من المحقق أن التناسخ يمثل إحدى المكونات الأساسية للحكاية الشعبية، على اعتبار أن الظروف التي يتحتم على الراوي إلقاء حكايته فيها ومختلف العوامل التي ترافق عادة التواصل الشفوي كيفما كانت طبيعته والتي تتمحور أساسا حول ما يسمى في اللسانيات بالمجهود الأدنى، من شأنها أن تطبع المنتوج السردي بالميل صوب الاقتباس والاقتصاد وبالاغتناء عن طريق التكرار وبالدخول في جدلية مستمرة بين الثبات والتحول. ويصبح من الطبيعي أن تتغير الشخصيات وأن تتكاثر عن طريق التقليد والتناسخ وأن تتقلص في خاتمة التحليل إلى حد يمكن لنا معه اختزالها في نماذج نمطية محدودة. ويكفي للتحقق من ذلك الاهتمام عن قرب بشخصية حديدان وبتعدد الحكايات وأسماء الأبطال (فبالإضافة إلى حديدان نجد مقديش، حمو بوخروفة، شويطر إلى غير ذلك) وبنقط التقارب والتباين الموجودة بين مختلف الروايات المتعلقة بهذه الشخصية. الخيط الرابط لكل هذه الحكايات يبقى، كما هو الشأن في الحكاية الشعبية بصفة عامة، مفارقة محورية وغنية بالإمكانيات السردية. والأمر يتعلق هنا بالجمع في شخصية البطل الأساسي بين صغر سنه وضآلة جسده من جهة، وبين ما يتميز به من ثقة في النفس وذكاء خارق وقدرة ناذرة على اختراع الحيل لإجهاض المؤامرات التي تحبك ضده من جهة أخرى. وبالموازاة مع هذه المفارقة تظهر مفارقة أخرى لا يجب إهمالها رغم حضورها الباهت وذلك لأنها تساهم في ترسيخ وإبراز المفارقة المؤسسة للحكاية. فالشخصية التي تضطلع بدور المعتدي في حكايات حديدان وهي الغولة تستمد هي الأخرى ديناميتها من مفارقة، فهي شريرة وقاسية القلب وفي ذات الوقت ساذجة وتصدق بكل سهولة كل ما يقوله لها الطفل الذي تسعى جاهدة للظفر به. على مستوى التبنين السردي للحكاية تتخذ هاتان المفارقتان شكل صراع مثير بين الطفل والغولة ينتهي في خاتمة المطاف بموت هذه الأخيرة، بمفردها أو رفقة قريبات لها، حرقا بالنار على يد خصمها الصغير. مما يترتب عنه ظهور مفارقة أخرى وهي التي تتمثل في قدرة الطرف الضعيف ذي البنية الهشة على القضاء نهائيا على الطرف الذي يرمز في الحكاية الشعبية إلى القوة والشراسة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الروايات المختلفة والتي يمكن تسجيلها في هذا السياق لا تعمل كلها على ترسيخ هذه المفارقات والتأكيد عليها بنفس الحدة. فبعضها يكتفي بالإشارة إلى أن البطل هو أصغر إخوانه في حين أن البعض الآخر يضيف بأنه يتميز كذلك بضآلة جسده بشكل غير طبيعي. فعلى غرار ما هو موجود في رواية سجلت في مطلع القرن المنصرم بمنطقة الريف شمال المغرب فالأمر يتعلق برجل له سبع زوجات وسبع أفراس تعاني جميعها من العقم. قصد الرجل شخصا لم تحدد الحكاية هويته أعطاه سبع تفاحات وسبع عصي ونصحه بمنح تفاحة إلى كل واحدة من زوجاته مؤكدا له بأن أكل التفاح سيمكن نساءه من الشفاء تماما من عقمهن، كذلك الأمر بالنسبة للأفراس إذا ضرب كل واحدة منها بعصا وبقوة إلى حد تكسيرها. إلا أنه عند مروره بقرب قرية لاحقه كلب فاضطر إلى ضربه بإحدى العصي التي كانت معه إلا أن العصا انكسرت ولم يبق في حوزته إلا نصفها، كذلك أحس الرجل في طريق رجوعه بظمأ شديد أضطر معه إلى قضم إحدى التفاحات وأكل نصفها. وبالتالي فالزوجة التي أكلت نصف