تأكيدنا على استحالة الديمومة بدل القول باستحالة اللقاء المباشر، يعود إلى اقتناعها بمحدودية المراتب والمقامات التي يمكن أن تفضي إليها المجاهدات والمكابدات بالواقف،طبعا على ضوء ما تمدنا به مواقف النفري من إشارات -سنتوقف عندها لاحقا -. علما بأننا لن نتجرأ على التهوين من شأن هذه المقامات، مادامت تفضي إلى مقام المجاورة بما يتضمنه من دلالة القرب واللقاء، لكن في نفس الوقت دون أن نكلف الواقف ما لا طاقة له به، عبر تأويل سنن التجاور بما يجعله مشاركا لصفات المطلق الذي يظل في جميع الأحوال من وراء الوقفة الجوار غاية ووسيطا من بين الأسئلة الشائكة التي تؤرق بها الوقفة النفرية مريديها،تلك التي تخص علاقة المطلق بالواقف والتي كرستَ لها الفصل الثاني منجزِك الهام « الصوفية والفراغ» حيث عشتُ معك متعة و قلق استغراقكَ الكبير في مداراتها، كما عشت إلى جانبك حلمك المضمر بتجريد السوى من جبروت حضوره،أملا في تجاوز الواقف لحاجز استحالة لقائه المباشر مع المطلق،على ضوء فوزه بهبة مجاورته التي يُحتملُ أن تجود عليه بحظوة هذا اللقاء ،على أساس ارتقائه إلى مقام مشاركته وتقاسمه لصفاته،إلى آخر ما ورد في هذا الفصل القيم من تتبع مرهف وعميق لإشكالية اللقاء التي لا يسمح التزامنا الرمزي بقانون الكتابة عن الوقفة -كما هو مثبت في عملك - بالمغامرة في تقديم أي اختزال عشوائي لها، لذلك سأكتفي من جهتي بتقديم بعض الاقتراحات التي لن تتعارض من حيث المبدأ مع أطروحتك، بقدر ما ستساعدنا معا ربما ،على فتح مزيد من المسالك المحتملة للبحث والمساءلة.من ذلك مثلا، توسم ما يشبه الفرق بين الدلالة المعجمية والمتداولة للجوار، وبين دلالته الموظفة عادة في الخطاب الصوفي، على أساس قراءته في الحالة الأولى ضمن سياق العلاقات الإنسانية المتضمنة بشكل أو بآخر لفعل التقاسم والمشاركة، حيث سيكون الجوار بهذا المعنى سببا/ وسيطا /سوى، كما سيكون أداة لتحقق فعل التشارك والتقاسم البشري ، بخلاف الحالة الثانية المجسدة في الوقفة،والتي سترتقي فيها منزلة الجوار كي يصبح غاية في ذاته، وليس وسيطا لبلوغ أية غاية أخرى،وخاصة منها مُنية تقاسم الواقف مع المطلق لصفاته ،سيما وأن القول بتشارك الصفات يفيد حتما وجود ذاتين متشابهتين، وهو ما يتنافى مع مبدإ خطاب الوقفة . وحتى في حالة تبنينا لفكرة تشارك وتقاسم الصفات بين الذاتين ، فإن هذا التبني يتم على أساس تنعُّم الواقف بفيض صفات المطلق وليس بالصفات ذاتها،أي بالفرع وليس بالأصل،وهو ما يعرضه باستمرار لطائلة المغادرة،وذلك بالنظر للتصدعات اللانهائية التي لا يتوانى السوى عن الدفع بها في طريقه،من أجل إدامة انفصاله عن»الحق». الإقامة في ظلال الاستحالة العظمى وفي السياق ذاته،يمكن الإشارة إلى أن تحلي الواقف على سبيل المثال لا الحصر، بميزة «الاستخلاف « و»الأمانة « إلى جانب غيرهما من القيم الصمدانية التي يسبغها المطلق عليه، كما هو الشأن بالنسبة إلى الخاتم، لن يكون سببا موضوعيا للارتقاء به من بشريته إلى مقام المشاركة والتقاسم . ذلك أن هذه القيم، وغيرها مما يرد في مختلف الوقفات النفرية ، تظل -على أهميتها الكبرى في استكمال شروط الوقفة- مجرد مقامات من مقامات رضا المطلق على الواقف،والتي تؤهله إلى الفوز بمنة الجوار الذي يحمل دلالة اللقاء ، وهو أقصى ما تطمح الوقفة إلى بلوغه