حين يغدو الشعر بيانا، فإنك تبحث عن الحقيقة بين خيوط المعنى ، فتكشفها في لبوس قدسي ، محفوف بهالة من الوجد النوراني للمشاعر. هذه المشاعر التي تعيد صياغة العالم ، كمعادل فني لما انصهر في الذات الشاعرة ككيمياء يختصره قلق السؤال عن الوجود. ويقيني أن الشاعر ، أيا كان ، لا يشبه الشاعر في حضرة الشعر. لأن كل قصيدة تتمتع باستقلالية اللحظة ، يتيمة لأخريات في عملية الإبداع وداخل سيرورة ثقافية ولغوية تتمتع بالنظرة الكلية للعالم ، زمنيا ومكانيا . والشاعر عمر الشعرة بوحاشي يسم ديوانه بعنوان "الضياء الماطر" وهي عبارة تمثل الثابت في رؤياه الشعرية بُناء على منطق الاختيار ،إيمانا بأن العنوان يعتبر نصا محوريا بتعبير رولان بارط ، بل رغم وروده عادة متأخرا عن كتابة النصوص ، فهو سابق في جيناته التي تتسرب إلى جسد القصيدة أو الديوان . فهو يتمتع بضرورة السبق مهما تأخر . وبالتالي يدفعنا إلى البحث عن تشظياته الدلالية داخل كل قصيدة ، لتعود إليه في نهاية الأمر موجهة سهمَ دلالتِها نحو بؤرة المعنى المتضمن في العنوان حيث يسكن المطر والضياء كمجالين خصبين لعمليتي الكتابة والمحو. وبدون استئذان تتوالى الولادات حرفا حرفا ، في ثنايا الورق الأبيض ،حيث يختار الشاعر لكل مولود عنوانا، هو ابنه الشرعي ، يشكله هذا الضياء مطرا فلا شيء بدون ضوء . والسواد كاشف للضياء وهو الذي يكسبه الاسم ويكسبه الوجود . هو أساس القيامة والانبعاث . والضوء حقيقة ، والحقيقة جوهر الأشياء ، وهي الضوء المحاصر بالسواد ، ولا يُجَليها سوى النور المنبعث من مسافة . وهذا يعني أن بين الحقيقة والباحث عن الحقيقة مسافة غور لغوي وتاريخي وجمالي نفسي اجتماعي . والصورة - رغم أننا لن نعتمدها في الدراسة - خير معادل لتشكيل سيميائي لواقع الكلمات ، والتي تجمع بين الدلالة المعجمية والدلالة السيميائية في نصوص ديوان الشاعر عمر بوحاشي . ومن خلال بنية الجمل الفعلية اعتمادا على وضع الفاعل ، ارتأينا أن يكون الصراع مكونا افتراضيا لقراءة الديوان ، معتمدين في ذلك على مجموع الأبنية للنصوص المختارة في كلية لا تلغي الجزء ، وهو ما سيربطنا ببنية اللغة أساسا . فإليها نوكل الإفصاح عن الدلالة من خلال ما توفره اللفظة في سياقاتها التركيبة والإيقاعية والصرفية ... هذه العناصر التي تنخرط في شبكة من العلاقات النسقية لتشكيل شعرية النص كما جاء الديوان مفصحا عن جنسه بكلمة "شعر". ولمقاربة الديوان من خلال النماذج المعينة تمثيلا ، سنحاول الوقوف عند جوانب من نصوص الديوان ، ونكشف عن بنيته الدلالية مؤقتا ، استجابة لأول عقد قرائي كما تمليه عملية الوصف ابتداء ، وهي عملية تأملية ضرورية للدراسة ، نراها تشبع الرغبة الكامنة في القارئ قبل ولوج مجاهل النص ، درءاً لعلاقة عشقية مفترضة قد تسيئ لقراءة عمل شعري يتطلب الموضوعية النقدية. وإذ يصعب أن نقيم جمعا في دراستنا، نحاول التتبع التمثيلي لمعجم الفعل وفاعله كمكونين إسناديين تركيبيين أساسين في الجملة الفعلية من خلال المحاور التالية: - من القضية إلى لغة الشعر. - الإسناد في الجملة الفعلية أو رغبة الحضور والغياب. - من بنية التركيب إلى بنية التحريض. - فاعلية البحر في بناء الدلالة . - من القضية إلى لغة الشعر وإذ أتيمن بمقدمة الناقد والقاص محمد إدارغة ، الذي يعتبر الشعر عند الشاعر عمرالشعرة بوحاشي : " ... لا جدوى منه إذا لم يراهن على الانخراط في الإدانة ، الفضح ، واقتراح مستهدفات الممكن ... وهذه قناعات المثقف العضوي ، وهي قناعات تتجلى في نوعية الانشغال القضوي وأبعاده ومستهدفاته ، وجرأة الموقف ، والنزعة النضالية المستدامة ، والتزامية الطرح .. مما اقتضى لغة ترفض المهادنة والمصالحة مع الواقع " . كلام ينفي عن الشعر أن يتجرد من القضايا باعتبارها أفضية تاريخية ، كما تلتقطه عدسة الشاعر عمرالشعرة بوحاشي ، منذ أول قصيدة الديوان التي تحمل عنوان " حوار مع الديوان " ففيها يطرح على لسان الديوان أسئلة الوجود الذي يتموقع بين الحقيقة والخيال /الوهم ، حيث يقول : سألتُ الديوانَ ، هل شعرت بالحقيقة ، في زمن الصخور ؟ وأمام هذا السؤال يتكلم الشعر عن نفسه في حوارية جميلة ،وهو ما يؤكد اعلان الشاعر عن دخوله في عالم الانفصال عن الذات حين يمنح خارجها فعل الكلام نيابة عنه ، وليركن هو إلى الظهور كلغة مُحفّزةٍ ومحّرضةٍ تؤمن بعسر الخطاب في زمن الانكسار . ومن ذلك تتشكل عمق الرؤيا الشعرية للتاريخ الموشوم بالانكسار والهزيمة . فيصبح الزمن صخريا في رؤياه ، لا يقوى الانسان على كسره وفتح مستغلقاته . وهو شعور يرفضه الشاعر ،لأنه يقف حاجزا أمام ظهور الحقيقة ما دامت معتقلة في زنزانة الآخر الذي هو الزمن التاريخي ، والذي أحدث الخراب والموت والدمار في في الإنسان والمدينة . ومن هنا نبادر إلى القول بأن الشاعر يؤثث لرؤية مأساوية تجاه واقع قيمي منحط ، حيث يعمد إلى ترادفات معنوية ودلالية بشكل مكثف ، كما يتضح في جمعه بين المتضايفين " رماد "و" القبور " وكلاهما دال على السكون . ويبقى اختيار الرماد في القبر هو استلهام لرغبة الانبعاث والحياة على غرار الفينيق .وهو ما يتبين من الكلام الذي جاء على لسان الشعر : فأجاب مبتئساً : منْ حرَّرني مُدان حين ساق مدائني إلى رماد القبور . و( مَنْ) الموصولية تعود لمشترك غير محدد ، مما سيعمق المأساة ، على امتداد 39 قصيدة في الديوان .فأغلب العناوين جاءت جملا اسمية في حين بلغ عدد الفعلية تسعا .ولم يعد الفاعل فيها على الشاعر إلا في ستة ، ونسب الفاعل لغيره في ثلاثة . وعليه سأكون مختصرا ، أعتمد على بعض من القصائد الست التي يعود الفاعل في عناوينها على المتكلم/ الشاعر ، وذلك لنحدد بنية الذات التي نفترض أن حضورها يحمل دلالة الفعل المتضمن في جملة القول ( لابس – محرِّض – متنشِّق – باحث – مصغٍ – غاف ) في القصائد كالتالي : لبستُ رداء خيالي - حرَّضْتُ الرياح والأقحوان - أَتنشَّقُ أنسام البحار - أبحث عن خريطة - أصغي لهمس النجوم - غفوت في كف المدينة . وليس يعني اعتماد القصائد الست سوى استئناسٍ بلحظات انبناء القول الشعري كإجراء قرائي ، قد يسعف بالقبض على الرؤيا الكلية من خلال الكشف عن التعالقات والامتدادات في جسد الديوان كله . إنها عملية تستهدف