التفاحة المتبقي ولدت طفلا ضامرا واختارت له اسم حديدان وكذلك فالفرس التي ضربت بنصف العصا ولدت صغيرا ناقص الخلقة. كما أن بعض الروايات لا يقتصر على التأكيد على ذكاء الطفل وقدرته على اختراع الحيل ويذهب إلى حد تطعيم شخصيته بخاصية تجعلها تتمتع بقوة غير عادية وهي القدرة على البقاء يقظا كل الوقت. وهذه الميزة تنمي طبعا من استطاعته على البقاء باستمرار على أهبة للدفاع عن نفسه وعن إخوته الكبار. واختلاف الروايات يطال كذلك الظروف التي يلتقي فيها الطفل بالغولة. فحسب إحدى الروايات فالطفل يلتقي صدفة بالغولة وذلك لأنه يذهب إلى الصيد بجوار منزلها دون أن يتعمد ذلك. وطبق الرواية الأكثر ذيوعا فحديدان يذهب هو وإخوته الكبار في رحلة إلى مكة برفقة أبيهم الذي قرر الذهاب لقضاء الحج. إلا أن طول المسافة ومشقة السفر أنهكا الأولاد وأرغماهم على التوقف الواحد تلو الآخر وعلى الطلب من أبيهم أن يبني لهم دارا يقيمون فيها بانتظار رجوعه. إلا أن المواد الهشة، على الأقل بالنظر إلى القوة الهائلة التي تتمتع بها الغولة، لم تكن صلبة إلى حد يمنع هذه الأخيرة، والتي كانت تفتفي آثار الأب وأولاده، من اقتحامها والتهام ساكنيها. أما حديدان فهو يطلب من أبيه أن يبني له دارا من حديد، الشيء الذي يمكنه من الصمود أمام هجمات الغولة ومن الخروج من حين لآخر لإنهاك حمارتها والسخرية من بنتها، هذا طبعا قبل التمكن من قتل هذه الأخيرة ومن القضاء على أمها بإحراقها بالنار. وفي رواية أخرى فحديدان لا يقتل بنت الغولة بل يتزوجها بعد أن حلفت له بالإيمان الغليظة بأنها ستتخلى نهائيا عن طبيعة الغيلان لتصبح امرأة آدمية عادية. ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الرواية هي الأقدم على اعتبار أنها تقدم تفسيرا مقنعا لظهور اسم حديدان وذلك بربطه بكلمة حديد، أي المادة التي اختارها البطل لبناء داره. إلا أنه من الصعب بمكان تبني أطروحة كهذه لعدة اعتبارات. فهناك من جهة التنوع والاختلاف اللذان يطبعان حكايات حديدان ويتطلبان محصا عميقا لرصد نشوء هذه الشخصية ومختلف المراحل التي مرت بها وطبيعة الحكايات والشخصيات التي ساهمت في إغنائها. وهناك من جهة أخرى قدم وعراقة شخصية حديدان. فمن المؤكد أنها تنتمي إلى الإرث الثقافي المشترك بين الشعوب الأمازيغية، فهي توجد مثلا في الجزائر حيث تحمل اسم حديدوان أو أحديدوان، كما هو الشأن في منطقة القبائل، ومن المحتمل أنها تضرب بجذورها في أعماق مرحلة تاريخية سحيقة. فانعدام مثيل لها في الحكاية العربية المشرقية والتشابه اللافت الذي نجده بينها وبين شخصية عقلة الإصبع الغربية دفعا ببعض الباحثين إلى التأكيد بأن الإرهاصات الأولية المبشرة بظهور شخصية حديدان يمكن إرجاعها إلى المرحلة الرومانية من تاريخ شمال إفريقيا. ولهذه الاعتبارات يصبح من الاعتباطي الاعتماد على عنصر ذي طبيعة لغوية، خاصة وأن الأمر يتعلق بعنصر جزئي كالاسم، لتأريخ ظهور شخصية أو تيمة ما. فليس من الناذر أن يضيف الرواة والنساخ على الحكايات تفاصيل كالأسماء لجعل المادة السردية التي توصلوا بها أكثر تماسكا أو أقرب إلى أذواق المتلقين الذين يتوجهون إليهم. الشيء الذي يحتم على الباحث الرجوع إلى المكونات البنيوية للحكاية كالوحدات الوظيفية