والفوز به ،علما بأن اللقاء وإلى جانبه القرب يختلفان عن مفهوم «اللقاء المباشر» الذي لن يتحقق إلا إذا اعتقدنا في إمكانية تواصل ذاتين إلهيتين تتقاسمان الصفات ذاتها . إذاك فقط يمكن الحديث عن الاستحالة العظمى التي تتعذر على أي كان إمكانية الإقامة في ظلالها،مما يجعلنا نسلم بكونها استحالة تقع خارج مدارات الوقفة وليس داخلها. الوقفة واستحالة الفراغ من الكون إن الاستحالة الطبيعية التي تبدو في نظرنا حاضرة بشكل فعلي داخل فضاء الوقفة، هي استحالة ديمومة المجاورة ، التي تعني استحالة ديمومة الوقفة ،كما تعني استحالة ديمومة الفراغ من الكون ، وبالتالي استحالة ديمومة اللقاء بالمطلق. تأكيدنا على استحالة الديمومة، يفيد إمكانية تحقق الوقفة ضمن حيز زماني قد يطول قليلا،و قد يقصر، تبعا لما يتمتع به الواقف من قدرة على مضاعفة مكابداته ومجاهداته بهدف إجهاض كل سلطة يمكن أن يمارسها وجه ما من وجوه السوى من أجل الإخلال بطقس الوقفة ، وإكراه الواقف على فك ارتباطه بالحق . تأكيدنا على استحالة الديمومة بدل القول باستحالة اللقاء المباشر، يعود إلى اقتناعها بمحدودية المراتب والمقامات التي يمكن أن تفضي إليها المجاهدات والمكابدات بالواقف،طبعا على ضوء ما تمدنا به مواقف النفري من إشارات -سنتوقف عندها لاحقا -. علما بأننا لن نتجرأ على التهوين من شأن هذه المقامات، مادامت تفضي إلى مقام المجاورة بما يتضمنه من دلالة القرب واللقاء، لكن في نفس الوقت دون أن نكلف الواقف ما لا طاقة له به، عبر تأويل سنن التجاور بما يجعله مشاركا لصفات المطلق الذي يظل في جميع الأحوال من وراء الوقفة ومن وراء الصفات. ومهما حاولنا التخفيف من حدة حضور الاستحالة ، عبر تحريف مسارها كي ننأى بها عن مدار حلمنا بمشاهدة ما، فإنها وخلافا لمشيئة تأويل / تآويل ما ،تأبى إلا أن تجدد حيوية وشكل حضورها ،كي تستدرجنا من جديد للخوض في ما يبدو أننا لم ننتبه من قبل إلى تمظهره الهادئ بيننا . حيث تتحول الاستحالة إلى محرك أساسي من محركات الوقفة ، بل أكثر من ذلك يمكن القول ،بانتفاء أية إمكانية للحديث عن الوقفة بدون إذن من الاستحالة ، أو بتعبير آخر، لا مجال للحديث عن الوقفة بدون استحضار مركز الثقل فيها ، وقلب مدارها النابض المترجم في حرائق الاستحالة . فماذا لو حاولنا تقليب بعض وجوهها ، أملا -دائما- في تحقيق الحد الأدنى من رهان الدنو؟ طرس الوقفة سنبادر الآن بطرح سؤال ذي طبيعة جد إشكالية، ويتعلق الأمر بالخصوصية الرمزية للطرس الذي انبثقت منه نصوص المواقف.إذ كيف أمكن للنفري أن يكتب عن تفاصيل وقفة لا قبل للواقف بتذكر أو استعادة ما دار في ألطافها؟مادامت الوقفة تستلزم ضمن ما تستلزمه الغياب المطلق للسوى ،بما يعنيه هذا الغياب من فناء الحواس وذهاب العقل، والفراغ من كل دليل معرفي أو فكري يمكن أن يوظف من أجل تدوين ما تمت رؤيته ومعايشته ؟لذلك فإن تقيدنا بالتحذيرات التي يوجهها الحق للواقف على امتداد نصوص المواقف ،هو ما سيستحثنا للتسليم بكون هذه النصوص ليست سوى ضرب من الاستعادة المستحيلة لما يستحيل استعادته، وليست سوى تشخيص مستحيل لمحاورات وقفة يستحيل تشخيصها. وبالتالي، هي كتابة مستحيلة عن تجربة يستحيل تدوينها أو كتابتها، كما هو الشأن بالنسبة لمحاكاة الصاحي لحالة السكر التي ستظل دائما في حكم الاستحالة الحقيقية، وفي حكم محاكاة وهمية لحالة هي أبدا متكتمة على جوهر أسرارها.