صادقت الحكومة مؤخرا على مشروع القانون رقم 17/95 الخاص بالتحكيم والوساطة الاتفاقية والذي سيحال فيما بعد على باقي القنوات التشريعية للمناقشة والتعديل والإضافة في انتظار المصادقة النهائية عليه من طرف البرلمان بمجلسيه، وبالتأكيد فإن مشروع هذا القانون جاء كما أشار إلى ذلك في ديباجته لتحسين مناخ الأعمال وتحقيق الأمن القانوني وتقوية البيئة الجاذبة للاستثمار إلى جانب ملائمة القانون المغربي مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وتنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة إلى جانب تحسين موقع المغرب ضمن مؤشر مناخ الأعمال دوين بيزنيس الذي يتبناه البنك الدولي لقياس مؤشر التنمية لدى مختلف بلدان العالم. ومن خلال قراءة هذا المشروع يبدو بشكل جلي أنه تضمن مجموعة من المكاسب الإيجابية التي تسير في منحى تخليق ممارسة التحكيم بالمغرب وتكريس التحكيم كآلية بديلة لحل المنازعات وكقضاء أصيل للتجارة الدولية وتوسيع قاعدة الاستثمارات الوطنية والأجنبية مسايرا في ذلك لمجموعة من الحلول التي توصلت إليها التجارب المقارنة، لكن مقابل ذلك يبدو أن مشروع القانون المذكور لازالت تعتريه بعض العيوب والقيود ويحتاج إلى إعادة تنظيم مجموعة من الجوانب الإجرائية والموضوعية التي تبقى المدخل الأساسي لتأهيل التحكيم وتأهيله وضمان نجاعته كخيار أصبح يفرض نفسه في ظل العولمة الاقتصادية القائمة على المنافسة وهيمنة معيار رأس المال على باقي معايير اتخاذ القرارات الموجهة للسياسات العامة في مختلف بلدان العالم، حيث أصبح من الواجب إعادة النظر في الآليات التشريعية والمؤسساتية المنظمة للتحكيم بالمغرب، لذلك فإن التساؤل الذي يفرض نفسه بهذا الصدد هو كالتالي : إلى أي حد استجاب مشروع قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية لانتظارات المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين ؟ جوابا عن ذلك سوف نحاول الإدلاء بوجهة نظرنا بشأن مشروع هذا القانون من خلال إبراز إيجابياته وما يتخلله من نقائص وبعض الاقتراحات الممكنة لتجاوزها وهو ما سيتم مناقشته من خلال الجوانب التالية: الآليات والمكتسبات الداعمة للتحكيم في ضوء مشروع القانون المرتقب: لابد من الإشارة بداية إلى أن المشروع الحالي تضمن مجموعة من الإيجابيات والمكاسب من بينها تبسيط مساطر الولوج إلى التحكيم أو ما يسميه البعض بقضاء الارتكاز أو القضاء الخاص تمييزا له عن القضاء الرسمي، وذلك من خلال تبني نوع من المرونة في الإجراءات والسرعة في تدبير المنازعات والفعالية في تنفيذ الأحكام التحكيمية إلى جانب تجاوز إشكالية تحديد الاختصاص النوعي والتحديد الدقيق لمعايير دولية التحكيم والاعتراف بالعقود الإدارية الدولية ورفع الرقابة القضائية على التقييد بقائمة المحكمين المصرح بهم إلى جانب مراعاة السرعة في التحكيم الدولي والانفتاح على الوسائل الحديثة للاتصال كدافع محفز ومشجع على التحكيم الدولي، وهو ما تجسد من خلال تبني مجموعة من التدابير الجديدة من أهمها اعتماد إمكانية إبرام اتفاق التحكيم بشكل إلكتروني بالإضافة إلى التنصيص على جواز التبليغ الإلكتروني للأحكام والاعتراف بحجيته في ترتيب الآثار القانونية، إلى جانب تبسيط إجراءات تعيين الهيئة التحكيمية حيث تم التخلي عن إخضاع المحكم لرقابة أي جهة قضائية بما فيها النيابة العامة، وإن كان قد ترك أمر تحديد لائحة المحكمين لنص تنظيمي طبقا للمادة 11 من المشروع وهو أمر نعتقد بأنه جد إيجابي وإن كان يؤخذ عليه أنه سيؤدي إلى إخضاع عملية تحديد لائحة المحكمين لوزارة العدل مما قد يفرغ هذا المشروع من أهم أهدافه طالما أننا أمام قضاء خاص يقتضي نوعا من الاستقلالية، لذلك