والموتيفات ومدى ارتباطها بالهيكل العام. وعلى الأرجح فاسم حديدان ومقديش ما هما إلا نتيجتين لتحريف اسمي حدو وقدو، وكذلك فالبطل الذي تفرع فيما بعد إلى عدة شخصيات كان في الأصل يحمل اسما مركبا وهو حدوقدو. وإذا أردنا حصر الحكاية التي دفعت بالرواة إلى التفكير في ابتكار شخصية مستقلة تحمل المكونات التمهيدية لظهور حديدان فسيتوجب علينا الاهتمام بشخصية أخرى لا تقل أهمية عن شخصية حديدان وهي هينة أو لونجة أو مامزا حسب الروايات. فطبق إحدى الحكايات الأمازيغية (الجزائر) المتعلقة بهذه الشخصية فالغول يخطف البنت ويحملها إلى داره. والإخوة السبعة الذين يأتون تباعا لقتل الغول واسترجاع أختهم يفشلون في مهمتهم ويموتون كلهم قتلا. مما اضطر أمهم إلى التوجه ضارعة إلى الله لكي يرزقها طفلا آخر مهما كان الثمن الذي سيتوجب عليها دفعه للحصول عليه كأن يكون الطفل "بحجم حرباء". وهكذا تلد الأم طفلا ضئيلا لن يتمكن أبدا من أن يتجاوز من حيث الحجم "رأس حمار" ورغم ذلك سيتمكن من قتل الغول وبقر بطنه لاسترجاع عظام إخوته لتمكينهم أخيرا من الاستقرار في قبور. يمكننا إذن الاستنتاج بأن شخصية حديدان كانت في الأصل جزءا من حكاية هينة وبأن التيمة التي كانت تتمحور حولها، أي الصراع بين طفل ضئيل الحجم وغول شرير، تمكنت من الاستقلال فيما بعد لتصبح حكاية مكتفية بذاتها ولتتنوع وتتحول باحتكاكها بحكايات أخرى كحكاية عقلة الإصبع. ومن اللافت أن أهمية شخصية حديدان لا تكمن فقط في غنى المكونات التي ساهمت على مر العصور والحقب في تشكلها وإعطائها ملامحها المميزة بل وكذلك في الدور الذي لعبته في نشوء تقاليد سردية خاصة ببعض المجتمعات الإفريقية. فالباحثة الأنثروبولوجية الفرنسية دونس بوم تذهب إلى أن عددا من الشخصيات الموجودة في الحكايات السودانية والمالية بل وحتى الكوت ديفوارية لا يمكن فهمها إلا على ضوء شخصية حديدان. ما لم تقل الحكاية الشعبية القارئ للحكايات الشعبية مهما اختلفت وتنوعت الثقافات والشعوب التي أنتجتها قد يلاحظ بأن بعضا منها يتضمن مواطن بياض عليه العمل على ملئها بالرجوع إلى الروايات المختلفة لنفس الحكاية أو بتوسل الاعتقادات والعادات السائدة في المجتمع الذي تشكلت فيه الحكاية. عاملان أساسيان يساهمان في بتر الحكاية الشعبية من عناصرها الأصلية إلى حد يجعلها في بعض الأحيان تعاني من النشاز وتصبح بالتالي صعبة التحليل. فهناك من جهة عامل النسيان والذي يطال كل المأثورات الشفوية على اعتبار أنها تعتمد أساسا على الذاكرة وتصبح انطلاقا من هذا عرضة للنسيان والتشويه، وهناك من جهة أخرى طبيعة التواصل الشفوي والتي تدفع بالمتكلم إلى الاقتصاد في خطابه وتقليصه إلى أقل ما يمكن من المكونات وذلك لأن ضيق الفضاءات التي يعيش فيها وبساطة العلاقات التي يدخل فيها وتأكده من أن أطر الإحالة التي يعتمد عليها مشتركة بينه وبين المتلقي، يجعل من الطبيعي أن يميل إلى اللجوء إلى مبدأ المجهود الأدنى وإلى الامتناع عن الدخول في تفاصيل يعرف جيدا بأن المتلقي على دراية كاملة بها. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى الأهمية القصوى التي أولاها الباحثون الأنجلوسكسونيون إلى هذا .Contextualizationالعامل وإلى وفرة الدراسات التي خصصوها له تحت مفهوم عندما نقرأ حكاية "علاء الدين أبو الشامات"، إحدى حكايات ألف ليلة وليلة (طبعة بولاق)، نجد بأن المقطع المتعلق بأحمد قماقم السراق يتضمن بياضا على القارئ العمل على ملئه. فأحمد قماقم هذا كان "ينقب وسطانيا ويلقف فوقانيا ويسرق الكحل من العين" وآل به الأمر أن حكم عليه الخليفة هارون الرشيد بالسجن مدى الحياة ولذلك فلقد كتبت على قيده عبارة "مخلد إلى الممات لا يفك إلا على دكة المغسل". ومن الواضح أن عبارة "لا يفك إلا على دكة المغسل" ما هي إلا صورة بلاغية للتأكيد على أن السجين سيبقى رهين السجن إلى الأبد. إلا أن مسار الأحداث يتخذ منحى آخر ويقرر هارون الرشيد العفو على أحمد قماقم وإطلاق سراحه ولكن قبل ذلك يوضع هذا الأخير فوق دكة المغسل ويتكلف حداد بكسر قيوده. السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو لماذا اضطر أعوان الخليفة إلى تطبيق العبارة المكتوبة على قيد السجين حرفيا قبل أن يطلقوا سراحه؟ بناءا على هذا يجب الافتراض بان الخليفة لم يكتف، كما ورد في الحكاية، بأن يأمر بالزج بأحمد قماقم في السجن والإبقاء عليه فيه إلى آخر أيام حياته، بل إنه في رواية أخرى سابقة لنفس الحكاية، أقسم في لحظة غضب، كما يحدث كثيرا في ألف ليلة وليلة، بأنه "لن يفك إلا على دكة المغسل". وعندما قرر إطلاق سراح السجين اضطر أعوان الخليفة إلى اللجوء إلى حيلة تمكن الخليفة من الرجوع في قسمه دون أن يتهم بالحنث وذلك بتطبيق يمينه حرفيا. ومن المؤكد أن البياض الملاحظ هنا هو نتيجة مباشرة للنسيان وللصعوبة التي يجدها الرواة بل وحتى النساخ في الاحتفاظ على النص الكامل للحكاية التي يتوارثونها جيلا بعد جيل. وإذا كان هذا شأن الحكايات التي تم تدوينها فما بالك بتلك التي ظلت محصورة في التواتر الشفوي. في الحكاية المغربية "تفاح للافاطمة بنت منصور" والتي استمدت قسما كبيرا من مادتها من حكاية "الغالية بنت منصور الساكنة سبع بحور" يسعى البطل للتنكر وإخفاء هويته الحقيقية فيضع طاقية فوق رأسه ثم يقصد بعد ذلك حدادا للعمل عنده. هذا المقطع رغم قصره يضعنا أمام ثلاث أسئلة تتعلق كلها بمواطن بياض تركها الراوي شاغرة وعلينا العمل على سدها. 1) ما الذي دفع بالبطل إلى الرغبة في التنكر رغم أنه هو الذي قتل الغول وخلص الأميرة من الموت المحقق؟ ألم يكن حريا به أن يفصح عن هويته حتى يتسنى للسلطان مجازاته كما هو الشأن عادة في الحكاية الشعبية؟ 2) إلى أي حد يتمكن البطل من إخفاء هويته بمجرد تغطية رأسه بطاقية؟ 3) ولماذا اختار العمل عند حداد دون غيره من الحرفيين؟ سنبدأ بالجواب على السؤال الأخير. بما أن البطل يحرص على إخفاء هويته فالعمل عند حداد يتيح له الاستفادة، إن جاز التعبير، من الدخان والفحم لطمس ملامحه الحقيقية. واستعماله لطاقية قصد التنكر لا يمكن فهمه إلا إذا افترضنا بأن هذه الأخيرة ما هي في حقيقة الأمر إلا امتدادا وتحولا للموتيف الأصلي والذي يستعمل عادة في الحكاية الشعبية للتنكر وهو كرشة خروف والتي تمكن البطل أو البطلة من اتخاذ شكل أقرع، على غرار ما نجده في حكايات متعددة كالحكايتين المغربيتين "الأمير محمد بن الملك الأبيض" و"السلطان والأقرع" أو الحكاية الجزائرية "كيف أصبح هارون الرشيد سفناجا". وهكذا