7 كثيرة هي الأحداث التي جعلتك منذورا لاقتراف جريمة البوح في حق وجود لا يزداد إلا حلكة ،ها أنت يأخذك الحنين إلى أول الرسائل الغرامية التي كنْتَ تُدبِّجُها تحت شعاع القنديل الذي سرقت من السوق الأسبوعي كي تضيء به عتمة العائلة المنذورة للعنة الحياة،أما ضوء الشموع المتهالكة في كل ليلة الله أعلم بمصيرها ودموعها الحارقة التي ذرفتها من أجل قلبك المسكون بها ،والذي تجرع سم البعاد وصلافة الفقر الذي كان يحيط بك من كل الجهات،لم يكن إلا مجرما في حق جسد نحيل لا يستطيع تحمل ثقل الغرام .إيه يا غرام الأمس كم كنت رحيما بنا ،إذ نداوي جراحاتنا بأغنيات عبد الحليم حافظ وأم كلثوم،ومحمد عبد الوهاب، ونجاة الصغيرة، هذه الأخيرة كانت تربك دواخلك،وتزلزل البراكين الخامدة في الأعماق ،بل أكثر من ذلك تحفزك على المغامرة لارتياد الليل وجعله خليلا يداوي الآهات المنبعثة من راديو صغير اقتنيته من بائع المسجلات في سويقة القرية،هذا الراديو الذي رافقك وصاحبك وكان كلما أحس بزلزال قادم إلا وازداد طربا وغناء يطاوح عنان السماء هناك قرب شجرة التوت التي ماتت كما مات الحب الأول على صخرة الحقيقة ،لكنك بقيت متشبثا بقشة الهباء،وبأمل العودة لكن كل الرهانات كانت خاسرة،وكان الذي كان ،الخيبة،وصدمة المحبة التي كانت قوية -على حد تعبير أغنية عبد الهادي بلخياط،كل ذلك كان شحنة لم تزدك إلا إصرارا على السير في متاهات كتابة مفعمة بالألم والوجع والحرقة،والغوص عميقا في بئر النزيف الحارق والخارق للأعماق. فبالكتابة تستطيع مداواة الجروح،جروح الوجود وجروح الجسد،وجروح القبيلة التي أَلَّبَتْ عليك المحن وزادتها ضراوة ،لكنك رغم القساوة كنت تحبها بشكل جنوني لا يعلمه إلا الله وقلبك المتلظي بنيران العشق.بالكتابة رَكِبْت رأسك الذي سبب لك العداوات مع الجهلة الذين لا يفقهون في المحبة والعشق شيئا،فثرت ضدهم ولم تخن رفيقة القلب،بل أصررت على مواصلة الطريق في الشعاب الصعبة،واخترقت أسوار اليتم لتعانق لذة النص ،أف أكنت تعرف لذة النص أم هو افتعال لفدلكة لغوية سرقتها ذات مطالعة من كتاب لذة النص لرولان بارت ،لا عليك أنت الآن هنا في هذا الخلاء الممتد صوب المجهول وحيدا تقذف ببصرك إلى هناك حيث السنديانة الوحيدة في القرية مازالت شاهدة على عبور أقوام وعشاق ومجرمين وسفلة وعظماء،وشواذ وتقاة ،ورجال وأشباه الرجال، ونساء ذليلات ونساء جليلات،تنظر إليها من بعيد ،من منفاك الإجباري ،وتلمح أناسا يحرسون القرية من إغارة الحياة،ويربون الموت بين الجنبات،ويستسلمون للعبث الوجودي،فيركبك اليأس واللاجدوى من قبيلة تكره الحياة وتساند الموت،لكن لا عليك مرة أخرى هي الحياة تاريخ وأسفار وشواهد وهزائم وانتصارت،سلم وحروب لا تحد ولا تنتهي،فرح وقرح،مآتم وأعراس،ولادة وموت.كل هذه الأشياء تجعلك تقرر أن تواجه التيار لوحدك غير أن التيار كان عنيفا،مدمرا ،لتجدك الخاسر الأكبر. الخسارة سيرة الحياة التي عانقتها منذ أن مجتك أمك من الرحم،لتواجه مصيرك في الحياة بمفردك،سلاحك البياض ولعنة الكتابة. 8 هي شرارة الحياة توقدت في شرايين قلب مفعم باليتم،ليجد نفسه متلفعا بمحبة الترحال عبر وهاد ذاكرة مترعة بالندوب والجراحات،حيث تحولت الحياة إلى جحيم لا يطاق،ومرثية أبدية لطفل مازال في مهد البحث عن الحقيقة التي سلبت منه والده الذي تكبد طوال عمره قساوة الوجود؛وعاش محنة وجودية يستحيل عليك وصفها بالصفات التي تليق ؛فهي فوق الصفات والنعوت نظرا لشراسة الحياة تجاهه ،فبالرغم من صلابة وقوة الجسد كان والدي ينهار أمام المواقف الإنسانية المثيرة للألم،وتعتقد أن الوالد أورثك هذا الداء الذي استشرى في شرايين الرؤية التي تتحكم في تصورك للحياة والوجود، فالنظرة السوداوية هي المبتدأ والخبر بالنسبة إليك لا تنفصل عن الإرث الأبدي. تلك حكمة الله في عبده هذه العبارة كانت تثير فيك السؤال تلو السؤال،وتحفزك على الإقامة في دهاليز البحث الدائم عن صياغة جوابية لسؤال محرق وحارق، سؤال وجود الأعطاب في الإنسان، من شقاوة ومحن ضاربة في العبث ،ونزيف لا يتوقف ،واحتراق يزداد اشتعالا،هكذا لم تكن داخل صف المهادنة بقدر ما التزمت صف الخارجين ؛في حين كنت تنقب عن الممكن،غير أن السفينة التي تقلك شاءت رياح الحياة إلا أن تقذفك إلى سواحل لم تكن في الحسبان،فظللت رهين غربة قاتلة،وأسئلة مثقلة بعبء اللاجدوى في عالم منذور للفظاعات،التي تعدّدت في الحروب والقتال والتدمير وسفك للأرواح،ومحو لذاكرة الحياة. فهذه السيرة الجريحة هي سيرة جيل آمن بالحب والعشق، والحلم بوطن مفتوح البصر والبصيرة، لكن ليل الخونة كان له بالمرصاد، فكانت الخيبة سيدة الإحساس.واللسان الفصيح بها، لم تكن مدركا حجم الخسارات التي تجنيها من شجرة الحروب التي خضتها ضد القبح والكآبة.