الوقوف على ترابط الجزء بالكل الذي ينتظم فكرَ الشاعر والخلفيات المتحكمة في لاوعي الكتابة الشعرية . إن فسحة السفر في العناوين ، توضح بسرعة المد الزمني بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال القيمة الفعلية . فالماضي (لبست – حرضت – غفوت ) والحاضر ( أتنشَّقُ – أصغي ) والمستقبل ( أبحث ) . وعليه يكون فعل "لبست" متضمنا لفعلي "حرضت وغفوت " مما يعني أن ذات الشاعر هو لباس يجمع بين فعلين يخفيان الصراع ، أي أن دلالة التحريض تقتضي حركية وفعلا وهو ما يتناقض مع فعل الإغفاء والإصغاء الذين يحيلان على الصمت والسكون . أما الحاضر فاعتمد على فعلي " أتنشقُ وأصغي " . والفعلان يستوعبان تضادا من حيث ممارسة الفعل من جهة( أتنشق) وتقبله من جهة ثانية (أصغي). كما يعكسان الحركة والسكون كبنية لصراع يسكن الذات الشاعرة . أما المستقبل فرأينا أن فعل "أبحث " يحمل استمرارية نحو المستقبل بحثا عن خريطة ، مما يحيلنا على مفهوم التيه والضياع من جهة ، والأمل في قدرة الطبيعة على تخليص الإنسان مما يعانيه من شعور بالقهر، هو شعور بالرغبة في أن يغسل المطر ما علق بالقيم من شرور كما جاء في قصيدة ( رحلة الأمطار) ص37: يا أمطار ، حرري بسُلطة السماء أُناسَكِ في الأرضِ مِن تحكُّمِ الأشرار ... وليس الأشرار عند الشاعر غير ذلك العشب اليابس الذي يفسد نضارة الحقل الندي كما يفسد الشر منابت الخير ، ويحدث الحزن والقلق للإنسان، ولا يمكن استئصاله إلا عن طريق حركية تاريخية ثورية ينتظرها الشاعر ، يقول في قصيدته " غفوت في كف المدينة ": غفوت في كف المدينة أحمل أحلامي الحزينة . إلى أن يقول : أنا في انتظار تاريخ يشرق بعبارات ثورية ... ويقصي العشب اليابس من حقولي النديّة . هكذا تغدو القيم في الشعر معادلة صعبة ، لا تتحقق إلا بقدرتها على التحفيز والتحريك لقوى خارج الذات المدرِكة ، وذلك عن طريق صياغة الدلالة المنفية في الواقع المادي ، والموسومة بالتأرجح بين الظهور والغياب ، ولا يُنطِقها سوى لغة الشعر والخيال المعتمدة على كيمياء التركيب وتلوينات المعنى حين يهب المفعول دور الفاعلية نيابة عنه كقوله : أنا في انتظار تاريخ يشرق بعبارات ثورية. بنية الإسناد في الجملة الفعلية بين رغبة الحضور والغياب . وأول ملاحظة في نص " لبست رداء خيالي " تحيلنا على عنوان افتراضي هو ( غياب في الحضور والغياب ).وأعني بالعنوان ما تمليه بنية الجمل من حيث الفاعلية . فالشاعر عمر الشعرة بوحاشي باعتباره الراوي ، يوجد بين وضعين ، فهو حين يستحضر الأفعال يوردها مقرونة بالتغييب في أشكاله المتنوعة . ف" لبست "و " أزيح " تعلق الأول ب "خيالي " والثاني ب" أحلامي" . وكل من الخيال والحلم حالتان تتجاوزان الوعي الإنساني ، ولا يتم استحضارهما إلا كقوتين قاهرتين للذات الشاعرة التي تنزع نحو شعرية التخييل كمعادل رمزي للحيز المادي لها . وبالمقابل وردت أفعال لفواعلَ خارج الذات ، من قبيل :" زارني – أسرى ب .." ففاعل الأول "ملاك الأحلام " والثاني " ضمير يعود على ملاك . هكذا نجد الجملة في النص يهيمن عليها الإخبار ابتداء ، وكأن