عندما رحل، كان ممتلئا بما لا يرحل.. كما شظية كما التماعة في قاموس شاعري، دامت قرنا كاملا عاشه بالصمت والصبر، وأحيانا كثيرة بالمزيد من الطعنات. كان يترك الوطن وراءه كاملا في الحب، حبه هو وكاملا في بقائه… للمتأمل أن يتساءل: كيف اهتدى التاريخ في وعي الملك الحسن الثاني إلى معادلة مفارقة: رجل سلاح قديم ومعارض شرس، هو الوحيد الذي يمكن أن يأتمنه على السلاسة في ثلاثة انتقالات: هو إلى دار البقاء والعرش إلى ولي العهد… والبلاد إلى مسارها الديموقراطي؟ ربما عاد إلى أول السيرة، في السلاح الوطني، وأول السيرة في الوفاء الوطني، وإلى أول مذكرة رفعها اليوسفي إليه، باسم الاتحاد الوطني، موقعة باسمه وبصمها عبد الرحيم بوعبيد بديباجته، فتواطآ معا على التوقيع على مذكرة قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في ذلك الربيع الملتهب من سنة 1962… ربما، ربما مثلما مثلما… لكن التاريخ يضع الذين يحسنون الحديث إليه، في كل منعطف يريده، فيجد عبد الرحمان نفسه قيِّما عليه، بدون مجاملة مع التاريخ، قال كلمته في ما قدمه من السياسة، وانتقد ما يجب أن ينتقد، واستعاد مثل رجل تاريخ لا ينفد، حيويته في فبراير 2011، عندما هلل ليقظة الشعوب الخارجة إلى الشوارع بحثا عن نفس جديد لمجدها… يا قلب الرزية، إن ما نراه اليوم من السياسة، هوما يقنعنا بأننا فعلا عميان، وإلا لماذا نسكت على كل هذا الهباء.. هذا الهزال من الذين يريدون أن يلطخوا، بأثر رجعي، سيرة أحسن الساسة؟ آه يا قلب الرزية إن العالم يعرض عليك حدادا.. كأنما صمته، كان طريقته في الحديث إلى أصدقائه الذين رحلوا. كأنما الأحياء عليهم أن يكتفوا بالنظر إليه يسير الهوينى نحو التاريخ، دون أن يطلعوا كثيرا على ما يدور بينه وبين الذين رافقهم ورافقوه، ثم تركوه في الحياة وحيدا. وقلما تراوحت رمزيات العلامات في حياة رجل وقائد، بين الابتسامة والصمت، مثلما حدث مع اليوسفي، لهذا لا بد من البحث في صمته الخرافي، الذي جعله طبيعة ثانية، عن الكثير من الكلام. عندما سألني جامع كلحسن، وهو يعد برنامجه الخاص عن اليوسفي، السيرة والإيمان، “ما الذي يمكن أن تلخص به درس اليوسفي لابنتك ؟ قلت: الدرس، هو حياته كلها. لم أكن أبحث في البلاغة عن عجز في اختصار الثراء الكبير للحياة في اقتضابٍ نابغة، بل كان صعبا عليَّ أن أفصل الحياة عن الدرس، وأميز العابر عن الخالد في سيرته. وفي الصمت والحديث عن الصمت معضلة، نحن الذين مدحنا صمته بثرثرة كبيرة، لن نروقه، والذين مدحوا طويلا عفته وصارعوا بها من أجل تموقعات تسمح لهم بالجاه والثروات هؤلاء لن يعجبوه، وينساهم ولا يستحقونه، والذين غنوا كثيرا لوطنيته ثم بحثوا عن مقابل لإعلانهم ذلك أو وضعوا الشروط للتفاوض مع الوطن، هؤلاء لا يستحقوه… هذا ردنا عليهم طلب مني صديقي ردا قاسيا على ما فعلوه بمنصة التذكار، باسم المجاهد عبد الرحمان اليوسفي… لكني، تبسمت، ثم سألته: أتُراكَ، عندما يفجرون أَنْتنَ ما فيهم تبحث عن شيء مماثل لتردَّ به؟ أبداً، قلت عطِّرِ المكان بما يليق به يا صديقي: قبلةُ ملكٍ طاهرة على جبين ناصع وقوفٌ مهيبٌ لرفع الستارة بيد نظيفة عن اسم نظيف متسع من الضوء، لا يضره خفاش يتربص بالحاضرين ويتوعد بالليل.. ما معنى ما يفعلون؟ سألت صديقي، وما الذي يكون أنْتنَ مما فعلوا؟ نظر إلي واستغرب، أهناك أنتن وأخبث مما فعلوا بالتذكار والذاكرة؟ قلت نعم . هم. قلوبهم. أرواحهم… أَنْتنُ بكثير يا صديقي مما لطخوا به مرمر الذكريات.. أقرأت ما كتبوا، عن الذي ودعناه في رفرف عال للخالدين؟ استنكر ..قرأت، قلت له وأضفت: ما الذي لم تفهمه من حقدهم؟ فهم لن يغفروا لليوسفي أنه من يذكر المؤمنين بزهد أبي در وابن الخطاب لا أصنامهم.. ولن يغفروا له أنه ما نافسهم في زخرف متلاش من متاع الدنيا لكنه فاز بالتعالي بلا سبق.. ولن يغفروا له أن رفاقه الشهداء كانوا أقرب للصديقين أكثر مما يدعون.. قل لهم، آتوا شهداءكم إن كنتم صادقين وإن فعلوا ولن يفعلوا فلن يقولوا الحق… قل الآن يا صديقي أيهما أكثر نتانة حقا، ما يكتبه القارئ المتعلم منهم وما يكتمه من الشهادة أم ما يلطخ الجاهل به رخام الشاهدة؟.