منذ أن كان كورونا فيروسا وحتى عندما أمسى وباء، ووسائلُ الإعلام المكتوبة والمنطوقة والمسموعة، ومواقعُ التواصل الاجتماعي، ما توقفت عن التحذير من العدوى، مالم يلتزم المواطنون بالحجر الصحي، سلامةً للجميع. وكما التجأت هاته الوسائل على اختلافها وتأثيرها إلى أسلوب التنبيه والإرشاد، كذلك اتجهت، أمام تزايد عدد الحالات، إلى التوسل (المزاوكة): «عافاكم ابقاو ف ديوركم»..»رجاءً ابقاو ف ديوركم»-»الله يرحم واليديكم ابقاو ف ديوركم»..، أو السب والإهانة:»ياولاد الكلاب ابقاو ف ديوركم»، أو النظر بغضب والصفع والركل، والغرامة والحبس لكل متمرد،متهور وجاهل. ومعاند. «لله يرحم الوالدين ماشي حتى يموت واحد من عائلتك عاد تفهم بأن هذا وباء خطير جدا … بقا فداركم كاين ناس تيخاطرو بحياتهم باش انت تعيش. وقد بلغ الخوف ببعض المواطنين، أن دعوا لاستخدام الرصاص المطاطي على غرارما أقدمت عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تشهد -في غمرة كورونا-عصيانا وتمردا على الحجر الصحي، أو استخدام الذخيرة الحية، مثلما يهدد بذلك اليوم الرئيس الفلبيني كلَّ من لايتعاون باتباع إجراءات الحجر الصحي المنزلي. ولقد شوهدت دبابات عسكرية بمدينة الدارالبيضاء، وانتشرت الأجهزة الأمنية في الأحياء الشعبية والسويقات والشوارع الرئيسية، ونُصبت المتاريس، وعلامات التشوير، وتطلب الأمر أن يحمل كل من يغادر بيته، أكان راجلا أم راكبا، وثيقة إدارية مدموغة من طرف عوْنَي السلطة، المقدم والشيخ، بغرض العمل أو التطبيب أوالتبضع،من غير أن ينسى الكمامة، وإلا تعرض للنهر والزجر والغرامة وربما الاعتقال..والمتابعة. ومن ياخذ طريقه إلى العمل اليوم، في ظل كورونا، يكاد يشعر بأنه في مدينة غير مدينته أو قرية غير قريته،خاوية على عروشها، إلا من قطط بئيسة تموء بصوت خافت..طرقٌ تخلو من الناس، ومقراتُ عمل شبه مهجورة..ويراودك شعور بأن المواطنين جميعا التزموا الحجر المنزلي حماية لهم ولغيرهم وإسهاما في الحد من انتشار عدوى كورونا.. وتاتي الأخبار بما لا نشتهي، فأعوان السلطة يضبطون بين جولة دورياتهم وأخرى، أسواقا وسُويقات،تتفرخ في الأزقة والدروب، كلما أخرجوا من منطقة،كما يقفون على حركة تجارية واجتماعية غريبة تجري داخل المنازل وبسطوح العمارات، في الأحياء الشعبية، ب«درب غلف» و»المدينة القديمة».. وبعض الدواوير بالبيضاء. ولعله من الأفضل، بدل أن يخرج أعوان السلطة في «مهمة مستحيلة»، يضبطون خلالها مخترقي الحجر، ما قد يعرض حياتهم للخطر، أن تستثمر الدولة -التي تخصص ميزانية كبيرة للاختراع والبحث العلمي من غير أن تستفيد- اختراعات شبابنا المخترع المعطَّل (كرشيد إجو، ومحمد نحمد وعبد الرحمان العيساوي، وحميد المودن وغيرهم كثير) بسبب قلة أو انعدام دعمهم وتحفيزهم المادي واحتضانهم، مثل اختراع طائرة الدرون، وهي صغيرة الحجم ومن غير رُبان، من شأنها أن ترصد سلوكيات المتمردين على الحجر الصحي بالسطوح، ويمكن الاطلاع عليها بفضل جهاز تحكم عن بعد،كما يمكن للدرون توزيع مساعدات غذائية على المتضررين بسبب جائحة كورونا، عبر وضع سلال أمام منازلهم دون إحداث ضوضاء أو تجمهر