لا جدال في أن استحضار كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة» يضع المرء أمام سؤال كبير يتعلق بشروط ممارسة التفكير وإنتاج الفكر، سواء داخل (الفلسفة)، أو في إطار حقل من حقول «العلوم الانسانية»، وهو سؤال يستدعي النظر في قدرة النخب على إنتاج فكر ملائم، قادر على تشخيص الواقع، وإبراز مفارقاته، وقادر، في نفس الآن، على التفاعل مع تطور الأفكار والمفاهيم، كونيا. كيف يمكن الحديث عن تأثير «الايديولوجيا العربية المعاصرة» في الفكر المغربي أو العربي، في الوقت الذي يصر صاحبه على أن كتابه موضوع «سوء فهم» دائم؟ هل يجوز الاطمئنان الى «حماس» – وهو حماس مشروع في ذاته – الى صدى مؤلف فكري تأسيسي في بيئة تقاوم، بل وتحرف «أصداء» الفكر العصري، حتى داخل الأوساط التي «تدعو» الى تبنيه واستنباته؟ يبدو أن كل نقاش حول تأثير كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة» من عدمه، يبدأ من هذا المعطى، الذي يبدو ولا شك مزعجا على أكثر من صعيد. ولعله من قبيل تحصيل الحاصل القول إن العروي في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» وفي غيرها من مؤلفاته، أظهر قدرة لافتة على السؤال والتفكير وعلى تجاوز صفة الباحث في تاريخ الأفكار، ليكثف مقومات مفكر يحركه نزوع نقدي مسكون بقضية الإنجاز التاريخي للمفاهيم. لم يعمل العروي من أجل ذلك على البحث عن «وسطاء» من أجل الفكر حين خصص جهدا كبيرا لتاريخ الافكار العربية، من منطلق استيعاب فعلي للنظريات والمناهج الحديثة، وبنى إطارا مفاهيميا، لما أسماه ب» الايديولوجيا العربية»، حيث حول النصوص المدروسة الى مناسبة لإعادة بناء أسئلة الراهن المغربي والعربي، من خلال تكسير الحدود بين النص والفكر المتسائل والمجتمع، قياسا الى تحد تاريخي تمثل في الحداثة. يرى العروي أن المشكلة المطروحة بدقة وبصدق، في الماضي القريب كما اليوم، تبدو له اكثر أهمية من الحلول المقترحة، باعتبار أن اللغة السائدة وتواطؤات النخب والمجتمع تنتج مشكلات تزداد استعصاء على الدوام، أو أنها تحصر دور الفكر في الحكم على حقيقة أو صواب المشكلة، أو اجتراح الحلول المناسبة أو غير المناسبة لحلها، أما عنده فالأمر يتعلق، على العكس من ذلك، بضرورة العودة إلى أصل المشكلات وفضح ماهو مزيف فيها وقياس اتجاه المشكلة من زاوية ما توحي به للفكر وللعمل. والتفكير في الجديد في إنتاج العروي يتطلب قلبا عاما للنظر الى الفكر والوجود والتاريخ والدولة. يتحدد الجديد كما هو الإبداع، بما يحمله من قدرة على إنتاج الفكر والحدث. هناك جديد كلما حصل استيعاب للفكر العصري وقدرة على خلق الحدث أو حين تتموضع الذات - ومفهوم الذات يحتل موقعا حاسما في الانشغالات الفكرية للعروي، وبه يبدأ تفكيره في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» – في سياق صياغة مفاهيم. ويصبح الجديد حالة إبداعية تعبر عن موقف ذاتي يتعزز فيه «فكر الفكر»، أي التفكير في عملية القبض على التاريخ الإنساني. وعلى الرغم من انتقاداته الكثيرة للفلاسفة المغاربة والعرب، لدرجة بدا فيها وكأنه «خصم» لهم، إذ يقول: «لقد أعطيت الانطباع، أحيانا، أنني أستبعد الفلسفة باعتبارها حفلا فكريا والحال ليس كذلك البتة»، فإن العروي يقر بالحاجة إلى الفلسفة والتاريخ في نفس الآن. ويعترف: «إني مشيت على رجلين اثنين: التاريخ والفلسفة، كما هو الشأن بالنسبة لمن جمع الفلسفة والتحليل النفسي. العلم والميتافيزيقا. وبشكل أكثر اعتيادا الفلسفة واللاهوت»، ولا يتردد في التأكيد على أنه لا يرضى «أبدا بالنتيجة الخام للبحث التاريخي. إنني أحاول، فيما بعد البحث، أن أستشف الأجوبة عن أسئلة من طبيعة فلسفية واضحة، بله من طبيعة ميتافيزيقية».