الجبل شيخ قبيلة يقرِّب الأغراب من مواقع موتهم والسهل فارس أحمق يحلم بانحرافات غامضة ، لوْمُ الأول جارح يؤلم خواء الروح وعتاب الثاني يراقص الريح المسعورة ، ومعهما لا أراني .. ويحدث أن أتهور ويتحاشى ظلي شكوك الظلمة . تقسو الجهة اليمنى من الجبل على السهل المستسلم لذكرى اقتتال العشيرة الحمقاء ، تعشق يسراه رؤوس سنابل تتمايل وتشكل مويجات بحر أخضر يهادن حيرة الفصول المتقلبة ، و أعشاب المدرجات الضيقة تسأل القمة عن صلابة صخورها المطلية بدماء العشاق . وحيرتي أنني لم أعرف متى أنهى الجبل كلامه مع سَهْلٍ أصابه مسٌّ جبلي وتورط في عشق أزهار سفحٍ يكلم نفسه بلا توقف ، بالصدفة ودون مقاومة تذكر ، التقيا بعد زلزال مشهود ، سقط السهل في حب الجبل ، احتضن المنبسط تضاريس الافتتان واشتعلت حرائق الاشتهاء ، أَحَبَّه بعنف رغم عجزه عن رؤية تضاريس الوراء وملامح الجهة الخلفية الخفية ، ورغم اقتناعه باستحالة الاحتضان الكامل لما خفي من جغرافيا فتنة مجهولة التفاصيل والهوية . عكس المظاهر الخادعة ، خارج الفصول واضطرابات العلاقة غير المتكافئة طبعاً ، بادلا بعضهما الحب والشوق ، تركا لقبيلة الرُّحل مهمة تعيين رسول المحبة ، وتكلفت الريح بحمل كلام المنتصب الصامت للسهل العاشق بغباء يثير زوابع صحارى تدمن قصائد الغزل العذري وهجاء جنيات الليل القاسيات . في بوح هامس ، وقت الغروب الحالم ، عاد السهل لثرثرته المحببة وأخرج الجبل من صمته المرصود ، سأله: صراحة .. لماذا أحببتني ولم تعشق تلك الهضبة الرابضة هناك ؟ لا أعلم .. ربما هو سحر الاختيار وجاذبية الجوار. هي صدفة الولادة إذن وحميمية الجغرافيا تهزم الأقدار. كلما نظرت إليك بافتتان حلمت بالسفر في امتداداتك الشهية . كلامهما المتواصل ليلا ونهارا يعيش جميع الفصول في نفس اللحظة ، وهما معا يعرفان أنهما لن يسأما من الهمس والبوح والحلم والاحتراس من لعنة الغربان وكوابيس العشيرة الانتهازية .. ما زال في وقتهما متسع للحياة ، لا مسافات تبعد بينهما ، لا حواجز جمركية ، لا منافي ولا قيود .. والذي بينهما كل الوقت ، حرائق الحنين ، رعشة اللهفة ، قبلة الحضور والغياب ، كيمياء الروح ، عطش الجسد ، وما يجمعهما في حكاية النبض والوجود لا يحتاج لتبريرات موغلة في الغموض . بالأمس ، احتضن الجبل بياض الثلج المحايد ، احتلته طبقات الصقيع ، وقبل ذلك حطت غيمة عاقر على رأسه العارية ، كتبت عنوانا مضطربا لقصة غرام غريبة ، واليوم ، في الفترة الانتقالية بين فصلين لا يتحابان ، انشغل بترتيب مشاعره الجديدة ، لم يهتم بغيرة السهل المتوقعة ، كثر اللوم والخصام ، وطال الشك مصيرهما المشترك . ظل السهل يحلم بركوب لذة المغامرة وصعود الجبل ، تأمل هدوءه الشاعري ، سمع النهر العنيد يحكي للطائر الحر طقوس الولادة العنيفة ويقول : « لا حياة لمن لم يعشق ركوب الجبل ولم يجعل دالية العنب تمنح حلاوتها المشتهاة لحبيبات العناقيد الأسطورية « . الاعتراف سيد الأدلة .. وهو معه قرب شاطئ الخرافة ، رأى فيه التوأم وعطر الحلم وعين الحياة وما لم تره قوافل اللغط والضياع ، كبر الحب بينهما ضدا في هندسة الأحقاد وخرائط الخداع ، ونسيا أنفاق الموت وزنازن أشباه البشر . ومما زاد جنونهما نغزة أنهما ظلا متعلقين بريح البلاد وذاكرة البركان الخالد ، وفي جميع الفصول ، عشقهما بحرهما الخالد ، أمواجه ترقص رقصة الفرح الوفية لأسطورة النهر الحزين وبركات أنثى الخرافة ورعشة التربة المسقية بدم الشهيد . تبقى البدايات منقوشة في الذاكرة ، ذات غروب ربيعي هادئ ، رفعتهما أول قبلة لسماء لم تكن معهودة ، حلقا كالمسحورين في عالمها العجيب ، برق ورعد ورعشات كهربائية ، واعتراف بجمال الجغرافيا المتصالحة مع