للمواطنين، كما أن هناك اختراعا آخر للشاب المخترع أشرف منصاري ألا وهو روبوت حقيقي يُسير من بعد، ينتظر اللمسات الأخيرة والدعم ليُستثمربشوارعنا بوصفه شرطيا يساهم في الحد من استنهار كورونا، باعتراض كل من يكسّر الحجر الصحي، ومطالبته بإظهار رخصة مغادرة المنزل أمام كاميرته لتركه يمضي لسبيل حال أواعتقاله.. وهناك أيضا اختراع الشاب حميد المودن أجهزة تنفس اصطناعية واجهزة التعقيم اوتوماتيكية بمستشفياتنا.. وفي مايشبه «لعبة الغميضة»،وهي لعبة تراثية، ترمز للضبط في مواجهة الاستفزاز والانفلات، يعمد بعض المواطنين لخرق الحجر، ولسان حالهم يردد المثلَ العامي الساري(اللي عندو باب واحد، الله يسْدو عليه): يُغلِقون باب المنزل أو العمارة على مرأى ومسمع الجهات الأمنية، لتتجمع النساء الجارات عند جارة لهن، ويتجاذبن أطراف حديثِ أراه يدور حول الفيروس وأعراض العدوى، والراميد، والتوقف عن العمل، ونوع الإعانات ومقدارها، وهل تطال سائر الأسر المعوزة، وهل ستستمر حتى بعد القضاء على كورونا، وحول تضارب وتناقض المسؤولين السياسيين والمحللين والمختصين و»اليوتوبيين» حول جدوى وضرورة استخدام الكمامات.. وماذا لو استمر كورونا حتى مطلع 2021 أي مصيرتنتظره مستويات الباكالوريا بوجه أخص: سنة بيضاء أم احتساب الدورة الأولى فقط، وهل سيعتاش فقراء المغرب على الصدقات أم أن التمويلات الطائلة بصندوق كورونا كافية لإعالتهم، وإذا ما تم القضاء على كورونا، هل تنتهي معاناة فقراء المغرب أم أن المُعسرين سيستردون وضعهم البئيس، وسيرتفع الاهتمام عنهم، وسيُتركون وحدهم إلى جائحة أخرى لتدبير أزمتهم؟؟؟؟؟؟؟ وتصيرالسطوح مقاهيَ للعب «الضامة» و»الكارطة» و«ملء اليانصيب»، واحتساء القهوة والشاي، وشرب التدخين و«الشيشا» و»الكيف» و«المعجون» و«التنفيحة» على نغمات منبعثة من المذياع أو الهاتف النقال وتفريغ الضغوطات النفسية والأسرية والاقتصادية..: هذا يشكو الزمن أو زوجته أو أبناءه،وآخر يعيب على الدولة عدم إطلاق «الويفي» مجانا، وعدم رفع أداء فاتورتي الماء والكهرباء، وعدم إعفاء الفقراء من واجبات التمدرس ومن تأدية قسط الدَّين الشهري من أجل امتلاك قبر الحياة، في هاته الفترة التي تركد فيها الحركة الإنتاجية،وآخر يخرِف أو يدعي أن كورونا ورد في القرآن.. وآخر لايتوقف عن الحديث عن حياته ومواهبه ومغامراته،وتتحول السطوح إلى حمام شمسٍ بالنسبة لكبار السن، وإلى نادي رياضة للأطفال، حيث يركضون ويتشابكون ويصرخون ويقهقهون وينطّون الحبل..وإلى عيادة للطب الشعبي، وقلع الأضراس وتحليق الرؤوس.. وورشة لإصلاح المواعين والبورطابلات وترميم أغراض البيت. و«لعبة الغميضة» هاته، سلوك اجتماعي ونفسي،يستوجب أن نتعامل معه كإشكالية وليس كمشكل واحد، وهاته الإشكالية، حلها يقتضي حل مجموعة من المشاكل، مثل الفقر المدقع، والمرض المزمن، والسكن غير اللائق، وفوق هذا استشراء الأمية. فبخصوص الفقر، يشير تقرير للبنك الدولي إلى أن رُبع المغاربة يعانون الفقر، وأنه يتم إدراج بلدنا ضمن قائمة أضعف الدول من حيث توزيع حجم الناتج الداخلي الخام على المواطنين.