يصبح من الواضح بأن الراوي المغربي لحكاية "تفاح للا فاطمة بنت منصور" "نسي" تماما الدور الأساسي الذي يلعبه موتيف كرشة الحيوان في التنكر فعوضه بعنصر مشابه له وهو الطاقية وذلك لأن هذه الأخيرة ترتبط بالنسبة للعقلية الشعبية بالقرع، كما أنه لم يعد يتذكر الرابط الموجود بين الرغبة في التنكر والعمل عند حداد. أما فيما يخص السؤال الأول والمرتبط بالدافع الأصلي لرغبة البطل في التنكر فمن الصعوبة بمكان التفكير بأن الأمر يتعلق ببياض ناتج عن النسيان، فالتطرق إلى هذه الإشكالية يحتم علينا الخروج نهائيا من عالم الحكاية كنمط سردي مكتفي بذاته والدخول إلى عالم الطقوس التي انمحت باندثار علاقات الإنتاج والاعتقادات التي كانت تتطلب وجودها وتحولت فيما بعد لتصبح حكايات، والأمر يتعلق هنا بطقوس الشروع والتي كانت تفرض على الطفل الراغب في ولوج عالم الكبار أن يجتاز عدة اختبارات وأن يظهر بعدها لأفراد القبيلة بأنه تغير نهائيا وذلك بطمس ملامحه واكتساب هيئة أقرع بتغطية رأسه بمثانة حيوان أو بأعضاء مشابهة. وجود تيمة الأقرع الزائف في الحكاية الشعبية بشكل لافت يدفع للتفكير بأنها لم تتمكن بعد من قطع الحبل السري الذي يربطها بالطقوس التي انبثقت منها. لنتطرق الآن إلى العامل الثاني المفسر لطمس عناصر سردية من الحكاية والذي يتعلق كما أسلفنا بالسياق الثقافي الذي يتم فيه التواصل الشفوي. سنختار مرة أخرى مثالا من ألف ليلة وليلة والأمر يتعلق هذه المرة بحكاية الوزراء السبعة. فشكوك الزوج حول احتمال كون زوجته قد خانته مع رجل آخر تتحول بالنسبة إليه إلى يقين عندما يعلم بأنها ذهبت إلى الحمام. وامتناع الراوي عن الإفصاح عن العلاقة التي تربط الخيانة بالذهاب إلى الحمام تفسيره أنه يعرف مسبقا بأن المتلقي الذي يوجد أمامه متشبع بالمعتقدات الدينية الخاصة بالجنس كنجاسة يجب التخلص منها بالاغتسال. الحكاية المغربية السالفة الذكر أي "تفاح للافاطمة بنت منصور" تتضمن هي الأخرى مثالا يصب في نفس السياق. يقرر البطل الالتحاق بموطن للافاطمة بنت منصور للاستحواذ على التفاحات التي توجد في حوزتها ويجد نفسه مضطرا لعبور سبعة بحور على ظهر سمكة ضخمة. وهذه الأخيرة تطلب من البطل مقابل الخدمة التي تسديها له أن يطعمها سبع قطع لحم خالية تماما من الملح. وتجدر الإشارة إلى أن الراوي المغربي يمتنع عن تقديم أي تفسير لهذا الطلب لأنه يعرف جيدا بأن المتلقي على دراية تامة بالمعتقدات المرتبطة بالجن وبامتناعهم عن أكل الملح وبأنه بالتالي ليس في حاجة إلى توضيح لكي يفهم بأن السمكة ليست في حقيقة الأمر إلا جنية من الصنف الطيب الذي يكون دائما على استعداد لتقديم المساعدة. هارون الرشيد في الحكاية الأمازيغية الحكايات ذات الأصول العربية المشرقية والتي حلت بشمال إفريقيا وامتزجت بذخيرتها السردية لعبت دورا حاسما في إغناء الحكاية الأمازيغية وفتحها على آفاق وأجواء جديدة، خاصة وأن الحكايات العربية تشكلت في فضاءات ثقافية زاخرة بتفاعلات متنوعة بين عدة حضارات. وبالتالي فعن طريق الحكاية العربية استطاع الرواة الأمازيغيون الإطلاع والاستفادة من تجارب سردية أخرى فارسية وهندية على الخصوص. وتجدر الإشارة في هذا السياق، من جهة، إلى ألف ليلة وليلة والتأثير الواضح