أصدر مجلس الوزراء العراقي الحزمة الأولى من القرارات المهمة في الجلسة الاستثنائية التي دعا إليها عادل عبد المهدي رئيس مجلس الوزراء، والتي عقدت الليلة الماضية استجابة لمطالب المتظاهرين وعموم المواطنين. وتضمنت القرارات فتح باب التقديم على الأراضي السكنية المخصصة لذوي الدخل المحدود والفئات الأخرى، واستكمال توزيع سبعة عشر ألف قطعة سكنية للمستحقين من ذوي الدخل المحدود في محافظة /البصرة ، وخلال فترة زمنية لا تتجاوز أربعة أسابيع، وإعداد وتنفيذ برنامج وطني للإسكان يشمل بناء مائة ألف وحدة سكنية موزعة على المحافظات، ومنح الأولوية للمحافظات والمناطق الأكثر فقرا. وشملت القرارات كذلك، تعزيز رصيد صندوق الإسكان من أجل زيادة عدد المقترضين وتمكينهم من بناء لوحدات السكنية على قطع الأراضي التي ستوزع على المواطنين وتضمين ذلك في موازنة 2020 وتكون القروض معفاة من الفوائد وفقا لقانون الصندوق. كما قرر مجلس الوزراء العراقي منح 150 ألف شخص من العاطلين ممن لا يملكون القدرة على العمل منحة شهرية قدرها (175000) دينار لكل شخص ولمدة ثلاثة أشهر. وأكد المجلس على إنشاء مجمعات تسويقية حديثة (أكشاك) في مناطق تجارية في بغدادوالمحافظات تتوزع خلال ثلاثة أشهر، على أن “يتعهد صاحب الكشك بتشغيل اثنين من العاطلين عن العمل لضمان توفير ما لا يقل عن 45 ألف فرصة عمل للمواطنين مع مراعاة إعطاء الأولوية لمن أزيلت أكشاكهم”. وتضمنت القرارات أيضا إعداد برنامج تدريبي وتأهيل العاطلين عن العمل، بالإضافة إلى توفير قروض لتأسيس المشاريع المتوسطة والصغيرة ، من خلال “صندوق القروض المدرة للربح في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، أو منحهم قروضا من خلال مبادرة البنك المركزي لإقراض الشباب والبالغة (ترليون) دينار”. وقرر مجلس الوزراء العراقي تقديم تعويضات للضحايا من المتظاهرين والأجهزة الأمنية وشمولهم بالقوانين النافذة ومنح عوائلهم الحقوق والامتيازات المترتبة على ذلك، وشكلت القرارات توفير وزارة الصحة للخدمات العلاجية للجرحى من المتظاهرين والقوات الأمنية “على نفقة الحكومة بما في ذلك العلاج خارج العراق إن تطلب ذلك”. كما قرر المجلس مناقشة الحزمة الثانية من القرارات المتعلقة بالإصلاحات، ومطالب المتظاهرين في الجلسة المقبلة، والاستمرار باتخاذ القرارات اللازمة في الجلسات اللاحقة. يأتي هذا في وقت تشهد/بغداد/ومدن عراقية أخرى مظاهرات منذ الثلاثاء الماضي، احتجاجا على تفشي البطالة وسوء الخدمات الحكومية، مما أسفر عن سقوط أكثر من 100 قتيل و4000 جريح. قطع الإنترنت لإيصال صوت المحتجين عبر اللجوء الى وسائل إرسال سرية وأساليب غير مستخدمة على نطاق واسع ورسائل خارجية باهظة الثمن، يحاول شبان عراقيون الالتفاف على عملية حجب الإنترنت التي أقدمت عليها السلطات العراقية لتضييق الخناق على الاحتجاجات الدامية. بعد انطلاق موجة الاحتجاجات الثلاثاء والتي أسفرت عن مقتل نحو مئة شخص منذ الثلاثاء في بغدادوالمحافظات، حجبت السلطات العراقية إمكانية الوصول إلى فيسبوك وتطبيق واتساب، قبل أن تقطع الإنترنت تماما الأربعاء، تاركة المتظاهرين بلا وسيلة تواصل عدا الاتصالات والرسائل العادية. ولكن ليس كل المتظاهرين! أحمد (29 عاما) هو أحد العاملين في إحدى الشركات المزودة للإنترنت والتي نفذت قرار الحكومة بقطع الإنترنت، لكن موظفيها ما زالوا قادرين على الدخول إلى الشبكة في مقر الشركة. يقول هذا الشاب لوكالة فرانس برس مستخدما اسما مستعارا خوفا