القصد هو فعل القول وما يتضمنه من دلالة جزئية ، يعلنها السطر الأول الذي ارتضاه الشاعر عنوانا وهو ( لبست رداء خيالي) واللبس هو كل ما يلبس للستر والتستر ، لكنه يظل في الشعر غطاءً من نوع خاص ، هو غطاء اللغة والخيال الذي يجرد المرء من واقعية الواقع ، فيرتاد واقعا متخيلا ، على شاكلة احتراف النرفانا الشرقية . ومن استحضار الخيال يغيب الفاعل كرغبة قسرية من الشاعر في تحقيق الانفصال عن حضوره المادي ، ليرتاد عالم الحلم هربا من جغرافيا التاريخ وقيمه ، متمسكا ب "ملاك الأحلام" الذي سيخلصه من حضوره ليحضر في الغياب ما دام فعله لم يتجاوز فعل التحريض ( حرضت سهام الأرض – للفتك بدماء السواد ) . وهو فعل يتدثر بالأحلام والمطامح التي يحياها الشاعر كقلق فكري ، وهي مطامح غير قابلة للإنجاز إلا بالقدر الذي يسمح به الآخر المتحكم في (سهام الأرض ) وهو "ملاك الأحلام " إنه الفاعل الحقيقي الذي يمتلك حضوره الفعلي وقدرته على استعادة الوجود الكياني للشاعر/ النبي عبر عملية الإسراء ، حين "أسري برغبته نحو الأعالي " ص15 ، وذلك لإقامة العلم والتحديث مقابل قتل الخرافة والأسطورة ، في قوله : كان عنوانها الأكبر حداثة شامخة السؤال تروى بمداد التنوير لأرتاد إقامة العلم وأُردي مسكنَ الأساطير في النفق القاتل العليل. إن القصيدة بهذا المفهوم هي بنية شاملة ، جمعت في شكلها ومضمونها رؤيا شعرية متلاحمة ، وكما يرى يوسف الخال في حديثه عن القصيدة الحداثية فإن :" القصيدة خليقة فنية ، جمالية لا توجد بمعزل عن مبناها الأخير ، فما هي معنى محصن وما هي مبنى محصن ، بل معنى ومبنى معا " * من بنية التركيب إلى بنية التحريض ومن فعل التحريض على نبذ القيم المنحطة ، يستعين الشاعر بالطبيعة في قصيدة "حرَّضْتُ الرياح والأقحوان " . والعنوان جملة فعلية خبرية ، فاعلها الذات الشاعرة الراغبة في التحول والمحو ، لكن سرعان ما يوكل للمفعول به القيامَ بالفعل . وهو ما يعكس في رؤية الشاعر انحصارا في فعل القول إيمانا بلا جدوى تحويل القدرة الكلامية إلى إنجاز ، فيُنيب عنه الرياح والأقحوان اللذين جاءا متعاطفين مفعولا بهما على مستوى التركيب ، كما المخيال الشعري . وهما الوجه الثاني للقول ، حيث تنساب الكلمات لتجعل من الرياح لقاحَ أقحوانٍ دما وحبا . فالشاعر وهو يترصد توالي الجمل في سردية شعرية ، يُسَلِّم فعل التحريض للرياح والأقحوان ،اللذين سيسلمان بدورهما العيونَ للأذهان ، ومن الأذهان سيتحقق المرور إلى رؤية العقل ، والعقل مدار العلم والنور . وعن طريقهما يتم رسم الآفاق فرحا أسطوريا للإنسان حيث ستتحقق رؤيا الشاعر التي تنشد الأمل في تحقيق الفرح للإنسان. لقد جاء في القصيدة فعلان فقط مسندان للشاعر ( أنذرت و حرضت) في حين نرى باقي الأفعال أسندت لغير الشاعر .