يوم الأحد 20 مارس 1955، تأسست أول مركزية نقابية مغربية "الإتحاد المغربي للشغل"، بمنزل رئيس اللجنة التحضيرية الطيب بن بوعزة، وبحضور 57 مناضلا نقابيا مغربيا من الذين سبق لهم أن نشطوا في فروع المركزيات النقابية الفرنسية التي كانت موجودة في المغرب، حيث صوت المؤتمرون على أعضاء اللجنة الإدارية، ثم أعضاء المكتب الوطني. فانتخب الطيب بن بوعزة أمينا عاما والمحجوب بن الصديق نائبا له، وقد اعتبر الأمين العام هذا اليوم "صفحة مجيدة في تاريخ الحركة النقابية" [1] . غير أن الواقع كان لم يكن كذلك، فقد روى محمد الصديق، وهو من مؤسسي للاتحاد المغربي للشغل وعضو في أول مكتب وطني، "أن المحجوب بن الصديق انتقد قرار اللجنة الإدارية وأكد أحقيته بمنصب الكاتب العام بدعوى علاقاته الخارجية، فاضطرت اللجنة الإدارية إلى عرض الأمر على المؤتمرين الذين زكوا الطيب بن بوعزة من جديد في منصب الأمين العام بأغلبية ساحقة"[2]. فعمد المحجوب بن الصديق إلى تغيير النتيجة بعد تكليفه بإرسال التقرير إلى وكالة الأخبار برفقة محمد الصديق الذي يضيف قائلا "لكن المفاجأة كانت عظمى ونزل الخبر كالصاعقة حينما نشرت وكالات الأخبار والصحافة الدولية في اليوم الموالي الخبر الذي ورد فيه أن المحجوب بن الصديق أمين عام عوض الطيب بن بوعزة. لقد عم القلق والغضب أوساط النقابيين الذين قرروا ما قرروه في جو حر وديمقراطي"[3]. وبعد الضجة القوية التي نتجت عما اعتبر تزويرا لجأ المحجوب إلى "أسلوب المساومة والشانطاج فهدد بفضح المؤتمرين لدى سلطات الحماية إن لم يغلقوا ملف الأمانة العامة».. وواعدت الكونفدرالية العالمية للنقابات الحرة (C.I.C.L) (س.إ.س.ل) بتقديم تأييدها ومساندتها خاصة وأن وفدا منها زار المغرب عام 1950. إلا أن حدوث الجريمة النكراء التي استهدفت حياة حشاد يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 1952، أدى بالنقابيين المغاربة، باتفاق مع حزب الاستقلال، إلى الإعلان عن الإضراب العام لمدة أربع وعشرين ساعة يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1952. وفي صباح يوم 7 ديسمبر/كانون الأول تناول الطيب الكلمة في الجمع العام المنعقد في مقر النقابات، وأدان بشدة الاغتيالات التي يقترفها القتلة التابعون لليد الحمراء الاستعمارية. ووجه النداء إلى الأممالمتحدة لتدعيم الرغبات العادلة للشعب المغربي والتونسي في الاستقلال وتقرير المصير. وأنهى كلمته بدعوة العمال إلى التزام اليقظة لإفشال المؤامرات الاستفزازية. وهكذا عكفت مختلف النقابات طيلة ذلك اليوم على تحضير الإضراب لكي يمر في جو هادئ. وفي النهاية التحق العمال ببيوتهم وخيم الهدوء على مختلف المراكز استجابة للتعليمات المعطاة بالتمسك باليقظة والحذر. وهذا ما أكدته وكالة (فرانس بريس) في برقية تقول: "لقد أيدت مجالس العمال قرار الإضراب العام في عدة مدن مغربية، لكن لم يسجل أي حادث". إلا أنه في وقت متأخر من مساء 7 ديسمبر/كانون الأول تعمدت الآلة الجهنمية