الذي تركته في الحكاية المغربية والذي يمكن ملاحظته حتى يومنا هذا، ومن جهة أخرى، إلى أن الحكايات المتشكلة في شمال إفريقيا ساهمت بدورها في تمرير التأثيرات العربية إلى مناطق أخرى من القارة. ولكي تفقد هذه التأثيرات غرابتها ويسهل قبولها من طرف المتلقين المحليين توجب على الرواة الأمازغيين التعامل مع الشخصيات والتيمات والموتيفات المستوردة بشكل يمكنها من التأقلم مع مناخها الجديد وذلك بإخضاعها للأنماط السردية الخاصة بالحكاية المحلية. فعندما نفحص شخصية هارون الرشيد كما تظهر في الحكاية الأمازيغية سنجد بأنها تشكلت من تفاعل هذه الأخيرة مع الحكاية العربية المشرقية المطعمة بتأثيرات فارسية وهندية. وذلك على غرار ما نجد في حكاية سجلت في منطقة القبائل بالجزائر في أواخر القرن التاسع عشر تحت عنوان "كيف أصبح هارون الرشيد سفناجا". فهارون الرشيد يضطر إلى التخلي مؤقتا عن عرشه وذلك لأنه رأى في منامه شخصا يخبره بأنه عليه أن يجتاز لا محالة سبع سنين متوالية من المحن والاختبارات الصعبة. فيطلب من وزيره جعفر البرمكي أن ينوب عنه في إدارة البلاد ويهيم على وجهه في الأرض. وتشاء الظروف أن يلتقي الخليفة براع فيقترح عليه أن يعطيه الملابس الرثة والمهترئة التي يرتديها مقابل البدلة الفاخرة التي يرتديها منذ تخليه عن الملك، ويطلب منه كذلك أن يعطيه جديا فيقوم بذبحه وسلخه ويأخذ كرشته لكي يغطي بها رأسه وذلك، حسب التفسير الذي يقدمه الراوي، لأنه منذ ولادته ينمو له شعر مكلل بالدر والياقوت. وعندما يحط هارون الرشيد الرحال في مكة يذهب عند سفناج للعمل عنده. ورغم الوضعية المتدنية التي يوجد فيها يتمكن من الزواج ببنت السلطان التي تختاره برميه بتفاحة وذلك لأنها سبق لها أن شاهدته من شرفتها وهو يغتسل فاكتشفت بأن السفناج الفقير والأقرع هو في الحقيقة شاب على قدر كبير من الجمال. وعندما يتظاهر السلطان بالمرض ويطلب من أصهاره اجتياز المحن والمشاق لجلب الدواء له فهارون الرشيد هو الذي يقوم بهذه الأعمال بدلهم مقابل أعضاء من أجسادهم. إلا أنه في الأخير يسترجع ملكه ويطلع السلطان على الحقيقة ويفضح الأصهار بإظهار أعضائهم المبتورة ثم يغادر مكة إلى بغداد. يمكن اعتبار المقطع التمهيدي للحكاية على أنه الشريحة الأكثر قدما على اعتبار أنه يجسد النواة الهندية التي تهيكلت على أساسها الأحداث المروية. فالضبابية التي تحيط بالظروف التي يتوجب على الخليفة التخلي فيها على عرشه لا تترك مجالا للشك في أن الراوي الأمازيغي للحكاية، مثل ما هو الشأن بدون شك بالنسبة للراوي العربي المشرقي قبله، لم يتمكن من استيعاب المرجعية العقائدية الأصلية والتي أمدت الحكاية بمادتها الأولى. وذلك لأن هذه المرجعية تضرب بجذورها في أرضية ثقافية بعيدة وهي المعتقدات الهندية المرتبطة بكوكب النحس الذي بإمكانه أن يختار دون سابق إنذار وفي أي وقت أي شخص مهما علت أو تدنت مكانته لملاحقته وتحويل حياته إلى سلسلة من المحن والاختبارات مدة من الزمن قد تطول أو تقصر. ومن المؤكد أن الفرس الذين كانوا دائما بمثابة همزة وصل بين الثقافتين الهندية والعربية، هم الذين أدخلوا هذه التيمة إلى الحكاية العربية. ولا أدل على ذلك من وجود حكاية فارسية وردت في مصادر عربية مفادها أن