التفكير في ولوج متن أدبي ليبدو أمرا سهلا؛ غير أن «ما يبدو» سرعان ما يتبدد أمام «ما هو» هذا المتن أو ذاك. وتزداد الصعوبة كذلك حين يتعلق الأمر بمتن يكون فيه مركب القول هو القصيدة/الشعر. أولا، أرى أن سبر غور القصيدة من جهة كونها لغة، أي الوقوف عند ما تحيل عليه دلاليا، لن يكون الطريقة الصحيحة لبلوغ ما يقصد الشاعر قوله. وثانيا، لأن الفلسفة تخبرنا غير ما مرة بأن مركب اللغة لا يقول المعنى؛ بل هي الذات التي تركب اللغة من تفعل ذلك. هنا يصبح لابد من الرجوع الى الذات التي أنتجت القصيدة، فلعل التعرف عليها يمنحنا وسيلة بها نقوم بحفريات ممكنة فنزيح القشرة الظاهرة التي تشيدها الدلالة اللغوية لبلوغ ما وراءها، فما عساها تكون إذن هذه الذات ؟ ودون أن يفيد التساؤل بالحرف «ما» إننا نسحب على الذات صفة الشيء، ذلك لأن ما يهمنا في هذا الأمر هو الإبيستمي الذي تنهل منه الذات المتكلمة والذي يضفي عليها اسم ذات عارفة . ربما يكون الحظ حليفا لي، فقد سبق أن راكمت بعض المعلومات من خلال قراءتي المتفحصة لرواية «مرايا الظلال» للأستاذ عبد الغني عارف، والتي حين انتهيت من قراءتها تراءت لي متنا أدبيا أقرب الى السيرة الذاتية منه الى الرواية ؛ بل لقد اعتبرتها سيرة ذاتية. تقود هذه الملاحظة الى ضرورة تأمل ما كتب في الرواية بعين تؤرخ لمسار شاعر هو الشاعر عبد الغني عارف، أي تتبع كيف، أين، متى و لماذا كان ذلك كذلك، أقصد الشخص الذي كان بالأمس فردا في بعده الواحد المتجلي فكرا في الأنا المتكلمة من جهة، وفي بعده المتعدد علائقيا في الغير من جهة أخرى . لا غرابة في ذلك، إذ ننطلق من الإقرار بأن النفس الحاضنة للأنا المفكرة؛ بعيدا جدا بكل تأكيد عن المنظور الديكارتي الذي يقول بالنفس المصاحبة للأنا المفكرة؛ حين تصل الى تأسيس يقينياتها الخاصة – بمعنى معرفة عالمة لكلمة يقين، إذ ننطقها في صيغة الجمع حتى لا يتم تمثلها بالمعنى التيولوجي لما تأتي في صيغة المفرد – فإنها، أي الأنا المفكرة تحكم القبضة آنذاك على جهلها التام بمقولات «كيف، أين، متى ولماذا» باعتبارها عناصر تدخل لزوما في تكون وعي وجوهر هذا الشخص الذي أصبح اليوم كاتبا . لعل الأنا المفكرة تسير قصدا نحو جهل بما كان، فهي تقوم بذلك لترتمي في أحضان الآن عبر وسيط هو الكتابة التي تخول لها الانبثاق في الآتي . وهذا ما يثير تساؤلا بسيطا ومباشرا عندما نفكر في الرواية جنبا الى جنب مع الديوان الشعري : لم كانت الرواية حكيا مطولا جدا، في اللحظة التي لا يتجاوز فيها عدد صفحات الديوان ثمانية وثمانين صفحة ؟؟ إن طول الحكي في الرواية قبل كل شيء خاصية من خصائصها كصنف أدبي، غير أننا إذ نأخذه كمؤشر على طول نفس كاتب مبدع فلا نجده بنفس الشكل في الديوان فهذا ما يكون فارقا بالنسبة لي شخصيا .. هذا الطول في الحكي وامتداده يتجذر في كون العمل الروائي يحاكي واقعا بهدف جعل القارئ يأخذ مسافة من ذاك اليومي المعيش ليستدخله في ذاته ويرسم أبعاده وتجلياته ذهنيا، أي تحويله الى موضوع قابل للنظر والتأمل دون محاولة البحث له عن