للشرطة الاستعمارية استفزاز العمال ليسهل عليها سحق المنظمات الوطنية (19). وعلى غرار ما حدث سنة 1944 بالرباط وسلا وفاس، وما وقع عام 1948 بجرادةووجدة، فإن الاختيار وقع هذه المرة على مدن الصفيح في "الكاريان سانطرا"، ليتكرر العنف بفعل استفزاز مدبر. فقد أرسلت الإدارة المنادين المتجولين إلى الأحياء السكنية لتهديد كل من يستجيب لقرار الإضراب في اليوم التالي. وطبعا لم يتأخر رد العمال على تلك التهديدات، فأسرعت الشرطة إلى إطلاق النار عليهم. وسقط في الحال أزيد من مائة قتيل، نقل بعضهم إلى المسجد للصلاة عليهم قبل إجراءات الدفن، في حين أن آخرين دفنوا في التراب بدون تشييع جنائزهم. وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور عبد الكريم الخطيب، إبراهيم الروداني، احميدو الوطني وآخرين خاطروا بحياتهم من أجل تقديم الإسعافات إلى الضحايا والتقطوا كذلك بعض الصور التي تفضح جرائم الاستعمار الوحشية. وفي فجر يوم الاثنين 8 ديسمبر/كانون الأول أعتقل الطيب بعد تفتيش دقيق لمنزله الذي تم تطويقه بأعداد من رجال البوليس، وحجز أعوان الشرطة كل الأوراق والوثائق. ولما وقعت أبصارهم على بعض الصور التي يظهر فيها الطيب إلى جانب صاحب الجلالة، تملكهم الغضب، وأطلقوا الشتائم والتهديدات بحق جلالته. وبإدارة الشرطة المركزية انفجر عميدها (فوارون) (20) حنقا وصاح في وجه الطيب بأنه سيشنق هو وصاحب الجلالة في آن واحد. وحينئذ انتاب المؤلف شعور بأن ما حدث ليس سوى مقدمة لمؤامرة خطيرة. وبعد ساعتين اقتيد الطيب مغلول اليدين، معصوب العينين، ومحاطا بمفتش الشرطة الرئيسي (كَارسيت) والمفتش الشطيني إلى سيارة نقلته إلى السجن المدني بالقنيطرة، وفي سيارة أخرى لقي نفس المصير التيباري محمد وبلعيد بن عبد الله، وعوملوا على أنهم من اخطر المجرمين، وبذلك تم الزج بكل واحد منهم في زنزانة مظلمة. وبعد مرور ما يفوق شهرا من الحبس الانفرادي، نقلوا إلى مدينة الدارالبيضاء مع توقف في سجن الرباط صحبة معتقلي الحق العام. وبسجن العلو حيث مكثوا يومين في انتظار قافلة حراسة توصلهم إلى الدارالبيضاء، اضطروا إلى القيام بضوضاء صاخبة للمطالبة بالحصول على غطاء. فرد عليهم رئيس السجن بأن السجناء العابرين لا حق لهم في الأغطية. وما كان للتمدد على ارض عارية في فصل تميز شتاؤه ببرد نافح، أن يكون الحل الأمثل خاصة بالنسبة لمن تعود في السابق على زنازن الشرطة. وليس من الغريب أن يعاني الكثيرون من نزلاء هذا السجن الرهيب من مرض الروماتيزم المزمن. وكان عزاؤنا الوحيد هو النكتة المتفائلة، وأيضا زيارة خاطفة قام بها الأستاذ وديع الأسفي الذي كان معتقلا ويمد المساجين بمساعدات ثمينة. وفي سجن الدارالبيضاء التقينا بباقي المعتقلين النقابيين والسياسيين. وهناك فقط أدركنا مدى خطورة الأحداث واتساعها. ففي 8 ديسمبر/كانون الأول حوالي منتصف النهار صوبت قوات الأمن بنادقها في اتجاه موكب، وصل إلى قنطرة طريق مديونة وكان يقصد دار النقابات بعد دفن ضحايا