الملك الساساني سابور عاش تجربة مماثلة لتلك التي واجهها الخليفة العباسي. وتجدر الإشارة إلى أن الرواسب المتبقية من الماضي الهندي للحكاية لا تنحصر فقط في المقطع المتعلق بمحنة الخليفة. فالطريقة التي تختار بها الأميرات أزواجا لهن وذلك برميهم بالتفاح تنتمي إلى طقوس الزواج التي كانت معروفة في المجتمع الهندي بسفايمفارا، ومن المؤكد أن هذا الموتيف قد مر إلى الحكاية الأمازيغية بقنوات عربية اقترضته هي الأخرى من الهند بواسطة الحكاية الفارسية. وتجب الإشارة في هذا السياق إلى وجود هذه العادة في الحكاية الفارسية كما تدل على ذلك حكاية ?شتاسب مع كتايون ابنة القيصر. وأهمية هذه الحكاية تكمن كذلك في تضمنها لعناصر سردية أخرى توجد في حكاية هارون الرشيد أهمها الظروف الوضيعة التي اختار البطل الفارسي العيش فيها رغم انحداره من أصول ملكية. إلا أن مجموعة من الموتيفات الأخرى كارتداء الخليفة لملابس الراعي الرثة وتغطية رأسه بكرشة حيوان والعمل عند سفناج وزواجه ببنت السلطان وتمارض هذا الأخير لإرغام أصهاره على اجتياز اختبارات يقوم بها هارون الرشيد بدلهم مقابل أعضاء من أجسادهم وظهور الحقيقة في النهاية، كل هذه العناصر من شأنها أن تطعم شخصية هارون الرشيد بعناصر مغاربية أمازيغية واضحة. فعدة حكايات مغربية ك "الأمير محمد بن الملك الأبيض" و"السلطان والأقرع" وخاصة "تفاح للافاطمة بنت منصور" تتضمن شخصيات تذكرنا إلى حد كبير بشخصية الخليفة العباسي. ويجب التأكيد هنا على أن الراوي الأمازيغي يلجأ إلى تفسير ذي طابع غرائبي، أي تمييز هارون الرشيد بخاصية امتلاك لشعر مكلل بالدر والياقوت، لتبرير تغطية رأسه بكرشة الجدي وذلك لأنه "نسي" الدافع الأصلي لذلك أي الرغبة في التنكر وإخفاء الهوية الحقيقية باتخاذ هيئة أقرع، وشخصية الأقرع الزائف تعتبر من المكونات الأساسية للحكاية الأمازيغية. وبناءا على هذا يصبح من الواضح أن بعض الأبعاد الغرائبية التي قد تكتسبها الحكاية ما هي في خاتمة التحليل إلا محاولات مرتجلة يقوم بها الرواة لسد الثغرات التي تبقى شاغرة في جسد الحكاية بعد فقدانها لإحدى عناصرها السردية. أبواب دخيلة على الحكاية الشعبية المغربية من الصعب في بعض الأحيان تحديد العناصر المكونة للحكاية الشعبية المتداولة في مجتمع ما والتي تم اقتراضها من ثقافة أخرى، فمجرد التقارب أو حتى التشابه إلى حد التطابق لا يكفيان لافتراض وجود تأثير من هذا الطرف أو ذاك. والأمثلة على ذلك تفوق الحصر. ورغم ذلك فالفحص العميق للمتون السردية والموتيفات التي تتفاعل لتشكيلها يمكن الباحث من حصر الثقافة المانحة لتيمة ما والتحولات التي شاهدتها هذه الأخيرة بعد اقتباسها من ثقافة أخرى. تيمة الباب المغلق والذي يمنع البطل من فتحه كما وردت في الحكاية الشعبية المغربية تتهيكل انطلاقا،على الأقل، من حكايتين تتطلبان مقاربتين مختلفتين، إلا أنهما يدفعان الباحث إلى الميل اتجاه نفس الفرضية وهي أنه لا يمكن اعتبار هذه التيمة من بين الشرايين المغذية للذخيرة السردية الأمازيغية قبل اكتشافها للثقافة العربية. أي أنه إذا قررنا العمل على تفكيك الحكاية الشعبية المغربية سوف لن نعتمد على نفس المقاربة عند تحليلنا لشخصيات كحديدان أو هينة أو الأقرع الزائف وتيمة