ولاسبيل لتخطي ظاهرة الفقر، سوى بإطلاق صندوق رابع تحت مسمى»ضد التفقير»، (بعد صندوق «لنتَّحِد ضد الحاجة»، وصندوق ضد الجوائح الطبيعية»، و»صندوق كورونا». فالفقر لايقل عن الجائحة في خطورتها وتداعياتها على المجتمع: المعيشة، لا تتراجع أسعارها المرتفعة، أهَطَل المطر أم لم يهطِل؟ أمضت حكومة أم جاءت حكومة..علما بوجود بطالة فاضحة في صفوف الشباب، شباب له مهارات أو ليس له منها ولو واحدة،أو حاصل على شهادات من التكوين المهني أو شهادات عليا من الجامعات والمعاهد، ما يذكرني ببيت الشاعر: أشَبابٌ يضيع في غير نفع **وزمانٌ يمرّ إثر زمان؟ وتزيد فاتورة الماء والكهرباء غمًا على همّ رُبع عدد المغاربة، إذ تشكل بالنسبة إليهم فزاعة: «جا الضو؟ شحال جا فيه ثاني»؟ ولقد ارتفعت أصواتهم ما مرة، بالشكايات،بالدموع، بالشموع، بزجاجات بلاستيكية فارغة.. وتتراوح الاستشارات الطبية، هي الأخرى بين 150 إلى300 درهم بلارحمة أو مراجعة، من غير ذكر («الراديو» و»التلفزة»، والتحاليل المخبرية،و»السكانير»)والأدوية الباهظة الثمن، أوالمفقودة في صيدلياتنا مرة مرة، أو الموصى بإحضارها من الخارج بالضرورة، والعمليات الجراحية والأمراض على مدى الحياة. وبخصوص السكن، فحدث ولاحرج: فذوو الدخل غير القار والمحدود من صناع وحرفيين مياومين، لم يكن أمامهم سوى اكتراء غرف في منزل بنحو600 درهم أو1000 درهم. وكل غرفة تتراوح أمتارها بين(3و 5أمتار على 2.5) ، ومرحاض مشترك ، بباب مهترئ به شقوق كبيرة ويفتقد للصنبور، ما يجعل المكتري يلجأ إلى المقاهي المجاورة هو وأهله لقضاء حاجاتهم، وأمام باب كل غرفة»مَجْمر» تنبعث منه بخور»تفوسيخة» في المساء وصالح أيضا لإعداد الشاي والقهوة والوجبات والشيّ، ومذياعٌ صاخب.. أما ساكنو الكاريانات فقد أُفرِغوا منها إفراغا، وتركوا البراكة المُهوّاة، والمشمّسة، والتي تتسع لثمانية أو تسعة أفراد، ليُسَكّنوا ب»شقق اقتصادية».وكان للوصلات الاشهارية(الشْرا بثمن الْكرا)، (وعرض شقة اقتصادية نموذجية في محيط تحفّه النباتات والورود، وتتخلله المرافق الاجتماعية)، وقع خطير على نفسية فقراء المغاربة، من مزاولي الحرف الصغيرة والحرة.وأبْرِمت العقود، وتَحدد مقدار دفع الأقساط شهريا.ودخل فقراء المغرب شققا مساحتها بين 40 مترا و48 مترا و50 مترا و55 مترا في أقصى تقدير حسب دفتر التحملات الذي تعمل وفقه الشركات التي تبني تلك الشقق، وبحسب التقطيع الطوبوغرافي للمهندس، وهي مؤلفة من 3 غرف صغيرة من دون تهوية، ومرحاض ضيق، ونوافذ أشبه بشبابيك السجن ورطوبة وتسريبات مائية بسبب انفجار الواد الحار، واقتلاع زليج الأرضية، وتشقق الجدران وبهوت صباغتها. وهل هاته الشقق الاقتصادية الأشبه بالصندوق، والتي لاتتسع طاقتها الاستيعابية (3 أمتار على2 أمتار ونصف) بكل غرفة، لأُسرة يتراوح عدد أفرادها بين 5 و9 في الأغلب الأعم، تؤثر فيها الحملات «التوعوية» اليوم، التي تتوجه إلى المتمدرسين بأن «ابقو ف ديوركم»، وتابعوا برامج الدراسة على موقع كذا عن بعد؟ عبر الحاسوب أو الهاتف النقال، والانترنيت ليست مجانية على الأقل في فترة الحجزهاته، وكيف يوصَى بممارسة الرياضة أو المطالعة في هذا الفضاء الضيق جدا والذي يغص بأفراد كلٌ حسب ميولاته وتفكيره ورغباته، ويؤثثه الملل والضجر وشجار وضجيج وأنين وتأفف وتأوه: واحد يودّ الاستماع للمذياع،»أو يتصنّت لعظامو»، أو يتفرج على التلفاز، وآخر يريد أن ينام أو يصلي، وآخر يستولي على المرحاض لإصابته بالإسهال، وأخرى تريد أن تنفض الأغطية وتطهِّر أرضية الشقة ب»جافيل وسانيكروا» وتعقّمها بالكحول والخل والبخورفي الصباح الباكر أووقت النوم في الليل، وأطفال يرغَمون على عدم التحرك،ومرضى السكري والسمنة يرغبون في المشي، وذوي الأمراض الجلدية وهشاشة العظام يريدون الشمس.. هكذا بعدما كانت «الحركة بَركة، أصبحت: «الحركة باركا».. ، مما يضطر هؤلاء المواطنين الفقراء لخرق الحجر الصحي الذي تفرضه الجهات الأمنية. من هنا نفهم «لعبة الغُميضة»، و نفهم أنه عندما نطالب المغاربة في بيئة الفقر والهشاشة، بأن «ابقوا ف ديوركم»، ونتحدث عن الصبر والتضحية..، يتعين أن نستوعب ونستحضر ظروفهم الاجتماعية القاهرة: من معيشة ضنكة(ملبس ومأكل ومسكن وماء وكهرباء وتمدرس وتطبيب وعطالة). إن مغادرة البيوت أو عدم الامتثال للتعليمات الإعلامية والصحية والأمنية، يعبر عن حالة نفسية متدهورة، فالفقراء الذين تعودوا على الركض والجري وراء قوتهم اليومي،يجدون أنفسهم-عند هاته الجائحة- مقيدي الحركة وإلى أجل غير معلوم، ولذلك فالفقراء والشباب المدمن، ليتكيفوا مع الواقع الجديد، بل لم يتقبلون قط، وعليه لم يذعنوا للتعليمات بعدم مغادرة البيوت، فلعبوا «لعبة الغميضة» مع الجهات الأمنية، وعاد الشباب المدمنون بوجه خاص إلى»ريوس الدرب» يمارسون أنشطتهم، وتحرك باعة الخضر والفواكه في الازقة والدروب، وكلما رمقوا دورية شرطة فروا كالبرق واقتحموا أول عمارة يصادفونها مُشْرعة في طريقهم ويصعدون إلى سطوحها.. هكذا، يتبدى أن «لعبة الغميضة» ليست لأجل التمرد والعصيان، ولا هي استخفاف بكورونا، وإنما هو الوضع الاجتماعي القاهر يقول كلمته. وإذا لم يكن لكورونا الخبيث من ميزة، فإنه على الأقل وضع بلادنا من جديد أمام إشكالية الفقر.فمما لاشك فيه أن معظم الإصابات بكورونا سجلت في صفوف فقراء المغرب، في الأحياء الشعبية، حيث التجمعات والكثافة الأسرية، ببيت ضيق يفتقد لمواصفات البيت الذي يحترم آدمية وإنسية الإنسان. ولو أن هذه الفئة الهشة استفادت هي الأخرى من الصناديق الثلاثة، أو حظيت بنفس السيولة المالية الطائلة التي حظي بها صندوق كورونا عند توفر القدوة الحسنة والإرادة المواطِنة، لانخرط فقراء المغرب جميعهم في الواجب الوطني حباً وطواعية، ولم يعد لأحد ما يتحجج به،عندها يتم الامتثال للحملات التي تنادي بالتزام البيوت. ومع ذلك، لانملك اليوم، مع ارتفاع حالات الإصابة بشكل مهول وخطير، سوى الالتزام بالحجر الصحي ،إنها الحرب المعلنة من وباء غير مرئي، فلنتحد جميعا من أجل سلامتنا الصحية وسلامة أبنائنا وأجيالنا القادمة، من أجل وطن برمته، رغم العناء والإحباط والشدة والغبن والضغط والتوتر والجوع وقفف المعونة والمساعدات الاجتماعية على قلتها وضيق المآوي وكثرة الأنفس واختلاط الأنفاس… لم يبق سوى القليل، فالصبرَ، الصبرَ، ثم الصبرَ ، وإنها-ولله- لغمةٌ سوف تزول قريبا.