تضاريسها المشهودة .. وانتشاء طاغٍ بمفاجآت الحياة . امتطى المنتصب الشامخ صهوة حجر الواد البهي ، طاف بين تموجات الصخور القاسية ، تمهلت غيمات العقم المشاع ، قبّلت القمم العجيبة بإحساس عذراء لم يمسسها بشر ، وفي الانحراف الأخير ، تعثر الحصان وسقط ، ركضت الفرس الفاتنة بالمنبسط الحنون ، قصدت جنة فواكه أسطورية تسحر الحمقى ، وبقى حصاد الغياب ترنيمات غصة في حلق غيمة حزينة كتبت حروف الأسى بلا مداد . حلقت ريح الغروب فوق بحر السنابل المتماوجة ، راوغت عيون العسس الحقيرة ، حملت عطر الورود الوفية لفصلها المعهود ، وصلت برسالة الحب إلى حيث يخبئ الجبل شرارة البركان المتصالح مع تربة الخصب والسخاء ، اعترف المرتفع الشامخ للسهل المتوتر بكونه تعب من مقاومة ريح السموم والتواجد في المكان غير المناسب ، ومرات عدة تمنى لو كان ممددا منبسطا إلى ما لا نهاية ، يسخر من صهد الظهيرة البليدة ، يراوغ فزاعات العرف البائد ، يتورط في حب نجمة محظوظة ، يستريح قرب زهرة فاتنة خالفت فصلها الهارب ، ينهي البوح باستغراب حارق ويسأل : « أما آن لهذه الفأس اللعينة أن تتعب من حفر أطرافي الصخرية المعطوبة وتتركني أرتاح من غباء الحفًّار ؟ « . أحس السهل غير الممتنع أن عشيقه الأبدي قد أدركته نوبة الحزن الدورية ، في غفلة عن حياد العشي ، شكلت الغيمات جيشا من الأشباح وكائنات غرائبية تثير الرعب ، تذكر عيونا شقت الصخر ، وماء حياة اخترق الحواجز والفجوات ، فكر في تحريض رفيقه على التخلص من غربة الاستفهام ، قال : « لا تهتم با حبيبي ولا تغتم ، ستزول النوبة ونعود كما كنا لقدرنا الغريب ، يحزننا الخريف ويبكينا الشتاء ويفرحنا الربيع ويمتعنا الصيف ، يتهادى الطائر الحر في الزرقة الصافية وحيدا ويراقب أنثاه بشغف أبيٍّ يأبى الخضوع لمشيئة الأسراب الحقيرة!» عانقه في خشوع ، تأمل ملامح وجهه المثيرة ، سحره عسل النظرة العاشقة ، انصاع للحظة شرود لذيذة ، وجد نفسه يغرق في بحر شوق لا شاطئ له ، تحتفي شقائق النعمان بروائح الأعشاب البرية المحملة بأنسام الغجرية الفاتنة ، يشتهي السهل قمر الليل الحالم وينحني لعشق الحكاية ، وقبل ظهور النجم الساطع ، تزلزل ريح الجبل خاطر الفزاعة ، يسقط قناع الخرافة ، تتمزق أسمال القريب البعيد ويستسلمان معا لمناحة الرحيل الجارحة . وحسناء السهل مأخوذة بسحر المفاجأة ، تنظر للجبل نظرات خوف ورهبة ، تتأمل روعة الوادي وإغراءاته المتتالية ، تتجاوز الصخور المتأهبة ، تطمئن على سلامة الوجود ، وتترك للنفس فرصة قراءة متاهات الشامخ المهيب . يغيب المعنى ، يمضي النهر الحزين دون أن يلتفت إلى الوراء ، في أعماقه تنام صخور انحرافات الجبل القاتلة ، على وجهه ضحكة تسخر من عصافير السهل البلهاء وغرور فزاعات الحقول المستباحة . يحل موسم البيات القاسي ، تستحيل ظلال الجبل الخلفية إلى شباك ظلمة تصطاد فراشات الوهم المتأخر ، ينهق حمار العشيرة في المنحدر الكريه مرددا رثاءه الرتيب ، يعانق الظل الخائن جغرافيا التضاريس الوفية لرعشتها الحارقة ، يتذوق طعم الشهقة الأخيرة ، يريح الذاكرة من براكين الاشتهاء الأحمق ويستريح . تؤلم ملح الدمعة الحائرة جرحا غائرا في عمق السهل المستباح ، تأتي نوبة « الله غالب « بضغط سماوي مرتفع مصحوب بغيمات ألم وندم وتَيْهٍ غير مفاجئ ، تراقص الغزالة الغجرية التواءات الجبل الجارحة ، يغني حسون السهل الحائر آلام الرحيل ، يراوغ الضباب الأرعن منافذ العبور العسير ، يلتف حول الرؤوس المزهوة بأناقتها المرعبة ، يشرع الجبل في الاختفاء التدريجي عن عين السهل الشاردة ، تذهب حكايتهما إلى الأفق المجهول مع مويجات النسيان ، تصمت الريح احتراما لجنازة الخواء ، ويغرق الجميع في ظلمة ليل بلا نجوم.