بقعة ضوء: تستدعي مقاربة ديوان الشاعر جمال أزراغيد “حوريات بقدم الكون” إطلالة على بعض المحددات السياقية والمعينات القرائية، فالشاعر ينتمي زمنيا إلى ما اصطلح عليه بجيل الثمانينات الذي استطاع أن يتمثل التحولات التي عرفها الشعر المغربي المعاصر، منذ بداياته الأولى في مرحلة الستين والسبعين، وإلى استكمال مرحلة البناء الشعري والرغبة في تجاوز السائد كما هو الشأن في باقي القطاعات الاجتماعية والسياسية والفكرية، أما من حيث النوع الشعري والجمالية الفنية فقد خط الشاعر لنفسه نهج قصيدة النثر حيث الانسجام والتآلف بين مكونات القصيدة لغة ونغما وإيقاعا داخليا هذه العناصر كلها وغيرها تكون صورة شعرية تأخذ بتلابيب المتلقي، فكانت نصوصه الشعرية في ديوانه الأول “أسماء بحجم الرؤى” عام 1989م مستجيبة لروح اللحظة الوطنية والزمن الفلسطيني بكل جروحه وآلامه، في طابع رومانسي حضرت فيه الذات الشاعرة مضطربة تنشد الحياة وتهاب الموت، لذا أرخت نصوصه الشعرية ضمن الفترة الزمنية الممتدة من 1988 إلى 1996، أما الديوان الثاني والذي وسمه ب “غنج المجاز” 2011م فقد امتدت نصوصه زمنيا بين عام 2001 و عام 2010، حيث يتبدى في العنوان التزاوج بين الأنثى والقصيدة، مما سيؤسس لطفرة جديدة في تجربة الشاعر ضمن الديوان الثالث. 1 – البعد الأسطوري في تشكيل الصورة الشعرية: تعتبر العتبات أولى صور التلقي، وقد تكون بمفردها محددا قرائيا فإما منفرة أحيانا وإما مستفزة أحيانا أخرى، وداعية لتفحص النصوص والغوص في أعماقها، ورصد صورها وبلاغاتها، بما تحمله من تركيبة شعرية لها وظائف متعددة، والشاعر جمال أزراغيد من بين الشعراء الذين يولون عناية خاصة للعناوين، ف”حوريات بقدم الكون” عنوان محفز على القراءة من ناحيتين الأولى تركيبية والثانية تأويلية، فهو يتكون من مقطعين يربط بينهما حرف الباء ذاك الحرف الجهوري الذي يقف شامخا برغم كونه من الحروف الفموية، والحوريات جمع حورية، مخلوق الذي يتشكل من نصف علوي ذي طابع أنثوي ونصف سفلي يتخذ شكل سمكة، وقد اتخذ هذا المخلوق طابع الأسطورة في الميثولوجيا العالمية، ولها صيغتها اليونانية واللاتينية والعربية كذلك كما ورد في الليلة التسعين بعد الستمائة من كتاب ألف ليلة وليلة، واتفقت الروايات على جمالها الخارق وشدة بياضها، وما عرفت به من روح طبيعية رقيقة، أما المقطع الثاني من العنوان فهو”قَدم الكون” وقد تعمد الشاعر وضع الإشارات الإعرابية، حتى لا يلتبس التلقي في كلمة “قدم” فتكون “قِدم” بكسر القاف فتتحول الدلالة إلى سياق آخر مختلف تماما، ف”القَدم” في اللغة العربية بفتح القاف والدال، لها دلالات متعددة حسب سياقاتها فقد جاء في معجم المعاني “القَدَمُ : ما يطأُ الأَرضَ من رِجل الإِنسان؛ وفوقها السّاقُ، وبينهما المَفصِلُ المُسَمَّى الرُّسْغَ، القَدَمُ . وقد أسندت القدم للكون فشكل انزياحا دلاليا خرج بكل الدلالات الواضحة إلى أعماق المعاني وظلالها، وتبقى أداة الربط بين مقطعي العنوان هي الفيصل في إدراك خبايا وأسرار الصورة الشعرية