الليلة السابقة. وسقط هذه المرة مئات القتلى. وفي نفس الشارع وبالضبط في ساحة كينكوس تكررت المذبحة بسقوط مئات من الكادحين. وفي وسط المدينة، حيث كانت توجد بورصة الشغل، طوقت دبابات الجيش ومدرعات الشرطة دار النقابات بزنقة "لاسال" التي تحمل اليوم اسم فرحات حشاد. وكان حاضرا في الاجتماع حوالي ثلاثة آلاف عامل أتوا لدراسة الوضعية الناجمة عن اعتقال الكاتب العام لمنظمتهم النقابية ومسؤولين آخرين. وداهمت الشرطة قاعة الاجتماع واعتدت بالضرب على العمال المسالمين (21). وفي يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 1952 نشرت صحيفة "لوبوتي ماروكان" الاستعمارية مقالا بعنوان: "مصيدة في دار النقابات" ورد فيه: "بعد أن فتشت قوات الأمن المغاربة واحدا بعد الآخر، وأحكمت السيطرة عليهم، تم تكديسهم في الحافلات. وبسبب الحوادث السالفة التي قتل فيها الأوربيون بوحشية، وتوفر الأسلحة لدى هؤلاء الأشخاص، فإنه لم يكن بوسع رجال الشرطة التحلي تجاههم بالصبر. وساقوا المتحفزين للجريمة بعنف شديد إلى خارج المبنى. ولم يتوقف البوليس عن العمل طيلة العشي، واقتاد بعض المغاربة، رافعين أيديهم إلى أعلى، إلا أنه بالقرب من الساحة انقض عليهم الجمهور الذي كان في انتظارهم. ومع ذلك فإن أخبارا أخرى وصلتنا مفادها أن أوربيين قد ذُبحوا أو جُرحوا في أماكن أخرى". هكذا إذن كانت الجرائد الاستعمارية تحرض السكان الفرنسيين وتؤجج حقدهم ضد المغاربة بواسطة أخبار ملفقة بقصد تغذية الإضراب وتصعيد القمع. أما الأسلحة المحجوزة مثل سكين الجيب ولبَّاسَة الأحذية، فقد وضعت داخل سيارة مصفحة، بينما اقتيد المغاربة، أربعة أربعة، وسط صف من رجال الشرطة. ومن جهتها ذكرت صحيفة "لافيجي ماروكان" بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول: "إن المتظاهرين الذين لم تكن بحوزتهم أسلحة، ولم يكن ما يبرر اعتقالهم، قد اخرجوا من دائرة "المصيدة" إلا أنهم لم يستطيعوا الابتعاد كثيرا لأنهم وجدوا أنفسهم في زنقة الطيران الفرنسي تحت رحمة النساء والرجال من سكان الحي واقفين ينتظرونهم على جانب الطريق. فنكلوا بعدد منهم صائحين في وجوههم: أيها القتلة". هكذا وقبل حشر العمال داخل سيارات السجن قام بعض الأوربيين الهائجين بالاعتداء على الكادحين تحت أنظار رجال الشرطة. وبعد اعتقالنا وجِّهت إلينا في السجن تهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي (22) والتحريض على الحرب الأهلية بتواطؤ مع الحزب الشيوعي. وهذه أضخم سخافة كذبتها الوقائع. ولنعد إلى كتاب دانيييل كَيران المذكور، فقد دحض ادعاءات المستعمرين وكتب في الصفحة 204 ما يلي: "فيما يخصني، كنت كتبت من المغرب إلى مدير النقابة الأمريكية (س.إ.