آمن بالحرية كي يعيش الحب، حلم بتغيير العالم، تناسل جشع الوحوش وضيّعوا عنه حاضر الإدانة، عرف أن المركب اقترب من مرسى النهايات، التفت إلى الخلف، لم ير سوى الضباب وبقية من سؤال هزم سائل الحسناء المعلوم، متى كانت بداية التصدع ؟ ومتى استسلم لمرارة الخيبات ؟ استغباه أصحاب الجنيات والنجوم ومدمني مسح آثار الافتراس، راوغوا يقظته المزعومة، اصطادوه فوق ربوة تحتفي براية بيضاء، وتفننوا في التنكيل بعطشه التاريخي وبراءته المثيرة للشفقة. منعوه من مغازلة البر والبحر، وفَّرُوا له قبرا مطليا بزرقة تميل للعتمة الكريهة، حرضوا الكأس على التسلل لأصل العناد واحتلال مساحات الاشتهاء المتبقية، وأطلقوا العنان لأبواق مأجورة تحاشت الحديث عن جرح النبض المغدور وواصلت بث أغاني الجوع المبتذلة عن الليل طويل والروج قليل . كان مثاليا فوق اللزوم، ليس لأنه ساذج أو غبي بالوراثة، لكنه ترك منحدر الهاوية الكئيب يجذبه لظلمة الحفرة الحرامية، حيث أقامت ثعابين الغدر وأفاعي اللدغات السامة وليمة الاستسلام لصقيع القلوب الخائنة . تذكر أن الحياة لم تقدم له جوابا واحدا على غصاته المتعاقبة، صدفة، أخذه قطار الحلم، توقف به في محطات مهجورة محاطة بالغبار والأشواك، خارج سكة الخيبات، تناسلت العذابات، فشلٌ ونحْسٌ وهزائم، وبياض الفقدان تربّص بضحاياه على قمة سكنتها أقنعة شريرة لم تتوقف عن الافتراس. تجاوز العتبة، تخلص من الإحساس القاهر الذي رافقه منذ وعى فداحة الفراق، همس بدعاء الرحيل المسجوع، والهدف احتمالان لا ثالث لهما، إما أن ينجح في الهروب مما يؤلم الروح والخاطر، وينسى قتلة نبضه البرئ ! أو تجذبه هاوية الذكرى، يتكوم تحت منارة الألم، ويستسلم لنوبة بكاء حارق رفقة كأس متواطئة مع شاشة لا مرئية تعرض هزائم جيل وحب وطن غير عادل! صار عبدا لطقس يومي يحضن المتعبين وحمقى الجرح الكبير، في نفس الموعد والمكان، مع كأس الحسناء المكللة بالبياض، يطلب الارتواء لنسيان عطشه التاريخي المزمن، ابتلي بعشقها، كالابتلاء بالتهام اللحم ومضاجعته، وإدمان الكذب على الله والمطالبة بالأجرة، واشتهاء جنية من نار تسكن الأحلام والأفكار حين يغترب الأقران، ولا وقت للندم وجلد الذات. الكأس الأولى تحية سريعة للغط والعتمة وإدمان الانسحاب، والكأس الثانية، وسط الغناء المبتذل واعترافات ضحايا العواطف الساذجة، إقلاع نحو ذاكرة الخيانات المرصودة، ومع الكأس الثالثة، يملأ شبكة الكلمات المتقاطعة انتقاما من تأويلات سائبة جعلته يعتقد في الأحلام، ومع الرابعة يقرر الإضراب عن الصمت، ويشرع في الحديث عن الصهد وصعوبة التنفس والاختناق. اختفت قطارات الغباء المدوّي .. هزمته غصات الندم، افتقد عناوين الألم، استحال السواد إلى فخ أبيض يصطاد النوايا البريئة، وسكة الحديد المهجور مجرد ذكرى صدئة تمنع السفر نحو المستحيل. تذكر وقت الخروج من النفق، كان متلهفا لاحتضان ضوء الحياة، وجد نفسه على بعد خطوة من السقوط في منحدر خطير، تردد للحظات، استحضر الإحساس المر بضجر العودة لمسار البدايات الفاشلة، انصاع لجاذبية المنحدر والهلاك بالتقسيط .. والنتيجة، لا صحة ولا حب ولا أولاد، وجلوس مسائي في قلعة كائنات مكتئبة تتعايش مع وجود ممل يحرمها الشغف اللازم بما يجب أن يكون . داخل حانة القلعة المغلقة على روتينيتها، لا حاجة للوقت بعقرب يقود لنفس النهاية المكرورة، لغط وبوح وآهات، خواء داخلي يأكل النفوس المرصودة للعبور المحايد، وساعة عطلانة دون تأثير يذكر. أفلت فرصة النجاة من مصير الغرقى المنبوذين، سقط في جوف الكأس، جره القعر نحو الأسفل، عاش وسط الظلمة، لم ينس الاستسلام لتبعات الألم، اعترف بغبائه المركب، صدق فخاخ حقارات استأجرت مخبرين ومخبرات نصبوا شباك غدر مبين، وجهوا إلى صدره الطعنات بكل ما يلزم من أحقاد، وكلما فكر في الخلاص من معتقل الحلم المجنون أعاده سوط الذكريات لنفس