وهي المعادلة التي تحيل على بنية أعم في سياق الكل ، مفادها الإحساس بالخيبة ، والشعور بغياب القدرة على مجابهة السقوط ، إلا ما تملكه الذات الجريحة من التجرد من القدرة الفاعلية ليكتفي بالتحريض الذي يترجمه فعل الكلام ... هكذا تتناسل الجمل الفعلية ، وتصبح بنية الفعل نواة تحريضية ومنفعلة في آن ،حين ينفلت الأمر والنداء من دلالتيهما الحقيقية إلى لغة المجاز ، هي لغة الحلم والتمني من خلال السطور التي ختم بها الشاعر اقذفي يا رياح إلى حيث شئت فرجوعي دوما لسموّ الأذهان. هكذا ينحبس الشاعر في أيقونة الذهن المجردة ، فيتجرد فعل التحريض من فعله ، وتتعمق مأساة الشاعر حين يسند الأفعال لغير فاعلها أثناء فعل الكلام . ولا تكون نسبة الفعل لأنا الشاعر عبر التاء المتحركة سوى بحث عما ينتجه القول إقناعا للمخاطب تارة وتضليلا تارة أخرى أو إرشادا وتشجيعا تارة ثالثة ...فيكون الأمر من باب القول الشعري محاطا بالحلم والرغبة في إيجاد معادل مادي للذات الرافضة والباحثة عن بديل قيمي كامن في الذات . إن صوت الشاعر من خلال الفعل يحلم بأن يتحكم في باقي الأفعال المشكلة للبنيات التركيبية الصغرى . فهو يكتفي بالتحريض على مستويي التركيب كما الدلالة ، جاعلا من حركات نصوصه انفصالَ الذات عن الموضوع المرغوب فيه .أي أن الصوت يبقى مجرّد تصحيح سلبي لهذا الواقع المهزوم والمأزوم ،و لهذا الإنسان المقهور . والشاعر اكتفى فقط بإعلان القول كبنية تؤطر باقي البنيات الفعلية المجاورة ، مما سيجعل نواة الأفعال جوهرا يمثله فعل صراع القيم . إنها القيم والعواطف المرتبطة بالفعل الشعري التي حكمت على الشاعر أن يصب كلّ الأبنية التركيبية والدلالية في نقطة بؤرية واحدة هي الصراع بكلّ مظاهره و وتجلياته ، وفي أفق تحويل الأفضية إلى رحابة لا تسعها سوى الأمداء المكانية والفكرية . فاعلية البحر في بناء الدلالة يكتسي البحر رمزية مطلقة جوهرية في الديوان ، تتيح للشاعر عمر بوحاشي أن يرحل عبر الخيال إلى آفاق رحبة وغير محدودة . وجاء توظيفه ك"موتيف" قادر على بناء العلاقات المجازية وتوليد الاستعارات . وهو موطن الرحلة نحو الأعماق للبحث عن الجوهر المفقود ، وعن المطلق الذي تحن الذات إليه.هو مكان الرهبة والرغبة في الكتابات الشعرية والنثرية منذ القدم ، تعبيرا عن الأوضاع النفسية والاجتماعية كما عبر عن ذلك كثير من المبدعين المغاربة شعرا ورواية احتفاءً بالبحر ك"الأفعى والبحر" لمحمد زفزاف، "الوردة والبحر" للمرحوم إدريس بلمليح، "رحيل البحر" لمحمد عزالدين التازي، "بحر الظلمات" لمحمد الدغمومي، و"عشاء البحر" لأبي يوسف طه. ففي قصيدة ( أتنشق أنسام البحر) ص33 ، يعود الشاعر عمر الشعرة بوحاشي إلى قاموس البحر ، يحتمي به كقوة منقذة ومجال لممارسة الحرية و(تطهير التاريخ من الفتن ). والمتأمل في بنية التركيب الجملي يلاحظ أن استحضار قاموس الذات جاء ليعلن فاعلية الآخر الذي يشكل سلطة برانية مجاوزة ومجاورة في آن، على مستوى القلق الذهني ، وكأن الشاعر يعيش غيابه في ذاته، ولا يخرجه من عزلته سوى الحلمِ ورغبةِ الروح في السفر نحو خارجها. وهو ما يسعفه على النظر في أمداء السماء والبحر حين يقول : تحملُ روحي أجنحةُ الأطيار. تطوف بي في فضاء هاديء أتنشق أنسام البحار . ف " الروح " تحملها أجنحة الأطيار ، وهي في مفعوليتها تقدمت الفاعل لدلالتها الموشومة بالامتداد الموازي لرحابة السماء كفضاء لاحتضان الروح .