الحجر الصحي ليس هو نفسه عند كل المغاربة، وهذه حقيقة لا يمكن القفز عليها، بالرغم من أن اللحظة لحظة وحدة وطنية. ليس للأمر علاقة بتفاضلية طبقية في التحليل، بقدر ما هو جزء مما تكشفه الخدمة الوطنية نفسها التي نتعبأ لها جميعا. كل الذين نتحدث عنهم سيستجيبون لنداء الوطن، وللسلطة التي تمثله، دينيا وتاريخيا ودستوريا، سيستجيبون لأنهم أبناء حقيقيون للوطن وليسوا طارئين ولا مبتزين له، حاشا لله، ونحن ننزه المغاربة كلهم عن أي سلوك مثل هذا… غير أن الحجر الصحي لمن له بيته ليس هو لمن عليه أن يجده قبل أن يدخله.. ومن يحجر عليه رفقة أهل بيته بين جدران غرفة ضيقة ، لا يساوي الحجر في فيللات الأمتار المربعة الواسعة.. ومن يحجر عليه وليس له ما يأكله، ليس هو الذي عليه أن يتبرع بما يأكله.. ومن حق الناس أن يجوعوا عندما يدخلون بيوتهم ويطبقون قانون السلامة.. والحجر مع القدرة على التريض ليس هو الحجر مع التزاحم في مربع صغير من أرض لله الواسعة. لقد بينت الجائحة أن الاختلالات الاجتماعية والطبقية لم لا؟ يمكنها أن تعطل تفعيل الاحتراز، ويمكنها أن تعطل القوانين والمراسيم، ويمكنها أن تضع المواطن في مواجهة الدولة بالرغم منه ومنها.. وبالرغم من كونها تسعى إلى سلامته، وبالرغم من أنه لا يفكر في معاندتها في أوضاع عادية. ونحن نشاهد ذلك يوميا، في الحياة وفي الحياة الافتراضية وفي كل الدروب.. هناك من يرى الفيروس موعدا للموت ولكنه يفضل ألا ينتظره في غرفة ضيقة مع أبنائه وأسرته، رفقة الفاقة. الكلمة، بالشفة المجردة، تقول إن الجائحة بينت أن الهوة بين الطبقات سحيقة للغاية وساحقة.. هوة ما بين الذي يعيش الحد الأدنى الوطني والذي يعيش فوق الحد الأعلى الدولي.. بين الذي يعيش في حزام البؤس ومن يحلم بحزام الحرير.. بين من يعيش في هاته الجهة ومن يعيش في الجهة الأخرى.. والهوة كبيرة بين الذي يخصه كل شيء والذي لا يخصه شيء.. وأمام الجدار العاري، وتحت مظلة الحجر الإجباري صحيا، هذا الفقير لا هروب له أمام فقره.. والعاطل لا هروب له أمام عطالته.. والمريض المهمش لا شيء أمامه سوى مرضه، بلا معيل ولا معين، رأسا لرأس، مع الفقر والمرض والهشاشة، وما كنا نستطيع أن نعبِّر عنه في التلفزات وعلى منصات الإعلام وفي منبر البرلمان، يجد مادته القاسية والقاصمة. الهش أمام هشاشته، بلا أفق سوى ما يفتحه في داخله من ندوب.. لا أفق سوى الجدار المقابل والابن الذي لا يعرف ما يفعله به .. الأب ايه… ماذا يفعل في غياب الرقمي؟ ماذا سينفعه الحل، وأي حل سيجد هو في الحل الذي اقترحته الوزارة في التعليم عن بعد؟ والأمي الذي لا يقرأ هل يمكنه أن يساعد ابنته الأمية الرقمية التي لا تملك حسابا في عالم الرقميات؟ والبُعد الذي يزداد ابتعادا، كلما كانت الأسرة فقيرة أو بعيدة في القرية، هل يمكن أن تسعفها الجائحة في بناء مفهوم للقرب يعتمد على البعد في التربية؟ ربما.. ربما ريثما.. ريثما.. وهل نحن مستعدون لانقلاب من هذا القبيل؟ ربما ..ربما، إذا كانت لنا قدرة على أن نجعل من كل حالاتنا العادية، من بَعدُ، حالاتٍ استثنائيةً تتطلب ثورة كاملة إنسانية عميقة.. فكرية وعلائقية، اقتصادية ووجودية، إن شاء لله، سننقذ الذين أغلقوا على أنفسهم عالمهم المغلق أصلا بسبب الشرخ الاجتماعي، لكن الإنقاذ الأعمق هو من ذلك الشرخ الذي وضعهم منذ زمان في حجر اجتماعي لا احتراز فيه سوى مضاعفة الغربة.. فالقانون هو روح الأمة كما علمنا مونتيسكيو، لكن القانون وحده لا يطعم الناس. قد يحميهم ويحمي منهم غيرَهم كما يحميهم من غيرِهم، أولئك الذين يلتقون بهم في الساحة القريبة لا في المصعد الاجتماعي الذي يرتقي بهم.. لكن لا يطعمهم ولا يشربهم ولا يمرِّضهم.. ولهذا، بعد القانون، تأتي دولة قانون الحماية والعدالة الاجتماعية والعدل البيمجتمعي.. ثم، ما القول في العمل عن بعد؟ فالعمل عن بعد لمن له عمل، أما الذي يعيش فقط بعمل القرب، المياومة، فلا يمكنه أن يتصور، في خيال اللحظة الجارحة، عملا ممكنا يعيل به أهله ونفسه.. نعم، قد يكون الشعور بالمشاركة في معركة وطنية تعويضا أو بلسما في هذا المكان والزمان المشروخين. نعم، قد تكون الإطلالةُ على شارع فارغ لا يجد العدو فيه أي مغربي ليفتك به، تعويضا أخلاقيا حقيقيا عن كل الحرمان والشعور بالعزلة التي تشل صاحبها.. نعم، قد يكون في الشعور بالمواطنة تعويض أو وضع اعتبار بالمساهمة ضمن المجموعة الوطنية.. لكن التاريخ يقول إن ذلك لا يُسْكت الوطن، ولا الاستغراب من وضع قاس ولا العمل النقدي .. نحن مع الأخوة الوطنية بما هي الإحساس بأننا ننتمي إلى وحدة بشرية تواجه الأزمات كما الانتصارات بروح تآلف لا تخالف.. لقد وجدت شخصيا نفسي في عبارة أو كلمة عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية: كلنا في سفينة واحدة، إما النجاة جميعا أو الغرق جميعا.. ونحن نعرف أن الرجل ليس مطالبا بالبلاغة الخطابية ولا ببرنامج لغوي للسياسة القادمة، بل تحدث بعبارة سيحفظها له التاريخ.. ونفهم منها: كان هناك من خاننا في المعركة، كان هناك المضاربون. كان هناك الغشاشون. وكان هناك المتهورون واللامبالون. وكلمة لفتيت تذكرنا بأن علينا أن نتعامل كمن يوجدون في السفينة.. كلنا معنيون، معناها أن الأزمات تذكرنا بأن الجميع معني، وأن السياسة لا تكون ترفا، وأن المواطن الذي يهجرها لا يجب أن يعتبر نفسه مواطنا يعيش بسلام وهدوء، بل إنه مواطن غير نافع بالمرة، كما قال thucydide. لهذا نحن في حاجة إلى دولة قوية تبادر على قاعدة وحدة وطنية متراصة، فيها الوطن قبل كل شيء، وطن بالفعل لا بالثرثرة، كما قال أحد رجال السلطة في الدارالبيضاء، وهو يخاطب متهورين يلعبون الكرة الحديدية وقت الحجر الصحي، لا فض فوه…