و) مخائيل روس، واقترحت عليه إرسال وفد يساعد الطيب بن بوعزة وأصدقاءه في الحصول من الإدارة الفرنسية على الحق النقابي للعمال المغاربة دون قيود، وهو شرط مسبق لتكوين مركزية نقابية مستقلة. ولو أنه قد تدخل حينئذ لما سهل على الإقامة العامة بالرابط أن تذيع في شهر ديسمبر/كانون الأول تلك الكذبة الشنيعة حول وجود تواطؤ بين بوعزة والشيوعيين". واكتشفت الإقامة العامة حجة أخرى. ويتعلق الأمر بمساهمين وطنيين أمثال عبد الرحمان اليوسفي، حميدو الوطني، بناصر حركات، إبراهيم الروداني وغيرهم في مطبعة أمبريجيما. وكان الأمر هنا بطبيعة الحال يدخل في خطة للتسلل داخل مختلف الأجهزة مكنت من قبل من الاستيلاء على النقابات، وأعطت نفس النتيجة في اكتساب المطبعة التي لا تزال في ملكية الاتحاد المغربي للشغل. وكما فعلوا سنة 1944، حينما اتهموا الوطنيين والقوا عليهم القبض بدعوى التعاون مع ألمانيا النازية، فقد لجؤوا عام 1952 إلى التلويح بتهمة التحالف مع الشيوعيين لإقناع شركائهم في منظمة الحلف الأطلسي بمساندتهم. واستغرقت الاستنطاقات سنة كاملة، وجد الطيب، في اغلب الأحيان، نفسه وجها لوجه مع المحقق (جيليزو) (23) الذي كان يرى وراء كل كلمة تحريضا على الفتنة. فأثناء مقابلة الطيب مع أشخاص ادعوا أنهم سمعوه يوم 7 ديسمبر/كانون الأول يحرض العمال على القتل والفتنة، طرح قاضي التحقيق السؤال التالي: -هل تعرفون الطيب بن بوعزة؟ -أجاب أحد المتهمين: -نعم إنه يضع النظارات على عينه. وكان الطبيب هو الوحيد الذي يستعمل النظارات من بين المعتقلين الخمسة عشر الحاضرين. فقال القاضي: -دلوني عليه. فأشار المُتَّهم إلى نقابي آخر هو مبارك بن عمر وصالح: -إنه هو بنفسه. لقد أزال النظارات حتى لا نعرفه. إن الشهادات المزيفة يقصد منها تأكيد ادعاءات السفاح بونيفاس، الذي زعم يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1952 أن أساسا القضية يتعلق بالدرجة الأولى باجتماع يوم الأحد بدار النقابات في زنقة لاسال. إن أكثر من أربعمائة مناضل نقابي اعتقلوا، واكتظت السجون ومراكز الاعتقال وأماكن الإقامة المحروسة بالوطنيين وبدأت الإقامة العامة يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1952 بتنفيذ مخطط أعد سلفا للقيام بأكبر عملية سياسية والأكثر أهمية منذ يناير/كانون الثاني 1944، حسب تعبير وكالة الأنباء الفرنسية. وفي هذا النطاق عزلت الإقامة العامة مجموعة من الباشوات والقواد غير المرغوب فيهم، وعينت آخرين مكانهم بدون استشارة صاحب الجلالة الملك. وعلى اثر استفزازات يومي 7 و8 ديسمبر/كانون الأول 1952 صدر قرار بمنع حزب الاستقلال والحزب الشيوعي والنقابات. وتعرض أخ المؤلف محمد بن بوعزة هو وأسرته إلى القمع الاستعماري، ووجهت إليه تهمة القيام بدور الوسيط بين المسؤولين في حزب الاستقلال في الشمال والجنوب، وكان يعمل مترجما في عرباوة بالحدود، وكان منزله محل تفتيش دقيق، واخضع أعوان الشرطة كذلك زوجته للتفتيش. وفي رسالة بعث بها الطيب إلى أخيه، ندد فيها بالإرهاب الاستعماري، وبلغه تحيات أفراد العائلة ومن بينهم ابنه الأصغر المسمى "الأستاذ عبد القادر الوطني". ولم يقتنع المستعمرون الذين حجزوا الرسالة بان طفلا يبلغ من العمر أربع سنوات يمكن أن يحمل اسما من