من أي ملاحقة قانونية “أذهب إلى التظاهرات صباحا ، وأصور فيديوهات بهاتفي، ثم أعود إلى مقر عملي وأستخدم الإنترنت لتحميلها على فيسبوك او أرسلها لوسائل إعلام خارج العراق”. وأطلع أحمد فرانس برس على فيديوهات يخطط لإرسالها لوسائل إعلام أجنبية ليلا ، يسمع فيها إطلاق رصاص في شوارع شبه فارغة، فيما هو ورفاقه المحتجون اتخذوا من الكتل الاسمنتية ملجأ لهم. يقول أحمد “رفاقي يسلمونني المواد التي يصورونها على مفاتيح ذاكرة (يو أس بي) كي يتمكن الجميع خارج العراق أن يرى ما يحصل هنا”. قبل يوم الثلاثاء، كانت وسائل التواصل الاجتماعي منصة العراقيين للدعوة إلى التظاهر، خصوصا عبر فيسبوك وانستغرام، ضد البطالة والفساد والمحسوبيات وانعدام الخدمات الاجتماعية وغيرها. في اليوم الأول، غزت صور الرجال والنساء وهم يسيرون باتجاه ساحة التحرير الرمزية في وسط العاصمة، وسائل التواصل الاجتماعي، مع استخدام هاشتاغ “#نازل_أخذ_حقي”. وعندما بدأ حجب فيسبوك، تحرك العراقيون سريا لتنزيل تطبيقات ال”في بي أن” (شبكة افتراضية تتيح الاتصال بخوادم خارج البلاد)، وبدأ آخرون بنشر التفاصيل عن التظاهرات المرتقبة في قسم تعليقات شبكة “سينمانا”، وهو تطبيق بث برامج ومسلسلات ذو شعبية في العراق. وأقدم آخرون على استخدام وسائل اتصال بالأقمار الاصطناعية، وهي ذات تكلفة مرتفعة جدا ، من أجل التواصل مع العالم الخارجي. ولفت المحتجون إلى أن حجب الإنترنت هو محاولة لمنع نشر التقارير عن عمليات القمع التي تقوم بها القوات الأمنية التي استخدمت في صد المحتجين الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والرصاص الحي. قتل نحو مئة شخص منذ الثلاثاء في العراق، غالبيتهم من المتظاهرين وبينهم بعض العناصر الأمنية، وفق الإحصاءات الرسمية. يقول المتظاهر أسامة محمد (31 عاما) لفرانس برس “إنهم يحاولون مواجهتنا ليس فقط بالسلاح، بل بالحجب أيضا “. ويضيف “اعتدنا الاطلاع على كافة صفحات الفيسبوك للأحياء المجاورة لنا، لمعرفة وجهتنا للتظاهر. الآن نتبع صوت الرصاص فقط”. ولفت إلى أنه “في حال قطعوا الاتصالات العادية، سنصبح كالمكفوفين”. تعتبر الناشطة النسوية رشا (25 عاما) أن التظاهرات تشكل خطرا كبيرا عليها إذا ما شاركت فيها. لكنها مع ذلك وجدت طريقة أخرى للانخراط في الحراك. فيقوم رفاقها الشبان يوميا بتزويدها برسائل عبر الهاتف عن آخر التطورات في ساحات الاحتجاج على امتداد العراق، وتقوم هي بتحويل تلك الرسائل إلى أصدقائها في الإمارات وأوروبا. تقول لفرانس برس “أنا لست متمرسة. لا يمكنني التظاهر وحيدة، لذا فهذا أقل ما يمكنني القيام به”، مشيرة إلى أن رصيد الهاتف الذي اشترته على مدى الأيام الثلاثة الماضي، كلفها نحو مئة دولار يوميا. وتحتفظ رشا أيضا بفيديو وبعض المواد التي لم تنشر من إحدى التظاهرات الأولى التي شهدت عنفا ، وكان هي إحدى المشاركات فيها. تقول “يعتقدون أننا سننسى أنهم أطلقوا النار علينا، يعتقدون أن الناس لن تعرف. ولكن لدي فيديوهات، وسأنشر كل شيء رأيته لحظة عودة الإنترنت”. مثلها، جعفر رعد البالغ من العمر 29 عاما والعاطل عن العمل، يحتفظ أيضا بفيديوهات وصور التقطتها خلال التظاهرات التي شارك بها، لنشرها عند رفع الحجب. يقوم رعد أيضا بتسجيل رسائل صوتية على تطبيقات معروفة كواتساب وفيسبوك، من المتظاهرين أنفسهم، كي يتسنى لهم إرسالها إلى أصدقائهم في الخارج ولوسائل إعلام دولية، فور عودة الإنترنت. يشدد رعد لفرانس برس على أن “الناس يجب أن تعرف ما