عسى أن نكف عن هاجس التساؤل كل ليلة: كم لبثنا من ليلة.. مَرامُنا هنا أنْ نَنأى بأنفسنا عن التهويل، تَهويناً مِنّا لِضَغطِ الحَجر الصِّحِّيِّ الراهن بكل ثقله في حياتنا البَيتِيّة الرَّتيبَة خَلفَ أبوابنا المُوصَدَة.. مَعَ عِلمِنا المُسبَقِ أن ليس لنا والله إلا الحَجْر.. حتى تمر الجائحة.. وباعتبار هذه الحالة الطارئة التي درجت العامة على تشبيهها بالإقامة الإجبارية أو حكم جائر دون بينة بالحبس، لا بد من دَرْءِ اللبس بين العزل والعزلة.. فبِصَرفِ النظر عن دقة التوصيف إلزاما قانونا، أو صيغة التجنيس تذكيرا وتأنيثا، قَد يَكُونُ كِلاهُما بالمَعنى الإجْرَائِيِّ الظاهر إكراهاً أو اضطِرَارا بالمدلول التَّعَسُّفِيِّ القاهر.. لكِنَّ العُزلةَ بالمعنى الوُجودِيِّ تَحدِيداً ليست إكراهاً بِحُكمِ القَهر، وَلا اضطِرَاراً بِمُقتَضَى الحَجْر، بِقَدر ما هي بَحثٌ عن فسحةٍ مُغلقة هروباً من جحيم الآخرين بالمدلول السارتري الشهير.. كما أنها استئثارٌ بوفرة الوقت وفائض الزمن، كحصيلةٍ مُتَرَتِّبَةٍ عن تأجيل كلِّ المواعد والأسفار إلى أمَدٍ عَصِيٍّ عن التخمين أو التحديد، تبعا للوائح اليومية المتصاعدة لأعداد ضحايا هذه الكورونا المتربصة بنا كما في حرب أشباح.. مع ذلك فالعزلة بالنسبة للبعض منا اختيار، لأنها كانت على الدَّوام نُزوعاً مُستَحَبّاً للاستفراد بالذات من أجْلِ الإِنْصَاتِ لِنَبضِها الخاصِّ، في مَنأى عن المَألوفِ مِن نشَازاتِ حياتِنا اليومية.. وَلا تزال في كل مقام تَوْقاً مُتَوَثِّباً لاستجلاءِ كَوامِنِها المَطمُوسة، في مَأمَنٍ مِن كلِّ ضَبابِيَّةٍ أو غوغاء.. العزلة بهذا المعنى استئناسٌ بتلك الكينونةِ الهَشَّةِ الساكنة بأعماقنا وَتَآلُفٌ مع رُوحِها الشفيفةِ، مِنْ أجْلِ تَرميم أعطابِها، وترويضِها باستمرار على مُهادنة رَتابةِ الوقتِ، بَعيداً عن أسْوار المُدُنٍ المُتَصَدِّعَةِ بالضَّوضَاء، وصَخَبِ هذا العَالَم المَنذورِ لِألف وباء.. لِذَلِكَ كُلِّه، قَد لا تُمَثِّلُ العزلة بالاضطرار في عُرْفِ النَّاسِ ما دَأبوا عليه من نَمَطِ مَعيشهم اليومي وِفقَ عادَاتهم القاتلة.. ومن ثَمَّ لا تَعدُو بالنسبة إليهم عن مُجَرَّدِ عَزلٍ بِحَدِّ الإكراه، تَحتَ طائِلَة قانون الحماية مِنَ الموت المُحْدِقِ بهم في كلِّ مكان خارج بيوتهم الآمنة.. لكنها بالاختيار تَبقَى في سيرة البعض مِنّا ، نَمَطَ وُجُودٍ وأسلوبَ حياة.. وتلك لعمري هي عزلتنا الخلاقة بلا مراء.. على الأقل إلى أن تمر الجائحة بسلام..