سنتناول في هذه المقالة الثانية حول ممارسة السياسة من أي موقع اليوم؟ دور تشخيص ومعاينة الوضع العام في البلاد في بلورة موقف الممارسة من موقع المعارضة أو المشاركة في العمل الحكومي. إنه لأمر بدهي أن لا يتماثل تقويم الأحزاب السياسية الديمقراطية واليسارية للوضع العام في البلاد، حيث هناك من يثمن ما تم إنجازه خلال العقدين الأخيرين، ويعتبر بالتالي أن المطلوب هو تعميق تلك المنجزات والعمل على تجاوز سلبيات الممارسة بإعطائها نفسًا جديدًا والاستفادة من الأخطاء الملازمة لكل ممارسة سياسية ولو كانت من موقع الحكومة. وفي مقابل هذا التقويم الإيجابي، هناك أحزاب لا ترى في ممارسة الحكومة الائتلافية غير ما هو سلبي، أو مؤثر بشكل سلبي، على المواطنين ولذلك فهي تعتقد أنه ينبغي القطع مع كل ما يمت إلى هذا الائتلاف بصلة، وإدانة كل مساهمة من داخله، باعتبارها بيعًا للوهم للمواطنين الذين هم الضحية الأساسية، في نهاية المطاف، للسياسات المتبعة. وإذا كان هناك أمل كبير في ممارسة حكومية إيجابية في ضوء دستور عام 2011 الذي تضمن إيجابيات هامة على مستوى نصوصه بالنسبة للوضعية الاعتبارية لرئيس الحكومة وربط المسؤولية بالمحاسبة، فإن الواقع الذي تمت معاينته لم يعكس ذلك الأمل، بل تم تسجيل تراجع عن مكتسبات الشعب المغربي في عدد من المجالات. وليس منتظرا من مثل من لديه هذا التشخيص السلبي غير الدعوة إلى ممارسة العمل السياسي من موقع المعارضة. وبطبيعة الحال، فإن هناك موقفًا مناوئًا في الأصل لأي مشاركة في الحكومة لاعتبارات إيديولوجية سياسية لا يبدو أنها تحركت عن مواقعها قيد أنملة منذ ظهور تياراتها في صفوف اليسار الراديكالي والتي تتحرك إلى اليوم في هوامش مركز العمل السياسي في بلادنا، وبالتالي فليست معنية في الواقع بالجدل المثار حول أي موقع أجدى لممارسة السياسة في وضع المغرب الراهن. ويبدو، تأسيسا على ما سبق، أن دعاة الممارسة من موقع المعارضة ينطلقون من تقويم سلبي لعمل الحكومة، ويحاولون النأي بالنفس عن نتائج العمل رغم كونهم قد ساهموا فيه خلال العقدين الأخيرين، وهذا هو ربما من بين دوافع انسحاب التقدم والاشتراكية من الائتلاف الذي يقوده سعد الدين العثماني خلال الولاية التشريعية الراهنة. أي إن التنصل من أي مسؤولية حول ما آلت إليه الأوضاع من سوء في نظرهم هو العامل الثاوي وراء تلك الدعوة وذلك القرار، على اعتبار أن العمل من داخل الحكومة يجعلهم عرضة لانتقادات هم في غنى عنها لأن العبرة هي في التأثير الفعلي على مجرى الأحداث وليس من خلال الحضور في المجالس الحكومية التي ليست غير تزكية لقرارات ليست من صميم اهتمام أو مصلحة المواطنين. وليس بالإمكان تجاهل تصريحات منسوبة إلى الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بنعبد الله حول طبيعة بعض النقاشات التي كانت تدور بين أعضاء الفريق الحكومي والتي أوردها في صيغة تهكمية لتعزيز موقف الانسحاب والعودة إلى موقع المعارضة. لسنا هنا بصدد تقويم طبيعة مثل هذه التصريحات بعد الخروج من سفينة حكومة تتجه بخطى حثيثة إلى نهاية ولايتها في العام المقبل، وإنما لإبراز أن الدعوة إلى ممارسة العمل من خارج الائتلاف الحكومي تحاول أن تجد لنفسها سردية حجاجية انطلاقًا من الممارسة، أو بالأصح، انطلاقًا من تقويم بعدي لممارسة دامت أكثر من عقدين متواصلين. وهو ما اعتبره البعض نقطة ضعف أساسية في موقف التقدم والاشتراكية تدعو إلى أكثر من تساؤل. ولا يخرج عن هذا الموقف ما هو ملاحظ من بروز أصوات داخل، أو في محيط الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية التي تدعو إلى الخروج من الائتلاف الحكومي ومحاولة إحياء عمل الكتلة الديمقراطية بديلًا عن السياسات التي تم نهجها خلال السنوات الأخيرة. ولعل العنصر الثاني الأساسي الذي يتم به دعم التوجه نحو الممارسة من موقع المعارضة بروز أزمات اجتماعية متوازية ومتداخلة على السطح، في سياق اعتراف الدولة الصريح بأن النموذج التنموي المعتمد في البلاد خلال العقود السابقة قد وصل إلى مداه، وأن كل جهود التنمية التي بذلت على أهميتها لم تنعكس بشكل كبير على وضع المواطن، وبالتالي ينبغي البحث عن نموذج آخر تكون نتائج تطبيقه في مصلحة أوسع فئات المواطنين. وفي هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن هناك من اعتبر هذا الاعتراف، وبشكل واضح من المبالغة، إعلانا لفشل النموذج التنموي المغربي واستنادا على هذا الاعتبار ذهب إلى أن تصوره المناهض للمشاركة في الحكومة هو الموقف السليم ويرى أنه من العبث العمل من داخل الحكومة، بل ومن داخل النظام السياسي ذاته. ورغم النبرة القوية التي لهذه الدعوات فإنها ليست ذات صدى يذكر في الساحة السياسية الوطنية. وليس ليغير من هذا مزاعم تلك الجهات أن تحركات قطاعات اجتماعية على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الوطني هي التعبير على صحة ما تذهب إليه، لأن هذه المزاعم ليست في الواقع غير استمرار لموقف ايديولوجي مسبق حرك تلك القوى منذ انطلاقها وهو يقوم على فرضية مفادها أن النظام السياسي القائم في البلاد قم تم تجاوزه وأنه لم يتمتع بأي صلاحية للاستمرار، إلخ. والحال أن كل التطور الذي عرفته البلاد خلال العقود الماضية لم يؤكد إلا عدم صلاحية هذا الموقف الإيديولوجي المسبق الذي سجن جزءا من اليسار نفسه فيه. وليس هناك ما يؤشر على إمكانية الخروج منه لأن الأفكار الأخرى التي سنتناولها ليست إلا عوامل إضافية لتعزيز تصوره حول طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين اليسار وبين السلطة السياسية القائمة في البلاد على الرغم من أن التحليل الموضوعي لا يدعم مثل هذا الاستنتاج. فلنفحص إذن الفكرة الثانية التي يقوم عليها الجدل حول الموقع السليم الذي ينبغي منه لليسار عمومًا ممارسة العمل السياسي وهي طبيعة العلاقة بين الأحزاب اليسارية وبين جمهورها في ضوء هذا الموقف أو ذاك وهو موضوع مقالتنا المقبلة.