مدخلات تمكن من إعادته واقعيا، فنحن لا نعيد فعل عيش اليومي ولا نستطيع فعل ذلك حتى تخييليا . يستحيل هذا الأمر لأن الحياة المعيشة تحدث في زمن ينساب، واليومي ليس الا اللحظة في تكثرها وتعددها في بعدها المادي المتجسد عبر الفعل في الزمن حيث يكون لكل فعل نقطة بدء ونقطة انتهاء، واللحظة بما هي كذلك فإنها تصبح وسيلتنا الوحيدة للتزمن في السيرورة السرمدية التي تكونها الحياة . وعليه فالرواية «مرايا الظلال» لا تغدو شيئا آخر غير كونها لحظة تؤرخ لمجموع اللحظات/الافعال كما عاشها شخوص الرواية في أمكنة متعددة وأزمنة متباعدة وكما ارتسمت في ذاكرة الكاتب قبل أن يحولها الى خبرات معرفية. والمقصود هنا هو تحويل المعيش الى مادة خام عمل الكاتب على تطويعها ليشيد بها ومن خلالها ثالوث «مرايا الظلال»: الحب/السياسة/الفكر . إن النظر الى امتداد فعل الكتابة في الرواية ليجسد رغبة مفكر فيها سلفا من طرف الكاتب عبد الغني عارف ولا يعكس بتاتا رغبة ياسين الذي به امتلك الكاتب عنان المراوحة بين عبد الغني عارف الفرد، الشخص، الانسان واقعيا وياسين الفرد، الشخص، الانسان تخييليا، ونستطيع التدليل على تلك المراوحة بالمرايا والظلال وحيث يتسنى لنا التساؤل : أيهما الحقيقي؟ أهي المرآة ام هو الظل ؟ أعتقد أنه لا وجود لشخصين يختلفان حول أنه لا واحد من الاثنين هو الحقيقي . فالشيء تنعكس على المرآة صورته لا هو، وكذلك هو الظل يعكس خيال الشيء لا الشيء . إن المرآة تعكس صورة الشيء فتكون الذات المتكلمة إثر ذلك أمام صورة الموضوع وليست أمام الموضوع نفسه، أي أنها توجد أمام ما ليس هو الشيء، والظل تخييل لإطار الشيء أو هيكله وليس الشيء بما هو عينه . هكذا تجد الذات المتكلمة التي تريد تشييد معرفة عن شيء محدد نفسها أمام ما ليس هو هذا الشيء بمعنى أنها تكون أمام وجود زائف وليس وجود حقيقي وأصيل . عبر هذه المراوحة ما بين المرايا والظلال نتمكن من وضع اليد على تلك اليقينيات التي بها نستطيع ولوج عالم القصيدة، إنها يقينيات أنا مفكرة، أي يقينيات الكاتب . يرتسم اليقين الأول بمفهومي المرايا والظلال باعتبار إحالتهما على اليومي المعيش وخير ما يوضح هذا هو أن عبد الغني عارف بحدس فلسفي سماها عتبات حكائية، تلك كانت عتبات النفاذ الى حياة الاشخاص في الرواية، بما هي لحظة أو مجموع لحظات مقتطعة من سيرورة وجود زائف وغير حقيقي، والذي من خلاله تكون الرواية في نظري بعيدة كل البعد عن كونها تشخيصا له كما اعتدنا على هذا في العديد من الأعمال الروائية التي تحكي عالمنا العربي المتردي والزائف، إذ لا يرقى الى مستوى واقع إنساني، فرواية «مرايا الظلال» ترقى الى كونها عملا أدبيا عمل على إعادة موضعة هذا الواقع بواسطة مجموعة من المفاهيم ومساءلتها من جديد في ظل شروط اللحظة الراهنة، لحظة كتابة وإصدار الرواية؛ لأن المحكي فيها ليس وليد لحظة انبثاقها في الوجود المادي/الكتاب، ولعل زمن صيرورات الأفعال فيها كان هو الماضي وهذا ما نحاجج به على هذا اليقين الأول . اليقين الثاني هو أن الكتابة حين تأتي حكيا