أبداً على حوت العنبر، ويكون خياره الوحيد دائماً هو الفرار باستخدام سحابه كثيفة من الحبر الذي يفرزه. على الرغم من أننا بتنا نعرف الآن أنه لم يكن مجرد أسطورة، إلا أن الحبّار العملاق ربما يكون أكبر حيوان مراوغ في العالم، مما أحاطه بهالة من الغموض على مر السنين . بل إن كثيرا من الناس لازالوا مندهشين من وجوده في الواقع، فبعد الكثير من الأبحاث العلمية، لا يزال البعض يؤمن بأن الكراكن حيوان أسطوري أكبر بكثير من الحبّار العملاق، ومازال هذا الكراكن يعيش في قصص الخيال الشعبي بفضل الأفلام والكتب وألعاب الكمبيوتر التي تُظهر وحشاً عملاق يترصد السفن التي يقودها بحّارة متهورون.