في محكياته التي تحمل عنوان «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله»، الصادرة عن «دار النايا للدراسات والنشر»، دمشق، (2014)، بدا شعيب حليفي مشغولا بالإمكانيات التخيلية التي تمنحها السجلات البدائية، في جوهر اللعبة الروائية، وكيف يمكن أن تشكل مدونات كتبت على مراحل متقطعة، وضمن سياقات شتى، وبراهين تعبيرية متباينة، متنا حكائيا متساندا، تتضامن في حيزه أنوية حكايات ذات استقلال ظاهر، لتنسج مسارا موحدا لسرد مفتوح. لا ريب أن انشغال حليفي طريف في العمق، يعيد التفكير مرة أخرى في الطاقة التوليدية للشكل الروائي، وقدرته على احتواء بذور لامتدادات تحتمل تخطيطات ومسارات متعددة. وهو الرهان ذاته الذي تجلى في تعبيرات كتابية مختلفة لشعيب حليفي، حيث تجاور التأويل مع التفكير في احتمالات قرائية مغايرة، ورُكّب المتن النقدي داخل سياق تكوّنه اليومي؛ ذلك ما نلمسه -على الأقل- في قراءته لرواية «امرأة النسيان»لمحمد برادة كما يطالعنا في بعض فصول كتابه النقدي عن «مرايا التأويل: في كيفيات تجاور الضوء والعتمة». ثمة في كل مرة تفكير في بذور المعنى بالتزامن مع رغبة في إخراج القلق التعبيري إلى حيز النص المنجز، سواء كان روائيا أو نقديا. يوميات الكاتب يتكوّن المتن الحالي من اثني عشر فصلا، هي على التوالي «حكايات للبداية» و«بويا» و«أنا والمرايا في ضوء يونيو» و«أرى ما أريد وأكتب ما أحبس و«لماذا نسيت الكلام قليلا..؟»و«زلة العاشق» و«16 (بحث في وجدان أرض الحكايات..)» و«قوس الأموي» و«معجم الموسيقى» و«جمهورية مريم» و«صحف علاء الأولى» و«نشيد خيالي ومرثية قديمة». وقد أهمل الكاتب ترقيم الفصلين الأولين، ليثبت أرقام الفصول العشرة الباقية فقط، ولا ندري الحكمة من ذلك، ولا سيما أن الفصلين الأولين لا يختلفان كثيرا من حيث مبناهما ومضمونهما الحكائي عن بقية الفصول، سوى الرغبة في الإيحاء برمزية رقم «عشرة» الشديد التداول كلما تعلق الأمر بوصايا أو شعائر. من هنا وسم النص ب?الاحتمالات العشرة لكتابة رواية واحدة. تفاصيل دقيقة تتشكل أغلب الفصول من يوميات الكاتب، في البيت والجامعة والمنتديات الثقافية، والمقاهي، والأسواق، وضيعة الأب،.. وتدور في أغلبها بين الدارالبيضاء وسطات (المزامزة - الشاوية..)، ثم من أسفاره وتأملاته في صدد صور تسربت إلى قعر الذاكرة لأصدقاء وأمكنة وأحداث وتفصيلات يومية، ولظلال صوته واسمه ووجدانه كما تتجلى لبصيرة الكاتب. وإذا استثنينا الفصل الخاص بالزعيم النقابي الموسوم ب«قوس الأموي» الذي اتخذ طابع البورتريه، فإن باقي الفصول تمتزج فيها سمات: السيرة، بالرحلة، بالمذكرات، بالتحقيق الصحفي، ضمن قالب اليوميات، الذي يفسح المجال للتأمل والمراجعة والتعليق المفتوح. هي إذن فصول تسجيلية تحتفي باليومي الملموس والحقيقي، مع رغبة في التمويه المحدود الذي يكتفي في بعض الحالات بحجب الاسم الحقيقي لشخصية ما، أو تهويم حادث خاص، أو تورية واقعة شهيرة، نذكر هنا تلك السهرة اللطيفة التي جمعت الكاتب بأحد أصدقائه الذي وضع له اسما روائيا على غير السائد في اليوميات، رفعا للحرج. حيث يفتح قوسا أثناء حديثه عن شرب الشيخ رئيس الفرقة الموسيقية ليؤكد أنه: «محظور إدخال النبيذ إلى السهرة باستثناء الشيخ رئيس الفرقة الشعبية» وكأنما الكاتب يعي أن اعترافاته السردية، لا يمكن أن تقرأ في الغالب إلا باعتبارها حقائق عاشها، ومن ثم وجب تنبيه الغافلين بمثل تلك الإشارات. لقد كتبت محكيات «لا أحد يستطيع القفز فوق ظله» لتمجيد الظلال الشخصية والسلالية، ولصون تفاصيل الحياة الخاصة من الضياع، بيد أن طابعها الواقعي المقصود لا يحد من طاقتها في نسج عوالم ذات نسغ تخييلي، مع إصرار على الإيحاء برغبة التطهر من أحاسيس مرزئة، حيث تتراسل باطراد دوال: «التطهر» و«الطهرانية» و«البراءة» و«البداوة».. على امتداد متن المحكيات، مقرونة في كل مرة بالعودة إلى مراتع البدايات التي لم يصهرها لهيب المدينة والنضال والعمل الجامعي والكتابة والانتماء إلى النخبة المثقفة، بما تنطوي عليه من رزايا وإحباطات وأعطاب أخلاقية. كما أن مجموعة " لا أحد يستطيع القفز فوق ظله" لا تفتقر إلى صور روائية محكمة، وإن كان في حدود البذور الأولى التي لم تخطط لها مسارات التنامي والتصادي السرديين. بلغة فطرية، تقتصد في المجاز وتحتفي بالحسي المباشر.