منذ كنا صغارا تعلمنا في الثقافة المسلمة احترام الغير أيا كانت انتماءات الشخص . تعلمنا أن نحرص على حسن اللفظ والتلفظ واختيار الملائم من العبارة والصائب من القول وتعلمنا العناية بنظافة الملبس وأناقته ونظافة المكانين الخاص والعام وآداب السلوك وأناقة التعامل مع الغير والحرص ما استطعنا على طهارة الروح التي لا تعني شيئا أكثر ولا أقل من حسن الخلق وسمو القيم وهو ما يُصاغ اليوم في عبارة المُوَاطَنَة الصالحة. واحترام الغير مبدأ مشترك بين كل ثقافات البشر أيا كانت ثقافتهم وتوجهات معتقداتهم . وفي هذا الاحترام تعلمنا نحن المسلمون ألا نميز بين أحد من الناس فقيرا كان أو غنيا ، مسكينا أو ثريا ، معدما أو صاحب شان واعتبار . تعلمنا أن نحترم حتى الدراويش بل وحتى الحمقى والمجانين ... والمغاربة هم من بين شعوب الأرض الذين لا يشمئزون من الأحمق والمجنون والدرويش، يدخلونه بيوتهم ويشركونه مائدتهم ويحترمونه كما لا تحترمه ثقافات أخرى عديدة في الأرض ، يكسونه ويطعمونه بل ويشاركونه أحاديثه ويمازحونه ويستقبلونه في أعراسهم وأفراحهم . كل هذا تعلمناه في ماضينا كقيم ثابتة رسختها القرون الغابرة وما تزال الأزمنة الجارية في بعض مناطق المغرب تتمثله وتحاول الحفاظ عليه كسلوك راسخ في التربة وفي جلد إنسان المغرب . تراث نعترف أنه أمسى جزء من معتقدنا الديني المسلم حتى وإن كانت جذوره لا تعود حصريا إلى العقيدة المسلمة وحدها ما دمنا نهلناه من ذلك التفاعل الحضاري العميق كثير التعدد والاختلاف بين كل الثقافات التي عرفها المغاربة الأقدمون رومانية وفينيقية وأمازيغية وعبرية وإفريقية وعربية. وهو بُعْد ثمين ما أحوجنا إلى حفظه وتربية أنفسنا عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. غير ان هناك أمرا هاما جدا لم نتعلمه بعد في حياتنا ولا نحن تعلمناه في ماضينا : إنه احترام رأي الآخر الذي لا نقتسم معه نفس الفلسفة في الحياة ونفس التصورات في الوجود ونفس الرؤى في السياسة والأخلاق. . ونحن في هذه المقالة لا نتحدث عن آخر مغاير لنا كل المغايرة ، وإنما نتحدث عن آخر ينتمي إلينا وننتمي إليه . وفي بيوتنا يوجد المتدين الحريص على ممارسة شعائره الدينية سواء كان مغربيا مسلما أو مغربيا يهوديا . وفي بيوتنا أيضا من لا يمارس هذه الشعائر ويبقى مغربيا يهوديا أو مغربيا مسلما . ذلك أن الذي يفاضل بين الناس هو حسن المسلك كما قلنا وليس التدين أو اللاتدين . والأشخاص الذين يخونون أخلاقهم ينتمون إلى الطرفين معا. في الأسبوع الماضي، يوم الثلاثاء 3 فيفريي 2015 وفي سياق المناقشة البرلمانية بين رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان، تلفظ هذا الأخير بعبارة سوقية (زنقوية) سفيهة ساقطة تماما ، لا علاقة لها بالأخلاق التي أشرنا إليها، عبارة ذات حمولة جنسية في الدارجة المغربية يستعملها بعض الرجال مع الأسف في مواقف سفيهة. الصيغة التي قيلت به هذه العبارة السفيهة والتي استُعملت بها من طرف رئيس الحكومة المذكور والشكل الذي ظهر به في آخر الجلسة تماما يفصح بكيفية سافرة عن الدلالة الجنسية التي قصدها صاحبها. وإذا كان حاول تلطيف الأمر في تصريح لجريدة مقربة من حكومة هذا المسؤول وذلك من أجل تحوير المعنى الذي قصده فإن الأثر الذي تركه في الناس، الأثر السلبي جدا، لا يمحي ولن يمحي. وفي البيوت وداخل الأسر، الأبناء الذين كانوا جالسين مع أهليهم وذويهم انسحبوا والأمهات خجلن وكل تظاهر بالاهتمام بشيء آخر. اللحظة من الناحية الخلقية كانت قاسية جدا لأنها كانت سفيهة جدا. الناس في المساجد ذلك المساء بعد الصلاة وفي الأحاديث الجانبية عبروا جميعا عن ذهولهم واشمئزازهم. وكثيرون وقد استمعنا بالصدفة إلى بعضهم شعروا بالمهانة، شعروا أن الرجل أهان الجميع، جميع المغاربة بدون استثناء، أهان النساء وأهان الرجال وأهان أعضاء حزبه الذين لا شك أنهم في أعماقهم أحسوا أن الرجل في هذا الأمر لا يمثلهم. أهان المؤسسة البرلمانية التي سيبقى مستغربا حقا كيف أن أعضاءها تركوا الأمر يمر كما لو أن شيئا لم يقع... لا أعرف كيف شعرت زوجته وأبناؤه وبناته وحفدته وهم يرون الزوج والأب والجد يسقط سقطة حرة من الأعلى إلى الحضيض. حين تلفظ رئيس الحكومة