ولأن الحالة هي ما عليه الآن أمامي- أنا على الأقل-هل لك يا نفري، أنت يا صفي الاستحالات العالية أن تخبرني بأية ذات من الذاتين كتبت ما كتبت ؟ هل كتبت الوقفة من أجل التأكيد على استحالة الفوز بها؟ أم كتبتها في أفق الارتقاء بالذات من دونية السوى إلى مقام الوقفة ؟ هل كتبت الوقفة من أجل تمجيد السوى من حيث هو الحجاب القادر على تغييب المطلق ؟ أم كتبت الوقفة من أجل التأكيد على استحالة تحقق كينونة المطلق خارج كينونة السوى ؟ ثم من أين للواقف أن يتخلص من السوى ، مهما تجاهل حقيقة كونه ليس أكثر من سوى، بالرغم من انتمائه إلى خاصة الخاصة ؟ أم تكون قد كتبت الوقفة فقط من أجل تفكيك القلاع الاعتبارية التي يتحصن فيها العلماء والفقهاء وأهل النظر،إلى جانب الإعلاء من شأن الجهل باعتباره الحد الفاصل بين علم ممكن وآخر قد ينهض من قلب الاستحالة؟ قل يا نفري من أي طرس اندلق حبر وقفتك ؟ أو بالأحرى لذ بصمتك الرمادي كي نصغي إلى ما تقوله الحيرة ، ومجموع ما يستهويها من إبدالات تليق بها كما تليق بك أنت أيضا. مؤقتا سننسى هذه الأسئلة ، لنهتدي مجددا بعمانا في اتجاه المدخل المنزه عن أبوابه، والمحروس هو أيضا بأسئلة تستهويها متعة المراوحات في قلب المفارقات والأضداد ،وحيث بهاء السوى يتربص بسقوطك أينما حللت. سنقول على سبيل الاحتمال بإمكانية الحديث عن مسارين متباينين -وقد يكونان متكاملين - لمقاربة النصوص النفرية ، أحدهما يتقدم إليها باعتبارها كتابة وسيطة هدفها التعبير عن مضامين تجربة روحية بالمفهوم الصوفي للكلمة ، في حين يتوجه المسار الثاني إليها بصفتها كتابة تستقل عن كل ما يتواجد خارجها من خطابات ، لتأخذ بالتالي شكل فضاء نصي قائم الذات، تستضيف نداءاته القراءة كي تمارس فيه متعة انفصالها ، أو بالأحرى قطع علائقها كما يقول المتصوفة بكل سوى أو سبب محتمل ، حيث القارئ مطالب بأن يكون صاحب مقام ، كي يحظى بالإقامة في النص دونما حاجة إلى علة تذكر،وحيث سيكون على القراءة أن تتهيأ للسفر في أقصى أقاصي النص عبر منازلة ما يتأجج ويصطخب فيه و به من أحوال ،من أجل رفعها و إخلاء فضاء الكتابة من أسبابها. إذ لا سبيل لمشاهدة نور الكتابة النفرية إلا بالغيبة عما عداها من كتابات ومقاربات، وخاصة منها المقاربات الكبرى التي سبق أن تناولتها بالدرس والتأويل، والتي أمست بفعل ما تتمتع به من سلط رمزية إلى حجاب تتعثر معه كل مغامرة مغايرة بطرح أسئلة جديدة على خصوصية كتابتها. كما أن لا سبيل للتطهر بنور كتابة الوقفة إلا بعد بلوغ حالة مثلى من الصفاء الخالي من ممازجة الطبع ومماحكة العقل .صفاء لا يتحقق بمعزل عن تحير، هو جماع يأس من المشاهدة وطمع دائم فيها ،كما لا يتحقق بمعزل عن جلال حيرة جارفة لا تستكين إلى دلالة جاهزة ، ولا تستجيب إلا لما هو دهش كله ،حيرة تحجب أنوار الكتابة عن عين القراءة كي تجدد تأليبها على هذه الحجب . هناك حيث يحضر باستمرار خطر الضياع بين محاولة استكناه تجربة الوقفة وبين تجربة الكتابة بها، وحيث يتأكد أن مكابدة قراءة كتابة الوقفة، لا تختلف عن مكابدة الواقف، وأن أفق كل قراءة مغايرة يقتضي الفناء في تضاعيفها بانتظار فانين جدد . موسيقى الكتابة بالوقفة إن انقطاع كتابة الوقفة النفرية إلى البحث عن مطلقها المتخفي، يجعلها