الزنزانة وربوة اللعنة الموحشة. الغروب المستعجل يعيد له إنسانيته، يذكره بتفاصيل إدمان العودة إلى كأس الرحيل اليومي نحو اللامكان، تستقر ظلمة الليل في الأذهان، ضوء أحمر خافت ، قهقهات هنا ولغط هناك ، هنا مهزوم استسلم لبوح لا يستحيي من الاعتراف بالنحس والخسارة، في تلك الزاوية شيخ وامرأة فاتتهما فرص إدراك معنى الحياة، في الركن الأيسر مياوم أعزب ومعلم مهزوم يتعاركان حول تاريخ العبودية، وفي عمق الضجيج فنان مرهف الإحساس وخائف أبدي من سكتة قلبية فوق ركح مهجور، وفي زاوية الكونطوار ، تحت الأدراج الصاعدة نحو المراحيض المعطرة بروائح بول السكارى، يختار كرسيا وينشغل بمتابعة سيرك الغياب دون مفاجآت. خلف النوافذ المطلية بالسواد، هيكل المنارة المهجورة ينتظر عودة بحار نجا من الغرق، الرؤوس فوق الفزاعات متعبة من الخواء، وداخل القلعة المحروسة، خدرٌ مأجور، إصرار على تجاهل المحطات الموغلة في الخيانة، والعجوز المتصابية لا تجد ما تغري به سكارى الوقت المهزوم سوى ترديد مقاطع حزينة من أغاني الهجران والرحيل والحرمان .. ولا أحد يهتم بإحصاء آثار الوجود المنقوص والشرود المشاع. غرباء عن بعضهم البعض، اختاروا الهروب نحو الكأس، رفقة روابط عاطفية هزمتها قساوة الانصياع لطواحين قتل الأحلام، هناك من مر خائبا على هامش الحلم، ألصق بجبهته دينارا زائفا وسكنه داء النكاح، والذين تورطوا في دروب العناد غرقوا في كأس أبعدتهم مؤقتا عن معاناة الخسارات المخدومة، ومن اكتفى بالفرجة أخذته سلاسل الحياة إلى حيث عاش الموت بحياد مقرف .. والجميع تزاحموا في دائرة مغلقة حاصرتها أسلاك شائكة أدمت أصابع من حاول تجاوز الحدود المرسومة دون تفكير في جشع الذئاب المفترسة. وحدها استطاعت تخليصه من جحيم الخواء، المؤشرات والاختيارات والصدف قادته إليها، ارتمى في حضن كأس لا تخون، في النهار يتناسى طواحين الافتراس العمياء، يراهم يلهطون كل ما تسقط عليهم عيونهم، يستأجرون أبواقا صدئة متخصصة في نشر التفاهة وتحييد المواقف وتخدير العقول، ومع الغروب، يهرب للقلعة، تحضنه الحبيبة، يدمن الحوار مع شبيهه، يستحضر روعة الحب الموؤود وقسوة الحلم بفراشات ترقص للحرية، يستعرض حالات المهزوم، يعود لعروسه الذهبية ويشرب أكثر. عاش الموت بالتقسيط في مواجهة كأس مكللة ببياض الكفن، متلهفا لقتل الليل وظلمته القاسية، كان يبعث للآخرين عدوى احتجاج صامت على ما لم يتحقق، سخرت ساحرة الكوابيس المشاع من أوهامه العمياء، حذرته من الوقوع في دوامة اليقين وقالت: « خذ راحتك في الحانات المحروسة وأوكار الدعارة الراشية! لاعب ثعبانك المطارد! لا تجهض جنين الرعشة المسروقة! ولا تحمل عبء ما لم ينفضح قرب يافطة الحرام والحلال!» صديقه وأنيسه أحمد ابن الدرب القديم قادته هزيمة الجيل إلى تذوق كأس النغمة المرة، انضاف للائحة اللاهثين نحو أدخنة الموجوعين، أطلق صرخته الأولى في هامش بلا عنوان، كبر وقالوا له: « لديك ثقب أسود في جمجمتك فاملأ ظلمته بما يتحدى العنعنات المتواطئة !»، أحس أنه بلا ماض يربطه بمكان محدد، وانتهى به المطاف في سرب القلعة هاربا من واقع اغتال حلمه الكبير ورمى به في زحمة أهدوها اسما ويافطة براقة بالألوان. تعاقبت عليه الفصول، في نفس الحيز المختنق بالأحزان والخيبات والاعترافات، لم يكن في حاجة لمعرفة وقت الخريف ليعرف سبب سقوط الأوراق الميتة، بالحدس كان يدري أن الأرض التي أنجبته فقدت جغرافيتها، ودع الحبيبة في يوم بارد، وعلى مشارف محطة الوداع، فقدت الأسماء شرعية تداولها في وطن دفعه للرحيل عن شوارع تعرضت للاغتصاب المستمر وقتلت الأبرياء. راهنوا على موت صرخته وفنائه، اقتنعوا أن الزمن كفيل بقتل الحلم، ونسوا أن آلامه قد أزهرت حبا من نوع آخر، وحصاد ما بعد الرحيل لعنة عنيدة مددت الجذور في تربة السلالة المحرومة، وأنبتت أشواكا وشجيرات قاومت عطش الكوابيس الأبدية.