ذلك الحجم، وذهبوا عبثا يبحثون عن صاحب الاسم الحقيقي. وهكذا أبعد السيد محمد بن بوعزة، الذي وقع على لائحة لتأييد المطالبة بالاستقلال سنة 1944، من عرباوة إلى ورزازات في الجنوب. أما الصحافة الوطنية فقد منعت من الصدور في نفس يوم الأحداث الدامية، ولم يبق بالساحة سوى صوت المستعمرين يقدم أطروحات الإقامة العامة كيفما شاءت. ولا يجب إغفال الدور الذي قامت به صحافة فرنسا المسيحية والليبرالية مثل: تيموانياج كريتيان، فران تيرو، لوبسير فاتور وغيرها. فقد بذلت مجهودا كبيرا إلى جانب الصحف الشيوعية لإثارة انتباه الرأي العام العالمي حول البواعث الحقيقية للعملية البوليسية. وفي كراساتها، افترضت تيموانياج كريتيانس أن تكون السلطة الاستعمارية أمرت بإخراج الوطنيين من دار النقابات بنية القضاء عليهم، وأظهرت الإضراب العام الاحتجاجي على أنه فتنة موجهة ضد أمن وحياة الأوربيين، ولجأت إلى إزهاق أرواح المئات من المغاربة العزل. وإذا أسدلت هذه الحوادث الدامية ستار الحزن والحداد على جميع المغاربة، فإنها كذلك قدمت خدمة للقضية المغربية لدى الرأي العام الدولي في الأممالمتحدة التي كانت قد أدرجت المسألة المغربية في جدول أعمالها. [...] وكانت إستراتيجية الإقامة العامة ترمي إلى عزل السلطان والقضاء على المنظمات الوطنية، وإخراس وسائل التعبير. وبذلك ترسم الطريق لتطبيق المرحلة الثانية من الانقلاب الذي سيفضي إلى نفي صاحب الجلالة والعائلة المالكة يوم 20 أغسطس/آب 1953 إلى كورسيكا أولا ثم على مدغشقر. واستعمل المستعمرون نفس الأساليب كما فعلوا عام 1951 لتنفيذ المؤامرة، لكنهم هذه المرة ذهبوا حتى النهاية. وواجه الشعب وحده المؤامرة بالمظاهرات العفوية في مجموع المملكة مما أتاح الفرصة للقيام بقمع بشع، وسنقتصر على سرد مثال مدينة وجدة. فهناك استعملت المدافع الرشاشة لقصف مواكب المتظاهرين. وقدر المحامي شارل لوكران عدد الضحايا بألف قتيل (24) ووجهت تهمة القتل، وإشعال الحرائق والنهب إلى 96 شخصا، وقدموا أمام المحكمة العسكرية بوجدة التي أصدرت 19 حكما بالإعدام و11 بالأشغال الشاقة المؤبدة، و29 بمدد مختلفة. اختناق 14 معتقلا: اشتكى المعتقلون أمام محكمة وجدة من التعذيب الذي مورس عليهم أثناء حجزهم بإدارة الشرطة، ومن سوء المعاملة التي أدت إلى اختناق 14 معتقلا يوم 18 أغسطس/آب 1953 من بين أربعين كانوا متراكمين في زنزانة واحدة انعدم فيها الهواء والماء، وكان الجو في أوج حرارة شهر أغسطس/آب . وهذه الوقائع تُذكر الطيب بالكابوس الذي استبد به طوال أسبوع بإدارة الشرطة بوجدة في شهر يوليو/تموز 1948، بعد الأحداث الدامية بوجدة في شهر يونيو/حزيران من نفس السنة. وكان المعتقلون مكدسين في أقبية بدون ماء ولا مراحيض، وكان الماء يتصبب في الساحة الخارجية عن قصد دون السماح للمعتقلين بالشرب إلا مرة واحدة في اليوم. ويتزامن التعذيب النفسي والجسدي، حيث توجد غرفة التعذيب فوق الزنزانة لكي يسمع المعتقلون أنَّات وصيحات المستهدفين