تتلذذ بتمنعها واحتجابها هناك حيث هي، محتمية بنأيها عن التداول المشترك، ومتجددة بتجدد ما توهم بكشفه الحجب الحاجبة للمطلق، ومنصرفة إلى توزيع تقطعاتها بين تتالي بدايات ونهايات لا نهاية لصيرورتها، في أفق استشرافها لرؤية من سيظل حضوره ملتبسا بالتباس شروط احتجابه وشروط تجليه . وفي قلب هذه المراوحة القدرية تتنامى حركية موسيقى كتابة الوقفة، متجهة بجموحها صوب تجسيدٍ ميتالغويٍّ للتجربة وهي تكتب الفناء بالفناء المستمد من جوهر الليسية الذي ما من ليس قبله أو بعده . بمعنى ، رسم حركة الانتقال المتتالي بين الأحوال المنذورة لزوالٍ وذهابٍ يكون مآل كل تذبذب فيه إلى احتراق . وبما أن الكتابة هنا تغري القراءة /التأويل بالسير خارج حدودها، فسيكون من الضروري الاهتداء بذلك البصيص الخافت من النور الدلالي الذي لا يُرى إلا بعين أصفياء القراءة. أو بالأحرى السعي إلى ترويض الذات على تلقي ما تؤلفه موسيقى الكتابة من تنزيلات دلالية،وهي مستسلمة لتلون أحوالها،ومنازلتها لما يتوزع على مسالكها من مقامات تنمحي في رحابها تلك الفروقات المبثوثة بين علوم الحرف ، وبين غيره من العلوم الضدية التي تضعك في وقفة علم لا ضد له ، وفي وقفة جهل لا ضد له ، وفي شهود وجود لا يتسلل عدم إليه .إنها موسيقى يتتالى في تضاعيفها بقاء معزز بتتالي فنائه ، كما لو أنها أنفاس متقطعة تمنح دورة الحياة والموت توازنها الصعب .فثمة نفس يسود، مقابل نفس مغتبط بعبوديةٍ تتلمس طريقها إلى من يحظى بحقانيته وسيادته . وبين ضفتي هذه العلاقة ذات الطابع الحواري توسع الكتابة محيط انسيابها لتكتب في لا تناميها ما لا ينكتب، بعد أن تعذر قول ما لا ينقال ،هناك فقط ينفلت كل من الحرف والعبارة من دائرة القول لينصهرا في دائرة كتابة أخرى هي كتابة الوقفة. وبالنظر إلى تواري ظل الكاتب ،واحتجاب هويته المرجعية، سيكون مطلق هذه الكتابة هو المتحكم في مشهد المحاورة ، هو من يفتح مسالك الكلام ، و هو من يوزع أدوار الصمت والنطق والإنصات،ومن يكون الحق والخلق،الممكن والمستحيل. لموسيقى كتابة الوقفة هذه ، نورها الخاص الذي يمكن أن تهتدي به القراءة إلى الكشف عن كيفية انكتابها ، بما هو كشف ضمني عن دلالة الوقفة بالكتابة. كما أن الاهتداء بصوت هذا النور، سيحيلنا على قوة إنصات منفصل تماما عن سؤال إعادة بناء النص الحاضر بقوة في سياق كتابات أخرى تختلف طبعا عن كتابة الوقفة ، مادامت إعادة البناء تقترن بإعادة إنتاج نص مغاير للنص المفكك ،وهو ما لا يمكن أن تسمح به كتابة الوقفة ، وذلك من منظورنا إليها كنص ذي بنية موسيقية ، سيؤدي أدنى تغيير بسيط في جملها إلى تفريغها من هويتها ومن خصوصيتها ، لأن البناء الموسيقي شأنه شأن البناء التشكيلي لا يقبل الاختزال ، كما لا يتقبل فكرة تحويله إلى مجرد حقل مفاهيمي لصياغة منظومة فكرية ما .وبغير قليل من المخاطرة سنشير إلى أن النطفة المركزية التي يتشكل فيها كل من روح وجسد موسيقى كتابة الوقفة ، هي عبارة «وقال لي «حيث تصبح معها كتابة القول، كتابة لقول آخر، يقتضي سماعا آخر. إنه القول المكتوب والمرفوع فوق مقام القول، و فوق مقام السماع، وفوق مقام الكتابة. قول هو مصدر التظهير والتنزيل لترانيم كتابة تشق مسالكها الشائكة، والمحفوفة بمزالق السوى باتجاه مطلقها. (*) مقتطف من مؤانسات نفرية رفقة الصديق خالد بلقاسم.