نتمنى أن يتم اعتماد صيغة مناسبة تتلائم مع طبيعة التحكيم، فضلا عن طبيعة المعايير التي يجب اعتمادها في تحديد لوائح المحكمين في حد ذاتها لذلك فإننا نؤكد بأن التحكيم أساسه الحرية والمرونة وسلطان الإرادة ومن شأن فرض بعض القيود أن يؤدي إلى فتح باب القضاء واسعا أمام الأطراف بدل تفضيل اللجوء إلى التحكيم مما قد يفرغ القانون من أهدافه وفاعليته. وفضلا عن ذلك يبقى من أهم إيجابيات المشروع الحالي توسيع صلاحيات الهيئة التحكيمية منذ افتتاح الإجراءات إلى غاية النطق بالحكم وهو ما يتجلى على عدة مستويات لعل من أهمها أنه في مجال الإثبات تم منحها إمكانية مطالبة الأطراف وكذا الأغيار بتقديم أصول الوثائق الموجودة بحوزتهم والتي يستند إليها أحد الأطراف للإدلاء بها في أجل معقول، كلما تبين لها أن ذلك مفيدا وفي حالة الامتناع تعرض الهيئة التحكيمية الأمر على رئيس المحكمة المختصة أو رئيس القسم المتخصص بالمحكمة الابتدائية لاستصدار أمر في إطار مسطرة تواجهية، يلزم المعني بتسليم المستندات والوثائق المطلوبة للهيئة التحكيمية تحت طائلة غرامة تهديدية وذلك حسب مقتضيات المادة 35 من المشروع ونعتقد أن هذا الأمر يعتبر جد إيجابي ومن شأنه تعزيز فاعلية التحكيم كقضاء خاص للبت في المنازعات، بل إن المشروع لم يقف عند هذا الحد بل منح للهيئة التحكيمية عدة اختصاصات استعجالية في إطار تكريس ما يمكن تسميته بالتحكيم الاستعجالي حيث أصبح بإمكانها أن تقوم مقام القضاء الاستعجالي بإصدار مجموعة من الأوامر التحفظية والاستعجالية وهذا أمر من شأنه أن يكفل نوعا من الاستقلالية والسرعة في البت واتخاذ الإجراءات الوقتية التي لا تحتمل التأخير. تمظهرات الجدة والفعالية في مشروع قانون التحكيم المرتقب: إلى جانب المكتسبات التي أشرنا إليها سابقا فقد تبنى المشروع مجموعة من الحلول الجديدة لمجموعة من الإشكالات التي كانت تعرفها المحاكم في ظل القانون الحالي حيث يبقى من أهم الإصلاحات التي جاء بها مشروع قانون التحكيم المرتقب هو إعادة تنظيم المقتضيات المتعلقة بمنح الصيغة التنفيذية بشكل يضمن الإحاطة بكافة القضايا مهما كانت طبيعتها القانونية مدنية أو تجارية أو إدارية ، وطنية أو دولية، وبالتالي تجاوز إشكالية الاختصاص النوعي التي يعرفها القانون الحالي، ففيما يتعلق بالتحكيم الداخلي فقد تم إسناد الاختصاص بمنح الصيغة التنفيذية حسب موضوع النزاع، اعتمادا على معيار موضوعي، إما لرئيس المحكمة الابتدائية أو رئيس المحكمة الإدارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية، أو رئيس المحكمة التجارية، أو رئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية، انسجاما مع مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، وهذه مسألة جد إيجابية من شأنها أن تضع حدا لما كان يفرزه القانون الحالي من تضارب في الاختصاص وفي المواقف بين المحاكم نتيجة لغموض النص ناهيك أن هذا الغموض كان ينعكس على فاعلية التحكيم خاصة في حالة الطعن بالبطلان وإحالة النزاع على محكمة لا علاقة لها بموضوع النزاع أصلا وما قد يخلقه من إشكالات وصعوبات بشأن تنفيذ الأحكام التحكيمية. وسيرا في نفس الاتجاه أيضا جاء المشروع بمقتضى جد مهم يتعلق الأمر بحالة النزاع الذي تمت إحالته على التحكيم خلال مرحلة الاستئناف حيث تم تخويل الاختصاص بمنح الصيغة التنفيذية للأحكام للرئيس الأول لمحكمة ثاني درجة إذا كان النزاع معروضا عليها واتفق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم، وذلك حسب المادة 65 من المشروع ، أما إذا تعلق الأمر بالتحكيم الدولي فإن المشرع قد تبنى معيارا موضوعيا من خلال إسناد الاختصاص بمنح الصيغة التنفيذية للأحكام الدولية