للتعذيب بالكهرباء، وبغطس الرأس في الماء، والتعليق من الأرجل، وتعويم الرأس في إناء يفيض بالبول، وغير ذلك. وحينما يعيد الجلادون ضحيتهم ملطخة بالدماء يرمونها على باقي المعتقلين الذين ينتظرهم دورهم في حصة التعذيب الرهيبة. ويمكن أن يتكرر هذا المشهد حتى مع أولئك الذين سبق تعذيبهم، إلى درجة أن البعض منهم كانوا يتمنون الموت ليتخلصوا من وضعيتهم المفزعة. وهذا ما يفسر الاعترافات التي يدلي بها المعذبون والمتعلقة بارتكابهم جرائم وهمية، ويفضلون أي مصير كيفما كان على ما يعانونه في إدارات الشرطة. وفي سجن الدارالبيضاء استقبل خبر نفي السلطان والعائلة الملكية بذهول شديد كما كان عليه الحال في مجموع البلاد. وترقب المعتقلون ما هو أسوا، ولم يبق أمامهم، لاستحالة القيام بأي عمل، سوى الصلاة وقراءة اللطيف. وهم المحكومون بالإعدام أن ساعة التنفيذ قد دقت. وبعد أيام وقف أمام مقصلة الإعدام عبد اللطيف بن قدور، حسن بن بدر، أحمد الحنصالي، ومحمد سميحة الذين كنا نلتقي بهم أثناء خروجهم للفسحة اليومية (25). وكان عبد الرحيم بوعبيد يقتسم نفس الزنزانة مع أحمد الحنصالي (26). وحينما كانوا يساقون إلى خشبة الإعدام مغلولي الأيدي والأقدام على الساعة الخامسة صباحا، ارتفعت أصواتهم بكلمات الوداع إلى بقية المسجونين في عبارات أخوية تهز المشاعر. وكانوا على قناعة بأن صفة المجاهد التي تحلون بها، ستمنحهم مكانة في الجنة. وبعد حين سيلتحق بهم شهداء آخرون برهنوا عن شجاعة نادرة مثل الراشيدي الذي رفض للجلادين تعصيب عينيه أثناء الإعدام بالعاذر، وصاح فيهم: "اتركوني أرى سماء بلادي الصافية لآخر مرة". وبعد نقلهم إلى سجن القنيطرة، حاول القادة السياسيون والنقابيون مواساة أبطال المقاومة المعتقلين الذين لاحقهم البوليس حتى إلى داخل الزنازن لانتزاع الاعترافات منهم. ولقد أكد التاريخ النضالي أن تضحية هؤلاء الشهداء وكذا المنفي الذي استهدف له صاحب الجلالة وعائلته لم تذهب سدى إذ سرعان ما تُوِّج كفاح الملك والشعب بالفوز المبين وبكل الانتصارات اللاحقة. المصدر: الطيب بن بوعزة، ميلاد الحركة النقابية العمالية الحرة بالمغرب. ترجمة عبد الله رشد، مطبعة دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، 1992، صص. 72-86. المصدر موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب الجزء الاول-المجلد الثاني. أكتوبر/تشرين الأول 2005. ?????الهوامش (1) كانت هذه الزيادة تصل إلى 100% لصالح الفرنسيين في بداية عهد الحماية. (2) جعل لابون حدا لمنفى علال الفاسي في الغابون، وأحمد بلافريج في كورسيكا، وأنهى الإقامة الإجبارية لمحمد بلحسن الوزاني في ايتزر. (3) شهادة ألبير عياش في كتابه "الحركة النقابية بالمغرب"، ج.2، ص.171، وكان عضوا في وفد منظمة س.ج.