روائيا، فهي تجسيد لسفر في الماضي، سفر بواسطته تمكن الكاتب من التعريف بعبد الغني عارف الطفل، التلميذ، الشاب، الطالب، المناضل، العاشق، المفكر -الانسان . و السفر في الماضي هو أيضا فرصة لركوب صهوة التذكر الذي عنه نؤكد مع الفيلسوف جون لوك بأنه كلما امتد ليشمل كل الافعال الماضية كلما اتسعت هوية الشخص وثبت أساسها. ومن خلال هذا السفر إذن بتنا نعرف عبد الغني عارف الكاتب – الروائي بالأمس والآن -هنا في هذا الأفق الشعري أصبحنا نعرفه شاعرا. ثالث يقين نستشفه من عالم الرواية يتعلق بما يمنح الكتابة عند عبد الغني عارف الدقة والوضوح اللذين بهما صاغ تيمة الرواية : واقع زائف وغير حقيقي تؤثثه إيديولوجيا بكل ألوان الزيف، التبرير ثم الإدماج، وهي التيمة التي عمل الكاتب في ما بعد على تحويلها إلى إشكال معرفي يستوجب الفحص. من ثم كانت دعوة الكاتب الى ضرورة موضعة هذا الواقع – كما بينت سلفا – عبر أخذ مسافة منه، وتلك إشارة واضحة من طرف الكاتب إلى دور المثقف، لأنه وحده بإمكانه أن يزيل القناع عما هو غير حقيقي ويكشف كنه ما هو مجرد صورة أو مجرد ظل، ويبين بالتالي كيف يتم تشويه الواقع وتبرير ذلك وكيف يتم إدماج الأجيال اللاحقة في هذه المنظومة الفكرية-السياسية .ثم يظهر يقين رابع هو السر وراء ثنائية الحزن/الفرح التي أضحت الايقاع الذي دوزن وفقه الكاتب الزمن في الرواية؛ غير أن هذه الثنائية لا تحثنا على البحث عن ما يمكن أن يكون هو أساسها النظري في المتن الروائي «مرايا الظلال» لا لشيء سوى لكون الحزن كما الفرح أمران ملازمان للإنسان هنا وهناك على امتداد كينونته . بهذه اليقينيات يمكن أن نفتح دفتي الديوان الشعري «كأني أفق تراوده غيمة» والإمكانية هذه ليست إلا واحدة من بين إمكانيات أخرى لاعتبار الشعر أفقا يتسع لاحتضان غيوم شتى . إن القصيدة إذ تنشد ما ينبغي إن يكون هو هو الوجود البشري، أي حقيقيا لا مجرد مرايا أو ظلال، فإنها تتعالى وترتفع عن أن تكون مجرد عتبات للقول وحسب . هي القصيدة تظل الأكثر بلاغة في قول الكينونة البشرية بامتياز؛ فهي ليست حيزا يضم ثمة مرايا أو ظلالا للواقع اليومي المعيش للناس في كل مكان بالأمس، اليوم أو غدا. إن زمن القصيدة متماه مع موضوعها ونحن نعلم أن موضوع الشعر متزمن بذاته لا بما يحيل عليه؛ إذ أن الشعر لا يؤشر على شيء لتثوير موضوع بخصوصه في ذهن القارئ؛ بل هو الموضوع فيه شعر . إن تأمل هيكل القصيدة في الديوان الذي نحن بصدد قراءته يثير ملاحظة حول كون القول فيها جد مختصر، فالقصيدة داخل الديوان لا تكاد تتجاوز الصفحة الواحدة وفي مرات معدودات ومحددة لا يتجاوز عدد صفحاتها اثنين باستثناء القصائد التالية «فواجع مختومة بالدمع الأحمر» ، «بوح التمثال» ، «شرفة الغيم» ، و «تفاحة الحياة» فهي تتجاوز خمس صفحات. فهل ينبئ ذلك بضيق أفق الشاعر عبد الغني عارف من حيث اللغة أو من حيث الفكر ؟ إنني لا أرى في كلا طرفي التساؤل أعلاه أدنى قسط من الصدقية نكون معه مجبرين على البحث بخصوصهما عما يمكن أن يكون مرتكزا لفهم تلك الملاحظة حول قصر هيكل القصائد فقط، وفقط لأن نقطة الارتكاز نجدها في صلب ما به يتقوم الشعر ذاته، ألا وهو أهمية وأولوية المعنى على المبنى حين يتعلق الأمر بالشعر . إن موسوعية الشاعر وعمق حقينته اللغوية واتساع أفقه الفكري هي ما يمنحه قدرة فائقة على قول الكثير من المعاني في القليل من الكلام . وهذا ما يسميه المتخصصون بتكثيف أو كثافة المعاني . ويمكن الوقوف بخصوص هذه الملاحظة عند قصيدة «سؤال أخير» لنقرأ : سألت الريح عن وجهة الحنين : أجابني الحنين : … ها وجهة الريح … إننا حين نتأمل هذا الزوج المفاهيمي: الحنين/الريح يمتد أمامنا أفق التفكير في المعنى. ووراء البحث عن المعنى تجد الذات المفكرة/القارئ نفسها تركب صهوة التيه مدى محايثا للاحقيقة في مقابل الحقيقة. فالشاعر يتساءل من خلال تلك القصيدة لا ليعرف أمرا مجهولا لديه؛ بل يتساءل عما يعرفه .. هو يعرف أن ما يشعر به هو الحنين ، لكنه ما فتئ يسأل عن وجهته وما الوجهة إلا دليل على البحث عن المصير، ليأتيه الجواب من صلب ما يعرفه عدما، لاعتبار أن الريح تكنس ما كان لترسم ملامح ما سيأتي فجاة . لعل الريح بهذا المعنى لحظة عصف بما كان والريح حين لا تعصف بما كان فإنها تأتي بما لا تشتهي السفن . هو الحنين يجعل النفس تتيه ما بين الجميل والجليل الى حد بوح يمزج بين النقيضين : الأنا والآخر، الحضور والغياب، الظهور والتخفي، ثم الكل والنصف. إنه البوح الذي تشيد به الذات جسرا للعبور نحو وجود حقيقي تكون فيه الذات ماتريد إذ تكون وآخرها عصفا بكل الوجود حين يستحيل أمامها مسخا هي فيه صورة أو ظل لكل واحد وليست هي هي ذاتها، تعصف به لتعانق نصفها الآخر فيصبح الحنين الى حب هنا- هناك معنى من بين معان كثيرة تعمل القصيدة على تثويرها في أذهاننا حين نقرأ في قصيدة «حضور في الغياب» : يا نصفي الآخر… أينا الحاضر في الغياب…؟ أينا الغائب في الحضور…؟ يا نصفي الذي أنت هنا …هناك عجل بالظهور فأنا بلا بك مجرد نصف لا نصف له… وأنت بلا بي مجرد نصف بلا أناه… لا تقدم القصيدة ما به نفسر لكي نفهم، فهي خالية من الأسباب التي قد تكون وراء هذا الفعل أو ذاك، إلى جانب أنه ليس هناك فعل متزمن في سيرورة الوجود داخل القصيدة بإمكان العقل أن يتخذ منه مسافة ليستطيع تأسيس فهم بعينه باعتبار أن الفعل في القصيدة دائم وزمنه هو اللحظة. وعليه فهو لا يحيل على نقطة بدء ولا نقطة انتهاء في الزمن . يجد هذا القول أساسه في اليقين الذي أمدتنا به رواية «مرايا الظلال» . ففي اللحظة التي يجيء فيها الحكي في الرواية في الزمن الماضي عبر آلية التذكر، فإن القول في القصيدة يجيء في الزمن الحاضر/الآن-هنا . إن الفعل في الشعر حضور لا يتزمن به اليومي الذي عاشه ويعيشه الناس باستمرار؛ بل تتزمن به الأنا المفكرة-الانسان . تنضاف الى ذلك فكرة أخرى مفادها أنه في اللحظة التي ينشد فيها الروائي تأكيد هويته الممتدة في الزمن على طول امتداد الافعال التي قام بها في الماضي، فإن الشاعر يرتقي من مستوى التواجد في زمن محسوس هو أساس الهوية الى زمن مفارق لما هو مادي حسي، زمن تعانق فيه