التي يسعى الشاعر إلى ترسيخها في ذهن المتلقى بعد الدهشة الأولى، حرف الباء الذي صنفه علماء اللغة العربية من حيث المعاني إلى أصناف متعددة من بينها الإلصاق والاستعانة ثم السببية والتعليل ثم التعدية ثم القسم فالعوض فالبدل فالظرفية فالمصاحبة فالتبعيضية، ثم بمعنى “عن” ثم الاستعلاء وأخيرا التأكيد، وإن قراءة تأملية لهذا العنوان “حوريات بقدم الكون” تدخل الباء ضمن معنى الظرفية، أي مكان الوجود والحلول، يقول في قصيدة “حورية بقدم الكون”، يقول: ليليث عادت تصرخ في وجه قرينها بما أوتيت من تمرد الأنثى أن يطلق طائرها من النفق رغبة أو رهبة إلى سماء نجومها حوريات تسير بقدم الكون فالباء إذا هي باء الظرفية المستفادة من كلمة “تسير”. في ديوانيه الأول والثاني اعتمد الشاعر عنوان قصيدتين جعلها العتبة الخارجية، أما بالنسبة هذا العمل الشعري فيلاحظ المتلقي أن الشاعر قد ألف بين عنوانين داخليين هما: “حورية بقدم الكون” و”خليج الحوريات”، جاء العنوان الأول من حيث تركيب الشق الأول مفردا “حورية”، في مقابل “حوريات” في العنوان الخارجي، لذا اعتمد العنوان الثاني من حيث شقه الثاني “حوريات” في العنوان الأصلي”، أما زمنيا فالقصيدة الأولى كانت عام2013 م بمدينة الناظور، أما الثانية فكانت عام 1999م بمدينة الحسيمة، وما بين القصيدتين زمن امتد على نحو أربعة عشر عاما، وما بين الحسيمةوالناظور رابط البحر الأبيض المتوسط بما يحمله هذا الفضاء المائي من حكايات وأساطير وحضارات عبر الدول المتعاقبة والإمبراطوريات المتوالية، فأي حورية هذه التي تناسلت عنها حوريات في خليج الحسيمةوالناظور؟، فالقصيدتان معا اتفقتا في الاعتماد على تقنية الأسطورة وجماليتها، إذ بالإضافة إلى الحورية أو عروس البحر أو بنت البحر، تظهر أسطورة “ليليت” التي تضاربت الأبحاث الأنتروبولوجية حول حقيقتها بين كونها شيطانة العواصف في بلاد الرافدين، وزوجة آدم الأولى أو أخته، واتخذت أوصافا متعددة بين الجمال والغواية والتمرد، فتتجلى في صورة أفعى ساحرة، أو قد تتلفع بها الأفعى لتجسد القوة والاستبداد . 2 – بنية الضمائر وسؤال الأنا والآخر يشتغل الشاعر جمال أزراغيد باللغة وللغة وعلى اللغة، حيث يعمد إلى إنتاج معاني جديدة من مفردات مألوفة عبر تركيب الصيغ وإبدال المفردات، ومن بين الخصائص الجمالية التي تميز هذا الديوان الاكتساح اللافت للضمائر وخصوصا ضمير المتكلم، فتتجلى “الأنا” مفصحة عن حضورها القوي، معلنة وجودها الكلي والمطلق، هذا الوجود الذي ينساب مع حضور الآخر باعتباره المعادل الموضوعي لوعي الذات بحضورها ووجودها، ومن ثم يمكن لنا الحديث عن ثنائية الأنا والآخر منذ العتبة الخارجية، “الحوريات” جمعا و”الحورية” فردا باعتبارها الأنا، المكون الأول، ثم “الكون” باعتباره الآخر بكل تفاصيله وتمثلاته في المخيلة الشعرية، وبين حدودهما يصوغ الشاعر جمالية صوره الشعرية التي تنبثق من رؤيا خاصة تجعل من اللغة الشعرية مبتدأ ومنتهى، يقول في “مثوى الظل”: يا ليتني أحببت قمرا يدلني على وجهي التائه