ت (C.G.T) الذي أتى إلى جرادة لإقناع المغاربة بالانضمام إلى نقابات أخرى لمواجهة هجومات الإدارة والسلطة. (4) وسيطرد إلى الجزائر بلده الأصلي. وفي سنة 1948 لقي نفس المصير أوعلي الكاتب العام لنقابات جرادة، والمتعاطف مع حزب الشعب الجزائري. (5) أغلب هؤلاء ومن بينهم الأستاذ ألبير عياش استهدفوا بالطرد من المغرب سنة 1945 بسبب نشاطهم النقابي. (6) هذا القائد لعب أيضا دورا مخزنيا على رأس القوات الاحتياطية في عهد المقيم العام لاكوسط. (7) تعرض الطيب إلى عدة مضايقات بجرادة سنة 1945 من طرف الشرطة التي استنطقته عدة أيام بشأن تلقين الأناشيد الوطنية للعمال. (8) سيلعب هذا المراقب السفاح دورا خطيرا أثناء أحداث وجدة الدامية في أغسطس/آب 1953. (9) لحسن ماهر وجد عملا في مستشفى موريس كَو ?ابن رشد حاليا? ونجح مناضلون آخرون في إيجاد شغل لهم داخل المصانع الكبرى. (10) الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي هو من أدخل نظام التعاونيات في المعامل بالمغرب. وترأس تعاونية معمل السكر المناضل المرحوم محمد أوليازيد. وحينما اكتشف الأمر طرد اليوسفي من المعمل بأمر من شينيبو مدير "مكتب الشغل المغربي"، غير أنه واصل كفاحه السياسي والاجتماعي في مدن الصفيح وغيرها من الأحياء الصناعية بصفته مسؤولا عن حزب الاستقلال في هذا القطاع الشاسع. (11) مناطق واقعة جوار جبال الأطلس المشهورة بمقاومتها للاحتلال الفرنسي (المترجم). (12) بهذه المناسبة تعرف لأول مرة النقابيون القادمون من الدارالبيضاء على المحجوب بن الصديق في محطة القطار بمكناس، وكان المهدي بن بركة هو الذي رتب اللقاء. وانضم المحجوب إلى الوفد الذي كان يتركب من صالح المسكيني، ومحمد التيباري، ولحسن ماهر، والمعطي الشرقاوي، وعبد النبي صدقي، والطيب بن بوعزة. (13) ضمن عمال مصنع السكر برزت عدة وجوه قامت بدور كبير في حركة المقاومة المسلحة أمثال الشهداء: إبراهيم اوليازيد، رحال المسكيني، محمد بن لحسن طوطو، محمد بن المكي، والنقابي البارز صالح المسكيني. (14) نفي صالح المسكيني إلى تالسينت رفقة المهدي بن بركة والفقيه الحمداوي وعمر أبو الطيب، ولم يستعد صالح حريته إلا في 17 ديسمبر 1954. (15) تابع المؤلف مجرى هذه الأحداث بصفته صحفيا رفقة المهدي بن بركة ومراسلين آخرين. (16) كانت السلطة الاستعمارية تنظم بمناسبة جميع التظاهرات العمالية أنواعا شتى من الاستفزازات والقمع. (17) كان الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد يحضر الاجتماعات النقابية الأسبوعية بمنزل الشهيد إبراهيم الروداني باسم اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. وتكلف بعده بنفس المهمة البشير بلعباس وعبد الله إبراهيم. (18) دانييل كَيران مناضل ضد الاستعمار ربطته علاقات صداقة بالوطنيين: محمد بلحسن الوزاني، أحمد بلافريج، عمر عبد الجليل، حينما كانوا يدرسون بفرنسا، وتزعم حملة لفائدة علال الفاسي في نداء تحت عنوان: "يجب إنقاذ الفاسي، المنفي في الغابون، تحت خط الاستواء، في مناخ قاتل". (19) قدر مركز الكاثوليكيين المثقفين الفرنسيين حصيلة حوادث يومي 7و8 ديسمبر/كانون الأول بالدارالبيضاء 1000 و1200 قتيل مغربي. (20) كان اسم عميد الشرطة بيير ?