الباب المحظور. وأبسط دليل على ذلك وجود حكاية مغربية سبق لمحمد الفاسي وإميل ديرمينغيم أن نشراها سنة 1928 وهي تتشكل كالتالي: رجل فقير يضطر للعمل في دار يقطنها شيوخ لا يكفون عن البكاء والنحيب. وبعد موت ساكني الدار يبقى الرجل بمفرده ولا يستطيع مقاومة الرغبة في فتح الباب الذي كان ممنوعا عليه الاقتراب منه. وعلى غرار ما نجده عادة في الحكاية الشعبية العالمية فالبطل يعاقب إثر خرقه للمحظور، إلا أنه في هذه الحكاية يختلف الأمر شيئا ما لأن العقاب ليس آنيا. بل على العكس يحل البطل في مملكة تحكمها النساء ويتزوج الملكة ويعيش معها حياة كلها متعة إلا أنه يقدم مرة أخرى على فتح الباب الذي منعته الملكة من الاقتراب منه فيخطفه نسر لإخراجه من القصر وإرجاعه إلى مكانه الأول. وهكذا يكتشف البطل أخيرا سر حزن الشيوخ ويعتزل في غرفة ليبدأ هو الأخير بالبكاء والنحيب. مجرد قراءة عابرة لإحدى حكايات ألف ليلية وليلة وهي حكاية الوزراء السبعة تمكننا من اكتشاف أن هذه الحكاية ليست في حقيقة الأمر إلا نسخة، مع تغييرات طفيفة، لمثيلتها المشرقية. توجد حكاية مغربية أخرى يمكن اعتبارها بعد الفحص الدقيق على أنها إحدى القنوات التي مكنت التيمة نفسها من الوصول إلى الرواة المغاربة وهي "آه على ما فات!"* . فعلى الرغم من التحولات التي عرفتها الحكاية جراء محاولات الرواة والنساخ المغاربة إعطاءها طابعا محليا فنقط التشابه بين بطلها، عبد الله، وبين عجيب، بطل إحدى الحكايات الأساسية لألف ليلة وليلة وهي "الصعلوك الثالث"، لا تترك مجالا للشك في أن "آه على ما فات!" مقتبسة من مصادر مشرقية. وأهمية هذه الحكاية تكمن كذلك في احتوائها على موتيفات تمكننا من الذهاب إلى أبعد من ذلك وحصر الأجواء الهندية والفارسية التي نشأت فيها تيمة الباب الممنوع. فعبد الله رغم ملامحه المغربية يذكرنا إلى حد بعيد بشخصية البرهمي ساكتديفا كما نجدها في إحدى حكايات المجموعة الهندية سوماديفا، وبحكاية الأمير الفارسي مع الأربعين جارية في "كتاب الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة". ففي كل هذه الحكايات تشاء الظروف أن يعيش البطل حياة كلها متعة مع مجموعة من الجواري أو مع امرأة واحدة، إلا أنه يخرق المحظور بفتحه الباب أو بصعوده السطح فيجد فرسا يرغمه أو يمكنه، حسب الحكايات، من الخروج من القصر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حكاية "آه على ما فات!" تبقى أقرب إلى المصادر الهندية من باقي الحكايات الأخرى، وبالتالي فهي تمكننا من حصر سلالة تيمة الباب المحظور منذ لحظات تشكلها الأولى إلى الصيغة النهائية التي منحوها إياها الرواة والنساخ المغاربة مرورا بالمرحلتين الفارسية والعربية المشرقية. ومرد ذلك إلى الصعوبة التي صادفها الرواة المغاربة في التعامل مع تيمة غريبة عن الأجواء المألوفة لديهم وفي تطعيم "آه على ما فات!" بعناصر خاصة بالحكاية المحلية واكتفوا بالعمل على تدجينها بإضافة أعلام وحرف ذي نكهة مغربية ولمسات ذي صبغة دينية لم تكن من العمق بحيث تأثر بطريقة جذرية في البنية السردية للحكاية. «آه على ما فات!: حكايات من التراث المغربي"، تحقيق وتقديم رشيد بازي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2013.