الأنا المتكلمة كامل الوجود في بعده الكوني-الانساني، فيصبح أساس الهوية في رحاب الشعر هو الإرادة. والمقصود هنا إرادة الحياة والعبارة ههنا بالمعنى الذي يؤسسه الفيلسوف آرثر شوبنهاور حين يؤكد بأن الأساس الثابت الذي يسمح لنا بالحديث عن ثبات الهوية هو قدرة الشخص على الاختيار، أي أن يختار بين ما يريد وما لا يريد. وبهذا المفهوم يبسط الشاعر أمامنا، كما الفيلسوف، الحياة أفقا مفتوحا لاحتضان ما يمكن أن يراود كل واحد من أمنيات وأحلام وما يمكن أن يرسمه من انتظارات تظل وسيلة تحققها هي إرادة العقل ضدا على إرادة الأهواء التي تعبث بالإنسان؛ وهنا نستشف قدرة الشاعر على اختيار ما يريد عندما نجده يستبدل مفهوم الذكرى بمفهوم الحلم في قصيدة «ظلال» حيث نقرأ : (…) فانهمر الشوق..ذكرى مريرة (…) استجمعها …حلما وكنت بدل الظلال… كنت أنا ظلا لظلي… ثم يتابع الشاعر تأكيده على إرادة الاختيار في أكثر صيغه قسوة حين يختار الصمت الذي ندرك جيدا أنه إذا تمكن من ذات، تترنح تحت وطأة القهر والقمع والجوع والإقصاء وغيرها من مظاهر وجودها الزائف المتردي والهش، فإن مصيرها يكون هو التشظي، ويجعل الشاعر من هذا الصمت دليلا على التيه بما هو علامة على العقل وليس ملاذا يهرب إليه الجسد؛ إذ يعلن بشكل صريح لغة في قصيدة «نهاية» مايلي : تنهار الحكاية فأختار الصمت والبكاء لعل الدمع بملوحة الوداع يحفظ إشراقات شمس… كانت يوما.. داء في القلب …وللجرح دواء و في ديوان الايام أطرز حروف التيه وأختار الصمت …لغة للبوح والكلام… وفي واقع الاستبداد الموشوم بانسداد الأفق أمام الذات، لا يتراجع الشاعر عن اختيار المقاومة والتصدي لكل الإحباطات فيكتب القصيدة «وصية» قائلا : حين يستعصي فتح الأبواب.. ابحثوا بين الظلال عن الأسباب فهي اليد ترتجف.. أو ربما الصدأ بالمفتاح.. واحذروا .. فوراء الأبواب تنتصب دوما.. دهاليز الطغاة- الكلاب… يبقى اختيار الحلم بغد أفضل تأكيدا على موقف يؤسسه العقل بكل استقلالية عما يمكن أن يعصف بالانسان من إحباطات وإجهاض. إن الحلم تجسيد لقناعة ذاتية تتجذر في الموقف/السلوك،وهي ما نلاحظه عبر تبجيل وتقدير المناضل الشهيد عمر بنجلون في رمزيته التي تعتبر علامة دالة على المناضل الذي لا يتوانى ولا يتراجع عن المطالبة بواقع حقيقي، يكون فيه الناس ما يريدون وحيث تزهر روح الشهيد في «ربيع الشهداء» : والردة جواز نحو بلاط عبوديتها …ترتد ثانية، فيزحف الزيف تلو الزيف، من «أنبياء» يعلنون صراع الألوان يبشرون كذبا بأحلام وردية ووحدك المنبعث فينا عمر… ويستمر عبد الغني عارف في تطريز رمزية عمر/ الحلم في القصيدة ذاتها : هذي سنابلنا تتبرعم وسط أحزان الوطن.. تثمر فجرا حريحا/ربيعا للامل تكبر فينا جسور من الإصرار وكلها باسمك عمر ستمتد هذي السنابل/الاشجار لأجراس تدق الأمل : عمر.. عمر… عمر… لا تقف الرمزية مع الشاعر عارف عند المناضل فقط؛ بل نراها في مستوى حضور المرأة في حياته، إذ تحضر المرأة في القصيدة هي الأخرى رمزا للبدء والخلق، للذكرى والجرح، للشوق والرحيل، للغروب والسراب، للعتاب