عتبة تأطيرية يعتبر ديوان «شاهدة الأحبة» للشاعر إدريس علوش من الدواوين المميزة في موضوعها. صدرعام 2012 عن دار النشر النايا /دار المحاكاة بدمشق /سورية من القطع المتوسط ،لوحة الغلاف من إنجاز Majdal_Bek يضم بين دفتيه أربعة عشرة قصيدة. ينتمي الشاعر إلى جيل الثمانينيات حيث شرع في الكتابة وهو تلميذ بأصيلة ، المدينة التي عشقها حتى النخاع وتشرب عبقها التاريخي وملوحة محيطها اللجاج . تنتمي الكتابة الشعرية عند إدريس علوش إلى جنس أدبي أثار ويثير مزيدا من الجدل حول مسألة التأصيل والتأثيل النظري في تربة التراث الشعري العربي ،ونعني به قصيدة النثر ، بما هي أفق شعري مفتوح على سؤال الإبداع والمعنى منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي في المشرق العربي كما في المغرب العربي الكبير. وبغض النظر عن السجال البوليميكي الذي عرفته قصيدة النثر حول مسألة شرعية الميلاد العربي من عدمه ،ودون أن أدخل في التفاصيل التي من وجهة نظرنا باتت مكرورة وممجوة لعدم تجاوزها أفق نقاشها الذي حصر انبثاق قصيدة النثر ، سواء في اعتبارها دخيلة على التراث الشعري العربي وهي النظرة التي يصدر عنها جل النقاد المحافظين الأرثودوكسيين الذين اختزلوا شعرية القصيدة في الأوزان الشعرية الخليلية المقولبة والمنمطة في رتابة الحركات والسكنات بمفهومها العروضي ،وهو مما يجعل الشعر نظما ليس إلا (قدامة بن جعفر ابن قتيبة ابن طباطبا المرزوقي)تمثيلا لاحصرا. أو في امتياحها من التراث الشعري الغربي عن طريق الترجمة والنقل حينما اهتموا بنصوص بروتون ووإلوار وبودليروإيف بونوا وجاك دوبان وأندريه دي بوشيه وإدوارد مونييه وسان جون بيرس. وقد تأثر جيل الخمسينيات من رواد الحداثة الشعرية مع إنسي الحاج وأدونيس وعباس بيضون وسيف الرحبي وأمجد ناصر وسركون بولس وأحمد بنيس وغيرهم بكتاب سوزان برنار الموسوم ب» قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا هذه «الصادر في أواخر الخمسينيات القرن الماضي ،وأورد هنا نصا تقعيديا لهذه الظاهرة الشعرية كما نظرت لها سوزان « كلية التأثير والمجانية والإيجاز « ص151 (قصيدة النثر: من بودليرإلى أيامنا.ترجمة زهيرمجيد مغامس،دار المأمون )بغداد ط 1994. وبالمناسبة لنا تعليق على المكون الأخير كمحدد من محددات قصيدة النثر، ونعني استبداله بالكثافة حيث الإيجاز موجود حتى في الشعر الموزون وبالتالي ليس خاصية يعتد بها ،وتبقى قصيدة النثر عصية على التحديد الصارم لطبيعتها التكوينية مما دفع بسوزان إلى القول ب» أن الشروط العضوية لقصيدة النثر مضاعفة: فهي الشكل الشعري لفوضوية محررة في صراع مع القيود الشكلية وكذلك نتيجة لإرادة تنظيم فني يسمح لها أن تتخذ شكلا وتصبح كائنا موضوعا فنيا «ص 289 . وإذن فإن قصيدة النثر مدمرة لكل الأرساف والقيود التي تكبل حريتها لحظة انبثاقها تحدد شروط انوجادها تحفر مجرى إبداعها كمثل الماء الذي يجري وخلال تدفقه يحفر نهره .ولم يحد أدونيس في بدايته عن التصور الذي صدرت عنه سوزان برنار متبنيا إياه حرفيا حيث يقول في كتابه «مقدمة للشعر العربي» ص121 « تتضمن القصيدة الجديدة ،مبدأ جديدا ،الهدم لأنها وليدة التمرد، والبناء لأن كل تمرد على القوانين القائمة ،يجبر ببداهة ،إذا أراد أن يبدع أثرا، أن يعوض عن تلك القوانين بقوانين أخرى كي لا يصل إلى اللا عضوية وإلى اللا شكل. فالموقف الذي عبر عنه أدونيس لا يعدو أن يكون مجرد ترجمة حرفية لموقف سوزان دون أدنى أصالة تنظيرية ،غير أنه بعد ذلك سيغير موقفه بحيث سيبحث عن شرعية قصيدة النثر داخل التراث الكتابي العربي ولعله وجدها في كتابات المتصوفة كابن عربي والطوسي وفريد الدين العطار وفي رسائل إخوان الصفا ومقابسات أبي حيان التوحيدي ولما لا ،كما يذهب بي الظن إلى ما قبل الإسلام مع سجع الكهان والأحبار ؟ وصفو القول في هذا المقام أن ما تحقق من إنجاز كتابي منشور على مدى الوطن العربي ، وضمنه مكتوب ومنجز الشاعر إدريس علوش، قد فرض وجوده كظاهرة شعرية آخذة في الانتشار ليس بديلا عن القصيدة العمودية أو ذات التفعيلة وإنما كإمكان شعري يتيحه الشعر نفسه بوصفه أفقا غير مغلق ولا محدود،فقصيدة النثر تحقق شروطها الإبداعية أثناء إنجازها خالقة الدهشة والمفارق من الاعتيادي البسيط الذي يتدثر به الواقعي . تيمة الموت في شاهدة الأحبة الوالج لأول وهلة إلى محراب ديوان «شاهدة الأحبة «يستوقفه عدد المرات التي تواردت فيها لفظة الموت ،سواء بالتصريح أو التلميح أو بما كل ما ينتمي إلى حقلها الدلالي ،وقد جردناها في تسع وثلاثين مرة ،علاوة على ذلك فجل قصائد الديوان رؤوسها مكللة بالموت على نحو لافت . فما علاقة الموت بالشعر؟ سؤال أنطولوجي. فالكتابة بما هي أثر، تبقى صامدة في وجه الزوال /الغياب، وكأن الشاعر يريد قهر الموت بالسخرية منه،فهو أي الموت، يغيب ذوات الأحبة لكن الكتابة الشعرية تروم تخليدهم مما يفسره الإهداء الذي صدر به إدريس علوش الديوان :»إلى أناس عمروا الأرض ذات لحظة وانسحبوا .» لعل الديوان قبض على الوجود الزائل في خلايا الكلمات على مدى الرقعة الطبوغرافية لهذه المجموعة الشعرية . الموت عند إدريس علوش ليس هولا كما يمكن أن يتوارد عند الكثيرين ،بل هو لحظة انتقالية أقوى وأبهى من الموت كما في نص أهداه الشاعر إلى شاعر آخر: كلمات أخرى إلى روح الشاعرأحمد بركات … ماذا لوتخلت الروح برهة عن الجسد وأثقلت كاهله بالغياب..؟ كأنها القصائد إذا تسامر دهشة العمر في كتاب…؟ ولأنه الشاعر الذي اختار دوما أن يفضح العالم بدواليب الكلمات شاكسه الموت مرة وظلت قصائده لمرات أقوى من حكمة الموت .ص 52 و53 إن الموت قسمة عادلة بين كائنات الديوان ،إنها العدالة التي افتقدت جوهرها الاجتماعي الطبقي في عالم الناس ،ليجعل الشاعر منه مشتركا بين موت الميكانيكي أو المعطل أو موت الموظف أو ماسح الأحذية أو الكولونيل أو الشاعر أو الجار أو الفلاح أو البحار أو الجد ،فالغياب والانحجاب عن الوجود العيني يوحد الذوات في الانحجاب وغير خاف أن الموقف الإيديولوجي الثاوي الذي يصدر عنه إدريس علوش لا يحتاج إلى جهد، بوصفه شاعرا ومثقفا عضويا يساريا ينافح عن قضايا إنسانية كالحرية ،والكرامة والديموقراطية والاشتراكية ..إلخ . و ارتباطا بشروط كتابة قصيدة النثر كما حددتها سوزان برنار،وهي على أية حال ، تبقى جد نسبية، لما أومأت إليه سالفا من ألا شروط قبلية محددة تسبق بشكل صارم ميلاد قصيدة النثر، فهي تتحدد لحظة انبثاقها الأنطولوجي في إيقاعها الخاص، مع ذلك نتوسل ببعض الثوابت المشتركة كالكثافة والمجانية والسردية. ففي نموذج قصيدة النثر لدى الشاعر إدريس علوش تعن لنا منذ الوهلة الأولى درجة التكثيف وضغط الصور والإيحاءات من خلال اختزال الزمن في امتداداته إلى برهة كمثل ما يترجمه هذا المقطع : لحظات وكان الخبر أنه من تعب ..مات ترك القلم والورق والدولاب وتوسد التراب..من قصيدة /موت موظف /ص 42 أنموذج آخر يجسد حضور عنصر الحكي مكونا وظيفيا بنيويا داخل النص يشترط نثرية القصيدة حتى لا تخرج عن تجنيسها الأصلي إلى نوع أدبي آخر ينتمي إلى عالم القص والرواية، إذ الحكي يفاجئ حيث لا يمكن التوقع، يتخلل كل خطاب وإن كان صامتا ، غير أن قصيدة النثر وهي إذ تتوسل بالحكي لا تعول عليه في البدء والمنتهى، وإنما توظفه لتصعيد الشحنة الشعرية في ما تنثره من صور. جاء في الديوان ص 93، قصيدة «موت عائشة « كان لها بهو الدروب وعراء الأزقة متى تشاء .. .. .. كان لها برد الفصول وشراسة الصقيع ومواسم الشتاء .. .. .. .. كان لها سفر التعب وشرفة العمر في البهاء. إن اتكاء الشاعر على الناسخ الفعلي (كان) يشي ببداية الحكي وتسريد ملفوظه الشعري ، مستغلا التكرار لازمة تضيف إلى النص موسيقاه الخارجية من جهة وآلية للتوليد الدلالي والشعري إلى نهاية القصيدة. إن هيمنة تيمة الموت في الديوان بكل هذا الإصرار ليست إلا رغبة لا شعورية في إرادة الحياة وهو ما تفضحه القصيدة الأخيرة الموسومة ب (إرادة الحياة ) وإن كان إدريس علوش أهداها بشكل مفارق إلى موته، وهو ما ذهبت إليه سوزان برنار عندما اعتبرت من إحدى خصائص قصيدة النثر الإدهاش والمفارق الذي تجسد بكل وضوح من خلال النص السالف الذكر فلنمعن الإنصات إليه : كل شيء يوحي بقفر الحياة أشلاء الكتب مراثي الأحبة قبو الحانات معول الأنقاض كل شيء في خابية (أو قبر) حالات قصوى من الصمت موتي ، وهلاك الأرصفة. ومع ذلك فإن هذا الموت ليس يشبه موت أحد، فكل القرائن تدل على شعريته التي انتقصت من أهواله وجعلت منه محطة وجودية بامتياز تعانق الحياة في عز توهجها وعتاقتها من عتاقة دالية عزاء الشاعر ضد قسوة الزمن وطاحونته، فهو يرضع الحياة من ثدييها جرعة جرعة كي لا أقول قصيدة قصيدة أو ليس القائل : .. غسق الأشياء ، وامرأة هي كل العزاء…ص 102 إذا كانت الشعرية تتأسس على الخرق والانزياح /بارط ،جون كوهن تمثيلا لاحصرا ، فإن شعرية الموت تحققت من خلال الانزياح في آخر الديوان الذي تميزت كل عناوينه بالاحتفاء بالموت إلى أن وصلنا آخر قصيدة في هذا المتن الشعري ليكسر الشاعر أفق الانتظار مرتين، وبشكل حذق وذلك بعنونة القصيدة بإرادة الحياة ومفارقة ذلك بالإهداء المخصص لموته أي حياته المستمرة عبر الأثر الأدبي بالمعنى البلانشي وليس عبر الجسد الفاني في الزمان والمكان .