بتلك العبارة الساقطة من كثرة نرجسيته لم يفكر فيهم أبدا. وبالطبع لم يفكر في زوج المرأة البرلمانية السيدة المحترمة المصونة ميلودة حازب والتي أجابها بتلك العبارة التي يندى لها الجبين في كل الثقافات وليس في الثقافة المغربية فقط.. لم يفكر في زوجها ولا في أبنائها ولا في صديقاتها ولا في كل من يرتبط بها أي ارتباط كان. ومن المستغرب حقا أن البعض(نقول البعض وليس الجميع) ممن هم في صف السيد رئيس الحكومة الذي ترك عبارة تترجم رؤيته المتدنية للمرأة، تجاوبوا مع العبارة المشؤومة بالضحك. كان ذلك أمرا آخر جد مٌسْتَهْجَن. ذلك أن من يتجاوب مع هذا الصنف من السفاهة ينسى انه لا يمثل نفسه. ولسنا ندري فيما إذا لو كان المرحوم عبد الله باها حيا يُرْزق كيف كان سيكون موقفه. وقد كتبنا سابقا بمناسبة التعازي عن التراجيديا التي أصابته وأصابت عائلته وحزبه ووصفناه بصدق وأسى عميق بالرجل الطيب. كان ذلك سيخجله كثيرا بل سيدمره، وهو الرجل المتخلق. ولا أظن السيد سعد الدين العثماني، وهو الرجل الرزين المتخلق الحكيم والذي عبرنا مرة في مقالة لنا في جريدة (الصباح) أنه من سوء حظ المغرب أنه لم يتول هو أمر رئاسة الحكومة، لا أظنه إلا أنه حزين للأمر أشد ما يكون الحزن. فقد ضرب السيد المعني بالأمر حزب العثماني ضربة، من الناحية الأخلاقية، لم تكن لتدور بخلد أحد من أعضاء الحزب. ولا أظن نساء الحزب إلا أنهن شاعرات شعور غربة وهن يرين من وضعن فيه ثقتهن لا يحترمهن، ولا تاريخ حزبهن. نعرف أن الرجل له ما يكفي من صلابة الوجه بحيث أنه لن يجد حرجا في مقابلة جلالة الملك، أمير المؤمنين، وهو يحمل وراءه أثر هذا الإثم الأثيم. حقا إن الرجل لمحظوظ فعلا، كيف لا وهو الذي جاء ليحكم البلد بعد حركة العشرين من فبراير، وبعد الخطاب الملكي التاريخي والذي أضحى لأهميته الكبرى يسمى بخطاب 9 مارس، وبعد دستور نوفمبر 2011، وبعد الثورات العربية ،لكنه عوض أن يستحضر كل هذا يسقط في كل مرة سقطة مدوية. وسقطته هذه المرة آلمت الجميع. وهو محظوظ أيضا لأنه كان بالإمكان بعد عبثه هذا وعدم حرصه على انتقاء تعابيره كي تتوافق وسمو الوظيفة التي يقوم بها لحساب الدولة، أن يُقال له الزم بيتك ولا تبرحه، لأنك لم تحترم وظيفتك ولم تحترم الدولة التي أنت في خدمتها ولا أنت احترمت نواب الأمة نساءهم ورجالهم. وقبل ذلك وبعده لا نعرف وهو الذي يتبجح بأداء الصلاة، كيف استطاع ذلك المساء أن يقف أمام ربه. لقد كان بالإمكان أن نقترح على الفقهاء وعلماء الدين بل والعلماء من كل صنف والسياسيين من جميع الأحزاب بما فيهم حزب العدالة والتنمية نفسه، والجمعيات النسائية والحقوقية وجمعيات المثقفين بملتمس إلى صاحب الجلالة الملك محمد السادس كي يعفينا من رجل صدر عنه هذا السلوك اللامقبول من رئيس حكومة. فالمسؤولون الحزبيون من حزبه الذين يتوفرون على إمكانيات قيادة الحكومة ليسوا قلة. غير أن الظرف ليس ملائما، فضربة شارلي-أيبدو الإرهابية ضد الشعب الفرنسي الصديق ألحقت الضرر الكبير حتى بالاقتصاد المغربي وخاصة في جانبه السياحي والبورصوي، والانتخابات الجماعية لا تفصلنا عنها سوى بضعة شهور، وغير ذلك كثير، لا يسمح بتقديم مثل هذا الملتمس. غير أنها مناسبة ملائمة لاقتراح تعديل الدستور الذي أبانت التجربة الحالية أنه ليس مطلوبا دائما أن يعين رئيس الحزب الذي تَصَدًر الانتخابات البرلمانية في منصب رئيس الحكومة . ولقد رأينا في نفس الناسبة أن الرجل يفتخر بكونه رئيسا للحكومة للأنه رئيس لحزب الشيء الذي لا يمكن أن ترقى إليه امرأة في نظره. ومن أدراه ما تُخَبِؤُهُ الأيام. هل كان في الحسبان في الماضي القريب أن يكون هو نفسه مجرد مسؤول صغير في قطاع من قطاعات الدولة ، وها قد رأينا ظروفا استثنائية جدا حملته إلى أعلى سدة في الحكومة. لقد حَيًرَنا دائما هذا العنف اللفظي الذي يصدر عن رجال يظهرون في المجتمع على أنهم متدينون. كيف يمكن أن يجتمع العنف اللفظي والتظاهر بالتقوى والورع. إنه لأمر عجب. لقد مارس السيد رئيس الحكومة نوعا من العنف اللفظي الذي لا يتماشى مع تظاهره بالتدين، ولا بموقعه في رئاسة الحكومة ولا مع طبيعة المكان الذي تلفظ فيه بصيغة ذلك العنف. وهو أمر يجب أن يُحاسب عليه أخلاقيا وقانونيا.