الإدارية لرئيس المحكمة الإدارية أو لرئيس القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية التابع لدائرة نفوذها مكان التنفيذ، وفقا للفقرة 3 من المادة 14 من المشروع وذلك ما يعكس الاعتراف بالعقود الإدارية الدولية، وهذا ما تمت الإشارة إليه بشكل واضح ومفصل من خلال المادة 77 من المشروع التي ميزت بين الأحكام التحكيمية الصادرة بالمغرب والأحكام التحكيمية الصادرة في الخارج، فالبنسبة للأحكام التحكيمية الصادرة بالمغرب في مادة تتعلق بمصالح التجارة الدولية فإن منح الاعتراف والصيغة التنفيذية بشأنها يخول لرئيس المحكمة التجارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية، التي صدرت هذه الأحكام في دائرة اختصاصهما، في إطار مسطرة تواجهية، أما إذا تعلق الأمر بالأحكام التحكيمية الصادرة في الخارج في مادة تتعلق بمصالح التجارة الدولية فيُخول الاعتراف ومنح الصيغة التنفيذية لرئيس المحكمة التجارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية التابع لهما مكان التنفيذ في إطار مسطرة تواجهية، أما إذا تعلق الحكم التحكيمي بالنزاعات المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة 14 أعلاه، تطبق مقتضيات الفقرة الأخيرة من نفس المادة . أيضا من أهم المكتسبات التي جاء بها المشروع أن منح الصيغة التنفيذية أمام الجهة المختصة أصبح يتم في إطار مسطرة تواجهية في جميع الأحوال أي سواء كان التحكيم وطنيا أم دوليا وذلك حسب المادة 77 من المشروع وهذا بطبيعة الحال سوف يسير في منحى تكريس مبدأ التواجهية وحماية حقوق الدفاع وصون المراكز القانونية، كما تم تطبيق القواعد المتعلقة بالتنفيذ المعجل للأحكام القضائية على الأحكام التحكيمية التي لا تطلب فيها صيغة التنفيذ، وهو ما يعكس الاتجاه نحو تثبيت مبدأ فعالية التحكيم وحماية المصالح الأجدر بالحماية والتي لا تحتمل الانتظار والتأجيل، وبالنسبة للتحكيم الدولي تم تبني خيار توسيع المعايير الدولية للتحكيم وذلك بالتنصيص على أنه يعتبر دوليا التحكيم المتعلق بمصالح التجارة الدولية الذي يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر بالخارج وذلك حسب المادة 70 من المشروع، وبالإضافة إلى ذلك فإن الطعن بالبطلان يبتدئ أجله من تاريخ التبليغ دون اشتراط تبليغ الحكم التحكيمي المذيل بالصيغة التنفيذية على خلاف الوضع بالنسبة للقانون الحالي، كل هذه المكتسبات تصب في خانة تعزيز آليات النجاعة والمرونة على إجراءات التحكيم وطمأنة المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين على الاستثمار داخل المغرب بعد اقتناعهم بالضمانات التي أصبح يكفلها لهم القانون بوجه عام . غير أنه مهما كانت أهمية المقتضيات التي تضمنها مشروع قانون التحكيم المرتقب فإن مستقبل التحكيم بالمغرب لازالت تعترضه العديد من التحديات والإكراهات بعضها يرتبط بالقانون وبعضها يرتبط بالواقع والممارسة، فمن جهة لازالت المقتضيات الجديدة لا تستجيب لمقتضيات السرعة والفعالية واستقلالية التحكيم وضمانات حياده، ومن جهة أخرى لابد من التدخل لتقنين ممارسة التحكيم بالمغرب وفق معايير مقبولة قانونا فضلا عن ضرورة تدخل الدولة لتأطير عملية إنشاء المراكز التحكيمية ومواكبتها ودعمها وتشجيع إحداثها لاسيما في ظل الانفتاح الاقتصادي على الأسواق العالمية وعلى الاستثمار الأجنبي وغيرها من الرهانات المتعلقة بتحسين جاذبية الاستثمار وطمأنة المستثمرين الأجانب إلى الاستثمار داخل المغرب وبالتالية ضمان تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية . أستاذ جامعي، مدير مجلة المهن القانونية والقضائية عضو بالمركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط