يبدو لي الشاعر نور الدين الزويتني من فَصيل أولئك الشعراء المحلّقين خارج السّرب، والذين يصعب تصنيفهم جيليا وشعريا.. لأن تجربته الشعرية تتأبّى هذا التصنيف وتبدو كأنها عابرة للحساسيات الشعرية الحداثية- المغربية، ومخترقة لها في آن . كأنّها مع الشعر وضدّه في آن. وقصيدته لذلك مشاغبة باستمرار، لا يقرّ لها قرار . قصيدة مُنْفلتة تتحرك خارج الحدود المرسومة، باحثة عن مواطن الدهشة والإدهاش . والشغَب الشعري الجريء- والجميل هو النهج الذي اختاره وارتضاه الشاعر لبوْحه الشعري والشعوري، عن استراتيجية شعرية واعية بصنيعها، حين اختار أن يَشْغب، منذ البدء، على تقاليد الشعر وأعرافه قديمها وحديثها، ويخلق لنفسه طُقوسا خاصة لقول الشعر لا تنسج على منوال أو مثال.. وإن كنتُ أزعم أنها قريبة ومُحاذية لطقوس القصيدة الغربية منها لطقوس القصيدة العربية، علما بأن الشاعر قارئ جيد للنصوص الغربية، ومترجم جيد لبعض نماذجها وعلاماتها. وللنصوص الغائبة دائما، «حضور» في النصوص الإبداعية وجِينَات ملقّحة لها. لكن ذاكرة/ ذائقة الشاعر نورالدين الزويتني عرفت كيف تعجن نصوصها الغائبة وتلْحَم بين مراجعها ومواجعها، لتُعلن شغبها الشعري الخاص على الشعر والحياة، ويأسها الحَانق من الشعر والحياة . نقرأ في قصيدته (لا أمل لا طائل) من مجموعته الشعرية «قلب الثلج»: – (لا أملَ لا طائل أيها الشاعر، فقط اضبط ساعتك على موعد سقوطك ولا تكنْ هاملت ولا المجنون ولا حتى جوزيف برودسكي التي تشبه سحنته قصائدك الأخيرة فصدور الموتى الشعراء تعاني نوبات سعال لا تطاق).. لكن مع هذا اليأس من الشعر والحياة، يُواصل الشاعر هذا الإدمان الجميل على قول الشعر. فهو يأس خلاق يقاوم شراسة العالم بالشعر، وهو أعزّ ما يملك. بشعر طلْق متحرّر من الكيمياء البلاغية للشعر، منطلق على رسله وسجيّته لا يلوي على شئ، ناحِتٍ كيمياءه الشعرية الخاصة. ولغته لذلك، مقتصدة ناتئة ملغومة، بصرية ومشهدية، تأمّلية وثقافية. يلتحم الثقافي بالشعري في نصوصه، سواء عبر رموز وعلامات ثقافية دالة من التراث الإنساني العالمي، أو عبر تمثّلاته الشعرية- الاستعارية لنصوصه الغائبة ومخزوناته المرجعية، وهي في الأغلب الأعمّ غربية السلالة . كما يلتحم السردي بالشعري في نصوصه، ويصيران وجهين لعملة واحدة. فهو شعر نازل إلى الأرض، ليقفو ويجْلو أوجاع الناس وشجونهم وأحلامهم على هذه الأرض. الأرض الخراب، بتعبير إيليوت. ذلك ما يتجلّى في نصوص مجاميعه الشعرية الصادرة حتى الآن: (القربان والملكة) ، (قلب الثلج) ، (كيف تظل شاعرا بعد 2012). والعنوان الأخير بخاصة، عنوان على الشغب الشعري والشّجْب الشعري . ولتبيان هذين الملْمحين في شعره/ الثقافي والسردي، وتبيان حضور النص الغربي في ذاكرة الشاعر، نستحضر المقطع التالي من نصه «اليد والورقة»: – (في العربة المجاورة يسهر خمسة من الأشباح أكبرهم شخصية إيرلندية في قصة لجيمس جويس والآخرون عابرو سبيل في صفحات للوفيات في جريدة قديمة كان الجميع يسمرون حول زُجاجتيْ خمر رخيصة اقتناهما الإيرلندي العجوز بقطع نقدية اختلسها من مصرف بدبلن..» من مجموعة (قلب الثل ). كأنّي أقرأ في هذا المقطع شكلا من «المثاقفة الشعرية» وعزْفا غرْبيا على وتر النص العربي- المغربي . كأنّي أقرأ نصا شعريا مترجما . كأنّي أقرا أيضا، ومْضة قصصية أو قصة قصيرة جدا. في جميع الحالات، نقرأ شغبا شعريا جميلا .