كان من حق وزير المالية محمد بنشعبون أن يفصح عن اعتزازه بالرفع من ميزانية الصحة العمومية، وكل ترسانتها المصاحبة لها بما يزيد عن 1,6 مليار درهم عن ميزانية السنة الماضية.. وعليه بعد ذلك، أن يتساءل مع عموم المواطنين والذين يهتمون بالشأن الصحي: إلى أي حد ستمكن هذه الزيادة من الاستجابة إلى كل بؤر التوتر والابتلاع التي يعرفها القطاع؟ فنحن أمام وضع يتجاوز التصفية المالية لحاجيات القطاع، أو بيان نفقات متوقعة في المجال، بقدر ما نحن أمام خصاص رهيب سبق لملك البلاد أن وصفه باسمه في خطاب العرش لسنة 2018.. إذ دعا الملك إلى «تصحيح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية "RAMED"، بموازاة مع إعادة النظر، بشكل جذري، في المنظومة الوطنية للصحة، التي تعرف تفاوتات صارخة، وضعفا في التدبير».. وهو وصف يتجاوز أي تسامح أو استسهال من قبيل القول «ببعض الاختلالات»؛ كما سماه رئيس الحكومة في كلمته خلال المناظرة الوطنية حول التمويل الصحي.. لقد أغرق الرئيس مداخلته وقتها في الأرقام الجامدة، بدون الانتباه إلى دقة الوصف في نوعية الوضعية باعتباره وضعية «تفاوتات صارخة» وضعفا في التدبير. ليس هو ذا الفارق الوحيد في تناول وضعية الصحة والحماية الصحية.. والذي يعني تقدير الوضعية وتقدير خطورتها! هناك أيضا حقائق الواقع وحقائق البديل.. هناك لوحة من مؤشراتها: مورد بشري في وضع احتجاجي، أخطر عناوينه إقدام ألف طبيب على الاستقالة.. وهناك ما يدفع إلى الجزم بأن الصحة بالمغرب باتت بؤرة احتجاج وتخزين الطاقات السلبية، فيه، بما تعرفه من توترات تتصل بكل المعنيين بالخدمات الصحية: المرض، أولا.. الأطباء والممرضون والطلبة الممكن تحميلهم مستقبل القطاع، وهم متلقى التعليم والصحة، بأزمتيهما الدائمتين.. الصيادلة.. والحماية الاجتماعية للمتقاعدين!… الملاحظة ليست من باب التشكيك، بل من باب وضع الأرقام الباعثة على التشاؤم، أفليس الفرق بين التفاؤل والتشاؤم هو فقط نقص في المعطيات؟ عندما ننتقل إلى ما تقوله أدبيات القانون المالي، نجد أنه يتحدث عن استراتيجيتين: الأولى على المدى البعيد يرهنها سقف زمني هو 2020، وأخرى استعجالية نوعا ما وهي محكومة بقانوني المالية إلى حدود 2021… ****** في تقديم للمعطيات حول هاتين الاستراتيجيتين نوع من الالتباس ،كما يستفاد من مذكرة تقديم قانون الميزانية… ففي النقطة المعنونة ب «تحسين ولوج المواطنين للخدمات الصحية»، نجد المذكرة تتحدث عن «أهم المنجزات المتعلقة بتحسين ولوج المواطنين إلى الخدمات الصحية برسم سنتي 2018 و2019 كما يلي – توسيع وتأهيل العرض الصحي: يهدف مخطط 2025 في جانبه المتعلق بتعزيز البنيات التحتية إلى الرفع من الطاقة الاستيعابية للمستشفيات إلى 10 آلاف سرير و327».. ونحن لا نخرج بأي فكرة محققة، هل هذا هدف سنصل إليه في 2025 أو هو برسم منجزات السنتين الماضيتين، وماذا يمثل ذلك أمام الخصاص الذي يعيشه القطاع العمومي في الصحة؟ نقطة التباس ثانية ،إذ هناك حديث عن إنجاز 13 مستشفى – وهو مهم – بألف سرير و85، في حين يوجد ما مجموعه 5 آلاف و807 أسرة في طور الإنجاز؟ ماذا يستفاد من هذين الرقمين: هل المنجز هو فقط ألف سرير في سنتين، في حين علينا انتظار السنوات الست القادمة لبلوغ 5 آلاف التي يعدها القانون في طور الإنجاز، أم الكل في إطار مخطط صحة 2025؟.. قد نتبين ذلك في القادم من الأيام بوضوح أكبر يسعف على التعليق. ولعل البند المتعلق بالخدمات الصحية بالعالم القروي ، أكثر تعبيرا عن اللغة العامة، حتى لا نقول العائمة في مجال حيوي، صار عنوان القدرة على ضمان العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية معا، فنحن أمام فقرة فقيرة من حيث الأرقام، وحديث عن تعزيز يتم «من خلال مواصلة تنفيذ برامج اقتناء الوحدات الصحية المتنقلة! وتنظيم قوافل طبية! ودور رعاية من أجل دعم ساكنة المناطق النائية والمعزولة في العالم القروي»! وهو أمر غالبا ما يشير إلى إعلان نوايا تتحكم فيها عوامل غيرمرقمة، بل متقلبة للغاية ورهينة بسحر ما.. **** من يعيش بالقرب من الصحة العمومية، لاشك أنه سيرفع القبعة عالية للعاملين فيها، من مستويات عديدة لا تقف عند العامل الصحي البسيط أو عند المستوى العالي : فهناك ضغط رهيب، يوميا، وصل بالعاملين إلى حيث الاحتجاج على الأوضاع المعيشية لهم دفاعا عن تمكينهم من أدوات العمل.. ولما بدأ ذلك، كثيرون شككوا في نوايا العاملين، إلى حين رأوا أن ذلك يحصل في دول أخرى كفرنسا ثم قالوا: ها أنتم ترون، لسنا وحدنا في المحنة الصحية! لا أحد يمكنه أن يقفز على هذا الوضع، فالدولة تقرر إضافة أربعة آلاف منصب شغل إضافية..في حين نفس الدولة تقر عبر وزير القطاع ، خلال تقديم مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الصحة بمجلس النواب، أن «الخصاص في الأطباء على المستوى الوطني يصل إلى 32387 طبيبا، ويبلغ الخصاص في الممرضين وتقنيي الصحة 64774، أي 97161 في المجموع، مشيرا إلى أن الأطر الطبية والتمريضية المتوفرة لكل ألْف نسمة لا تتعدى 1.5 بينما الحد الأدنى المطلوب هو 4.45». وبوتيرة 4 آلاف في السنة، فإن سد الخصاص سيتطلب 24 سنة على الأقل.. وهو ما يفترض أن توقف الدولة جميع المرضى المواطنين ، حتى تسد عجزها في الموارد…! والحال أن الذي يزداد هو المرض و… «قلة الشي»!