حصل. لذا، سنتمكن من محاسبة أولئك الذين يتحملون مسؤولية ما حصل”. الانتفاضات تقليد قديم في مدينة الناصرية الثكلى منذ عهد السومريين، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، تفخر ذي قار بأنها كانت على الدوام منطقة تأبى الخضوع. وحتى اليوم، وخلال أربعة أيام من التظاهرات الدامية، قدمت هذه المحافظة الريفية في قلب منطقة العشائر في جنوبالعراق العدد الأكبر من “الشهداء”. منذ الثلاثاء، من بين 34 عراقيا ق تلوا في الاحتجاجات وخلال التصدي لها، كان أكثر من نصفهم من أبناء هذه المحافظة التي تبعد 300 كيلومتر جنوببغداد. أما مركز المحافظة، مدينة الناصرية المحاذية لأنقاض مدينة أور القديمة، فهي “مدينة الثورات والانتفاضات، ولا تزال”، مثلما يؤكد بفخر لوكالة فرانس برس المعلق السياسي أمير دوشي، الذي يعيش في المدينة التي تعد أكثر من نصف مليون شخص. ويضيف المعلم ماجد العسمي الذي يشارك يوميا في التظاهرات “حتى وإن فقدنا شهداء، فسوف نستمر في الحراك طالما لم تلب مطالبنا”. ويضيف الرجل البالغ من العمر 45 عاما “أنا أشارك في الاحتجاجات منذ عشر سنوات وسنواصل الاحتجاج حتى سقوط النظام، حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة”. لطالما شكلت الناصرية معقلا تاريخيا للاحتجاج في العراق، وقبل ذلك في بلاد ما بين النهرين، كما يردد بفخر سكانها الذين يكرمون أسلافهم وفق ا لانتماءاتهم السياسية. وفي ذي قار، المحافظة الفقيرة ذات البنى التحتية المتهالكة أكثر من أي مكان آخر في العراق، يبدو الاختيار محرجا ومرتبطا بالتقلبات والمنعطفات التاريخية. في عام 1928، أنشأ فيها الحزب الشيوعي العراقي أحد أول فروعه في العراق. وعندما سقطت الملكية في عام 1958 في انقلاب دموي وتولى حزب البعث الحكم، كان من بين مؤسسيه الرئيسيين فؤاد الركابي، أحد سكان ذي قار البارزين. حزب الدعوة، العدو اللدود لصدام حسين، الذي اعتلى السلطة بعد سقوطه في عام 2003 ، شارك في تأسيسه أيضا أحد أبناء ذي قار. كل هذه الأحزاب، يقول الأكاديمي حامد الشاطري، وهو من سكان الناصرية، لوكالة فرانس برس “خلقت وعيا قويا بين الناس تجلى في العديد من الانتفاضات”. وقبل ذلك بكثير، في عشرينات القرن الماضي، كان أهل المحافظة في طليعة الانتفاضات التي قام بها شيعة الجنوب ضد الاستعمار البريطاني لما كان لا يزال يعرف باسم منطقة ما بين الرافدين. ثم، في عام 1991، عندما نهض الجنوب مرة أخرى مع الأكراد، ألقت الناصرية بنفسها في المعركة. ويقول الشاطري نفسه إن سكان ذي قار لطالما “انتفضوا في وجه الظلم”. واليوم، وفي حين تعم الاحتجاجات العراق للمطالبة بتوفير الخدمات العامة اللائقة وحل مشكلة انقطاع الكهرباء وتوفير المياه الصالحة للشرب بعد عقود من المعاناة، لم يهدأ نشطاء ذي قار في تنظيم الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات. وفي المحافظة التي يعيش أكثر من 40% من سكانها تحت خط الفقر، يدفع العوز إلى الاحتجاج، يضاف إليه تقلبات الطقس بين الجفاف والفيضانات المدمرة للمحاصيل في حين يشكل العمل في الزراعة مصدر دخل لمعظم سكان المحافظة. هنا، يقول راضي المعروف المسؤول في الحزب الشيوعي في الناصرية “الفقر والبطالة يتصاعدان” وفي المقابل “ليس لدى الحكومة سوى الوعود ولا توجد حلول” تقترحها. ولهذا السبب، يضيف المعروف “يعرض الشباب هنا صدورهم” للرصاص الذي أطلقته الشرطة منذ يوم الثلاثاء لتفرقة التظاهرات. ويواصل قائلا إن حياتهم “مجرد موت بطيء، الرصاص أرحم”.