والصلاة، لنبض الفراشات وصهيل اللقاء، ولكل ما لم يقله حين نراه يختم القصيدة ب : أسميك.. أسميك.. ومن دون أن يستمر في إعلان ما به يسميها، فنحن نبصر ذلك من خلال عنوان القصيدة ذاته، فهي جاءت تحت عنوان يخبرنا بذلك مع سبق إصرار بحيث كان عنوانها هو «أسميك صمتي» وأمام رمزية المرأة / الحبيبة تنتصب إرادة الشاعر مدادا به يكتب الحلم/الامل دون أدنى ملل في «الانتظار» : وأمد يدا لبحر يريدني غريقا وأنا الموجة أمد سبيل النجاة علني أغسل دروب الهوى من وجع الآهات علني أتربص بالحلم إذ يأتي فازرعه في عينيك.. أفراحا..أشواقا..و للمطر الآتي أقواس قزح وغيمات….. هي اللحظة مؤثثة بكل أبعاد الحياة في القصيدة التي أوكل إليها الشاعر قول كل الكلام بأقل كلام، فنحن نلاحظ أنه منذ بداية الديوان إلى آخره تتوالى الأفعال في الحاضر لا لتفصل بين الماضي والمستقبل، ولكن ليكون مفهوم الآن نقطة انطلاق كما يريدها الشاعر سمفونية بلحن يزاوج الفرح والحزن على حد سواء . تلك هي اللحظة – الآن أمارة الشاعر بالتمرد على صيغ زمن الفعل الاخرى الماضية الغارقة في الماضوية أو المستقبلية التي ما تنفك تشرعن التسويف والانتظارية لباسا للكينونة البشرية؛ ألم يكن الآن- هنا هو مدة الخلق ومدة كل الولادات . ولا أقصد بذلك التحديد المعنى الذي تكون به اللحظة دلالة على الآنية الممتدة في الحاضر؛ بل أريد به معنى الآن-هنا من صميم إقرار الشاعر عبد الغني عارف بأن أساس هويته هو إرادته المتزمنة في حيث يوجد والتي بها كانت القصيدة فضاء زمكانيا لتجسيد الفكر سلوكا، أي تحويل القناعة الى موقف يتجسد عندما تقوله القصيدة مقفى فيصير آنذاك يقينا تنشده كل الذوات وليس الشاعر، ثم إن يقين الشاعر هنا معطى نظري (القناعة-الموقف) مفكر فيه سلفا وطيلة سيرورة حياته بما هي صيرورات بين الفرح والحزن، وبين الامل والحلم وبشكل مباشر وفوري، أي نتاج حدس الفيلسوف تارة ونتاج استدلاله تارة أخرى، بالإضافة الى أنه بحيازة الفعل صفتي المباشر والفوري يتأصل فكرا بعيدا عن كونه مجرد تجربة محدودة بزمان ومكان متعينين، ومن ثم تجيء القصيدة حكمة تقول الوجود والذات وتبوح بأسرار النفس والروح والأشياء في الآن ذاته. إن القصيدة تتجاوز زمن الحياة في استمراريته أو في انكساراته وإلا لم تكن لتقول شيئا لأنها حتما لا تتسع لذلك. إن وعي الشاعر هو ما يغذي حكمته ويمنحها الارتفاع مما هو حسي واقعي خاص الى ما هو مجرد نظري وكوني، ومن دون أن يعني هذا الأمر إضفاء صفة الحقيقة المطلقة والوحيدة، إنما يعني الإحالة على إمكانية تلوح في أفق يشيده الشاعر مدى مفتوحا على إمكانيات أخرى . ثم إن الشاعر عبد الغني عارف حين يتابع تطريز الواقع الزائف، فإنه لا يتماهى معه ولكن ليعلمنا كيف نبدد عتمته ونرسم في أفق الحياة غيمات نشد على خصرها، آملين ان تمطر علينا الحب، العدالة والمعنى لنبلغ الحياة عشقا وليس امتثالا للضرورة، ولقد تجسدت رؤيته الشعرية وصايا في كل الأبعاد التي يغدو الوجود الانساني بها حقيقيا وأصيلا ينال فيه الانسان كرامته استحقاقا .