وارون مسجلا ضمن لائحة الإرهابيين الأوربيين الثلاثة عشر الذين ألقي عليهم القبض في يونيو/حزيران 1955، وأطلق سراحهم بعدم المتابعة لتساهل القضاة الفرنسيين معهم. (21) هناك اعتقل المحجوب بن الصديق ومبارك بن عمر والمعطي الشرقاوي. وهناك أيضا حجز البوليس مئات الدراجات الهوائية والنارية ومن بينها دراجة المؤلف. ولم يستردها أبدا مالكوها. (22) فيما يخص التهمة الأولى المتعلقة بالأمن الداخلي يشير الفصل 77 من القانون الجنائي الفرنسي في نفس الوقت إلى المس بالنظام الجمهوري. أما الإدانة الثانية فينص الفصل 80 على معاقبة كل عمل يمس بالأمن الخارجي للدولة الفرنسية وبوسع القارئ أن يتخيل أحلام الاندماج المسيطرة على عقول المستعمرين. (23) كان الطيب مضطرا للإجابة على جميع الأسئلة المتعلقة بوثائقه الشخصية وحتى عن تلك الوثائق المحجوزة في مقر النقابات بصفته كاتبا عاما للاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب. (24) دافع شارل لوكَروان عن الوطنيين المغاربة أمام المحاكم العسكرية الفرنسية، وروى الكثير عن حقد البوليس وعصابات القتلة الأوربيين في كتابه "العدالة وطن الإنسان" واستهدف لمحاولات اغتيال كثيرة. ونجا بفضل شجاعته وهدوئه وسلاحه. وطرد من المغرب يوم 18 يوليو/تموز 1955، لكنه عاد إلى المغرب بعد إلغاء قرار الطرد من قبل المقيم العام ديبوا. وخصص له المغاربة استقبالا حارا في مطار الدارالبيضاء. (25) كانوا متهمين بقتل أربعة أوربيين في حوادث 7 و8 ديسمبر/كانون الأول 1952. وصدر بحق ثلاثة منهم الحكمة بالإعدام وعلى اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وواحد بعشر سنوات ?ليكونوا مثالا لغيرهم?. واستبدل الإعدام الصادر على المتهم الثالث محمد بن إسماعيل بالسجن المؤبد بعد التماس العفو من رئيس الجمهورية الفرنسية من طرف محاميه، عبد القادر بنجلون الأمين المساعد لحزب الشورى والاستقلال. (26) لا تغيب عن الذهن حملة الاعتقالات الواسعة التي قادها سنة 1951 الجنرال بواي دولاتور بفرقة من الجيش والكلاب البوليسية لاعتقال الحنصالي "رجل تادلة" الذي زرع الرعب في قلوب المعمرين بالمنطقة. وانتقم الجيش الفرنسي من سكان آيت سعيد وقتل منهم العشرات بتهمة مساعدة الحنصالي.4 ورقة تعريفية انخرط الطيب بن بوعزة في النضال النقابي منذ بداية شبابه، وكان مقتنعا بدور الصراع الاجتماعي في مجال الكفاح الوطني وتعرض للاعتقال في سنوات 1945 1948 و1952 . وساهم الطيب في الوضع الأساسي للنقابة المغربية . تحمل عدة مسؤوليات، عمل سفيرا سابقا في الدول الإسكندنافية وفي غانا والبرتغال ويوغوسلافيا، كما مثل المغرب في مختلف المؤتمرات والهيئات الدولية . بن بوعزة من مواليد بركان سنة 1923 أنهى تعليمه الابتدائي وتابع دراسته بثانوية مولاي يوسف بالرباط . يقيم منذ سنوات في ضواحي استوكهولم، يتابع أخبار المغرب عبر الوسائل الحديثة يزور المغرب مرة في السنة. حاصل على وسام العرش من درجة ضابط