في الغيوم صحبة مرآة تقولني… أخشى أن يكتشفني gps حزينا منكفئا على ظلي أغني لعاشقتي غربتي على عود تخزِّن فيه الأوتارُ العشق الصديق الوقوف عند الضمائر في هذا المقطع الشعري يجعل المتلقي أمام حزمة من الوضعيات الإشارية استعان بها الشاعر قصد وصف اللحظة النفسية الممزوجة بالألم العميق لعاشقة سادية تتلذذ بنغمات الحزن وتعذيب الآخر، فالضمائر المُحيلة على الذات المتكلمة تجلت في ما هو ظاهر وما هو مستتر: -الضمير الظاهر:- “ليتني”-“يدلني”–”تقولني”-“يكتشفني”-“وجهي”-“أحببت”-“تخزن”. -الضمير المستتر: المتكلم المفرد “أنا”: أخشى، أغني. يتبين من خلال استقراء هذا المقطع اهتمام الشاعر الكبير ببنية الضمائر في نصوصه الشعرية، حيث تمثل الحضور البارز للذات المتكلمة عن طريق توظيف وضعيات إشارية دالة عليها، وقد تنوعت بين الظاهر والخفي، بل نلاحظ هيمنة الذات المتكلمة في هذا المقطع الشعري، وهي هيمنة تعكسها الوضعية النفسية للأنا الساعية للبوح بما يكتنفها من ألم ووجع، ولعل في تكرار بعض الضمائر مثل “ياء” و”نون” المتكلم، لدلالة واضحة على حضور الأنا في هذا السياق التواصلي النفسي أولا، ثم الشعري ثانيا، مما يجعلنا نقف عند سؤال يفتح للقارئ أفق التلقي: من المرسِل ومن المرسَل إليه وما الرسالة؟، فالظاهر يقول إن المرسل هو نفسه المرسل إليه، أي الذات المتكلمة نفسها كما لو أن الأمر يتعلق بحوار داخلي نفسي، إلا أن السياق النصي يقول بوجود مخاطب آخر يرمي إليه الشاعر إن قصدا أو بدونه، وهو المتلقي الذي قد يكون نفسه تلك العاشقة التي تتلقى أغنية الغربة على وتر عود حزين. ولعل رغبة الشاعر الأكيدة في تبئير الرؤية جعلته يستعين بمفردات دالة على النور والاكتشاف مثل القمر المرآة ثم GPS، وهي دلالة واضحة على دخول الشاعر عالم التكنولوجيا التي أضحت تشكل أحد أهم الحقول المعجمية في الأدب الحديث والمعاصر. إن شدة تماهي الشاعر مع ذاته تجعله يغوص في أعماقها باحثا عن “الأنا” المستلذة بالحياة الملونة بحجم رؤاه البعيدة، لذا يستمد في كثير من الأحيان من هذه “الأنا” الاستهلال الشعري والانتقال المقطعي، كما في هذا النموذج يقول من قصيدة “ألوان”: أغوص في مرسمي متوسلا طيفها أن يأتيني فجرا صبوحا ألبسه كلماتي شمسا.. للتي زرعت بسمتها على الأشكال تستفتي صداقتها في رفيف الذبذبات تقف “الأنا” في البداية معلنة وجودها عبر الأفعال “أغوص”-يأتيني”-“ألبس”، ويتجلى “الآخر” في الضمير المتصل بالطيف “الهاء، “طيفها”، يبني الشاعر هذه الثناية على الحضور والغياب، حضور الشاعر فعلا عن طريق وضعية التلفظ أولا، ووضع الضمير المتصل بلفظ “المرسم” “مرسمي”، فتكون القراءة الأولى للمقطع متجهة نحو الوضعية الأقوى للضمير المتلفظ بالقول والحاضر وجوبا في الفعل، حين أسندت الأفعال إلى الذات المتكلمة، إلا أن البحث في ظلال المعاني يبين أن القوة الفعلية هي للذات الغائبة، عن طريق البحث في طبيعة الوضعيتين، فالذات الشاعرة تغوص متوسلة، وهذا دليل الاستعطاف وضعف الحيلة وتذبذب القوة، أما الغائبة “هي”، فقد أبانت عن قوتها ببسمتها التي أقلقت منام المتكلم، فأصبح يستعطف مجرد طيفها، فماذا عن وجودها الفعلي، مع العلم أن الضمائر هي أسماء غير دالة بمفردها، ولكنها تكتسب دلالاتها عبر وضعيات التلفظ وسياقاتها. فلم يلبث أن وحد الشاعر بين الوضعيتين فأصبح ضمير المتكلم المفرد مثنى، يقول دائما مع استحقاق الأسبقية للأنثى المخاطبة، يقول:: ما رأيك أن نشم “سويا” وجه المدينة بخطونا المرقط بالضباب كأننا أتينا معا إلى ملكوت الحرف طائرين يمسحان المطر عن قصيدة استكانت للمضايق في ثقب الباب معا نحلم بحفنة ضوء تلهمني أقصى الوجود. بعد مراحل التيه التي أحست بها الذات الشاعرة في بداية خطوات هذا النفس الشعري، يتأكد أن الوحدة لن تفيد في شيء ولن تحقق الآمال العريضة، لذلك استحضر الشاعر بداية ضمير المخاطبة “الكاف” “ما رأيكِ”، ليدخلها عالم الرؤيا عن طريق دعوتها للاشتراك فعلا في الفعل الشعري، والحركة الرؤيوية، ولم يكفه أن وظف ضمير الجمع المتكلم “النون” في “نشم”، بل عززها بكلمة “سويا” تأكيدا على المشاركة في المصير والهدف بل التوحد فيهما، ولم يقف الضمير عند حدود المشاركة، بل أشار بإحالته القوية أن حضور الأنا لن يتحقق الآن إلا بحضور الآخر الذي أدخله عالم الحلم وأشعل فيه نغم الأثير مائة عام من العزلة، وها هو الآن يجعله رفيقا له في رحلة البحث عن ملهمات الحرف، فتحول في المقطع الأخير إلى ملكوت حرف امتزجت فيه الذات بالآخر فأضحيا طائرين لهما الوجهة ذاتها، فالقصيدة إذاُ بنيت على ثنائية الضمير، حيث كان الأنا والآخر منفصلين في أول النص وانتهت بالتوحد “معا نحلم ” “نشم سويا”، “كأننا أتينا معا إلى ملكوت الحرف”، فيجسد الشاعر بهذا التشبيه درجة التماهي بين الأنا والآخر معا، إنها لحظة البحث والعبور إلى الضوء، لحظة العبور إلى القصيدة، لحظة العبور إلى المعنى الكوني الكامن في أقصى الوجود. إشارة لابد منها: قام الشاعر بترتيب قصائده ترتيبا زمنيا محتكما إلى سنة إصدار القصيدة ومكانها، أما بخصوص الأمكنة فهي تتراوح بين مدينة الناظور ومدينة الحسيمة، وكلاهما تطلان على البحر الأبيض المتوسط بحر الحضارات العريقة من رومان وإغريق ويونان ما جعل بعض نصوصه تمتح من الأساطير كالحورية وليليث، إضافة إلى الحكايات الشعبية كالسندباد، أما زمنيا فقد ارتأى الشاعر أن يرتب نصوصه ترتيبا عكسيا تنازليا، أ هي رغبة منه لاسترجاع الزمن الماضي متخيلا، أم هي دعوة للعودة إلى الحسيمة حقيقة؟ علما أن آخر نص جاء خاليا من التوثيق الزماني والمكاني. الهوامش: -ديوان حوريات بقدم الكون للشاعر جمال ازراغيد، صادر عن مقاربات للنشر والصناعات الثقافية بفاس المغرب يونيو2018 2- -معجم علم المعاني الجامع مادة “قدم” 3- -الديوان، ص:45 4- المصدر نفسه، ص: 45 5 – نفسه، ص: 71 6 -ن، ص: 29 7 -ن، ص: 42 8 -ن، ص:34 9 -وظف الشاعر التناص حين استدعى “مائة عام من العزلة” للروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز التي نال بها جائزة نوبل للآداب عام 1982. 10 –راجع القصيدة كاملة