وهذا التركيب يشتمل على تصوير يحمل دلالة صوفية استمدت غورها الأسطوري من الثقافة الإنسانية والإسلامية ( يسألونك عن الروح ...). هكذا تتعالق الجمل الفعلية حول محورية التحليق بين فضاءين : علوي وأرضي . ف" أجنحة الأطيار" تحمل قدرة الفاعلية على تحرير الذات من ذاتها . فتصبح الذات بذلك تحليقا يوازي غور البحر وغور الروح . غير أن الذات في غورها تتكلم وتكشف عن سرها. بل تعيش صراعا مع نفسها وهي تبحث عن سكينة لا يهبها إلا فضاء البحر الهاديء . هكذا يغدو معجم شاعرنا محفوفا في بساطته بغور دلالي يتسع عبر كلمات الحلم والروح والبحر والعزف والكون والصفاء والأسرار والكتابة ...وهي في حقلها تحيل على ما تعرفه الذات من صراع يمكن النظر إليه من خلال ثنائية السماء والأرض ، ومدلولاتهما عن الروح والجسد كفضاءين لقيم التناقض الوجداني الذي يعيشه الإنسان ، فيحتمي الشاعر بالماء المتمثل في البحر القادر على محو ما علق بالإنسان من دنس. هو فضاء الطهارة .ولذلك سيتحول الشاعر في سطور يخاطب البحر بقوله : قلت : أنت يا بحرُ أنيسي تعانق أنفاسي في العبور... سأبقى وفيا نديا لا أبرح الصفو في أرجائك أحمل في دمائي موجك والهدير. إلى أن يقول : أنت يا بحرُ سرُّ الوجود تزج بالقلق الشاق في العمق الغائر لتطهير التاريخ من الفتن . ففي هذا النص يعول الشاعر عمر بوحاشي على بنية تركيبية تتمتع بالحركية ، وكأن الشاعر يقيم مع البحر حوارية تمكنه من الإحساس بالأمان والأمل .فجاءت الجمل الشعرية فعلية توصيفية في عمومها . حيث يقف أمام عظمة البحر متمتعا بهدوء شعري نابع من فكرة التأمل فيه ، مقرا بالقول ( قلتُ ) لتأكيد موقف الإحساس بالأنس معه : فالبحر أنيس ، والبحر سر الوجود . لقد جاء لفظ البحر متكررا في السياق الشعري في الديوان، وهو تکرار يعكس جانباً من الموقف النفسي والانفعالي. وقد جعل الشاعر من البحر أداة جمالية تنبني عليها الجملة الشعرية ، وتؤدي وظيفة جمالية تخدم الدلالات الكبرى لرؤياه الشعرية ، والتي تتأسس على بنية عامة تقوم على فكرة البناء والهدم ، مستعيرا المفردات المنثورة على كامل فضاءات القصائد مثل (الجثّة ، القتيل، المشنوق ، الكفن ، القبر، البكاء، الحشرجة، الحمى، المواجع، النشيج...،) و قد حولها الشاعر جميعها من دلالاتها المعجمية إلى دلالة جديدة تتمثل في قلب الدلالة لتصبح إشارة إلى الموت وانهيار القيم الانسانية مقابل الاحتماء بلغة الماء الذي يضيء العالم بما يملكه من قدرة على غسل الدنس العابر لكل السلوكات الإنسانية . وليس البحر سوى فضاء مائي جدير بهذه المهمة ، ما دام المطريقدم للضياء صفته كما ورد في عنوان الديوان ( الضياء الماطر ) . وبُناءً على ما سبق ، فإن الشاعر عمر بوحاشي الشعرة يبني شعرية قصائده على التحول المستمر ، فهو يعيش مخاضا يتجدد مع كل سطر في تعالقه الانسيابي مع باقي السطور ، وهو ما يعني أن القصيدة أو الديوان برمته يشكل وحدة حزن عميقة . الأمر الذي جعل بنية الجملة الشعرية موسومة بالقلق الوجودي ،حيث يتبادل الألفاظ دور الفاعلية ، وهي مزية شعرية جديرة بالتأمل والقراءة.