يعرف المغرب موجة كبيرة من شعراء اختاروا الكتابة الشعرية عبر نمطها النثري، بلغة تعتمد على الانزياح والتشظي والجمع بين أعناق الأضداد، كما تتأسس قصيدة النثر عند الناقدة سوزان برنار التي حاولت أن تقعد لهذه القصيدة منذ ظهورها. إلا أن هذه الموجة تتعدد الأصوات داخلها وتتقارب وتتباعد، عبر كتابات شعرية يحاول كل شاعر أن يصوغ العالم بلغته الخاصة. عزالدين بوركة واحد من هؤلاء الشعراء الذين كما يسميهم النقد الجديد حينما يحاول التنظير لهذه الموجة الجديدة ب»شعراء الحساسية الجديدة»، هذه الحساسية التي كما توصف «واضحة الخطاب ومنتمية للذاتي واليومي». أصدر عزالدين بوركة ديوانيه «حزين بسعادة» ( عن دار ابن رشد-مصر 2016) و»ولاعة ديوجين» (عن مؤسسة الموجة الثقافية-المغرب 2017). عرفت الكتابة الشعرية عند هذا الشاعر انتقالا من ديوانه الأول إلى الثاني، تغيرا ملحوظا في الاشتغال على الصورة الشعرية والقصيدة لديه، من حيث توظيفه للرموز والاشتغال على اليومي والذاتي والصوفي والسريالي… حزين بسعادة: أو اللغة المكثفة يعتبر الشعر أولى الفنون إلى جانب الرسم (على الكهوف) التي حاول الإنسان عبرها التعبير عن نفسيته ويومه ومجتمعه.. وقد عرف هذا الفن تطورا كبيرا بلغ به الحد إلى التخلي عن الإيقاع الصوتي والغنائية وتعويضه بالتكثيف في الصور والتخييل وغيرها من الأدوات الشعرية واللغوية التي صار الشاعر ملزما بكتابة عبرها قصائده اليوم… أسكن اللغة ولا أكف عن الهروب. (ص 56) في ديوانه «حزين بسعادة» الفائز بجائزة شيماء الصباغ (2016) لعب هذه الشاعر على «القصيدة الومضة» داخله، إذ جاءت القصائد في غالبها مكتوبة عبر مقاطع قصيرة أو قصائد من مقطع واحد. إذ تمتاز هذه القصيدة بالتكثيف في اللغة والصورة الشعرية مما يجعل منها من أصعب الكتابات الشعرية. اللغة عزلة نقيم داخلها وخارجها (ص 54). إلى جانب الكتابة الومضيةK فإن الديوان امتاز بالسرد الشعري عبر حضور صوت الشاعر من خلال أفعل المضارعة (ضمير المتكلم): (لا أفعل /أدخل /أتأمل /أحبها /أكتب…)، وياء المتكلم (يغادرني / سواي /والدتي…) أو ضمير المتكلم المنفصل (أنا متشرد…)، بالإضافة لأسلوب التوازي إذ عمد عزالدين بوركة إلى بدء مقاطع قصائده بكلمة (الجدار- ص 11، والدتي-ص 48، الضوء- ص29، الريح- ص26) أو جملة (على باب الجامعة- ص 44)، تُعاد في كل مقطع: والدتي. والدتي امرأة تشرق في كل الليالي وتحبك ** والدتي. والدتي معجم تستضيء الكلمات بنوره. (ص 48-49) امتاز هذا العمل الشعري بحضور بارز لشخصيات يؤثث بها الشاعر قصائدها ويجعلها العمود الفقري لها (غزلان، سعاد، امرأة، الأطفال، استاذة الفيزياء، جهان…) إذ تدور القصائد على طول كتابتها العمودية حولها. كل هذا ويبرز الجانب الصوفي داخل الديوان رغم كونه ليس حاضرا بقوة، إلا أنه يبرز بوضوح، خاصة ونحن نقرأ عنوان قصيدته «حضرة- ص 37» وقصيدة رؤيا- ص 64» وقصيدة «نون- ص32» هذه القصيدة التي استهلها بمقولة الصوفي الشهير ابن عربي «كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه»، إذ تحضر الذات الإلهية كدال شعري يعطي للقصائد نفحتها الصوفية، هذا إلى جانب الاشتغال على ثنائية «الله /الشيطان» كما الحال في قصيدة «انفلات- ص 40». ويظل الحزن بصفته دالا شعريا، وحالة نفسية، فكما يرى ابن قتيبة بكون الشعر تعبيراً عما في رقعة النفس وليس محاكاة يقصد منها إلى الإثارة والتعجيب، هو الخيط الناظم بين كل قصائد هذا الديوان، الحزن باعتباره أداة شعورية يوظفها الشاعر بوركة كنوع من الرؤية الذاتية تجاه العالم الخارجي عن الذات الشاعرة: أنا متشرد كطفل يُطل على حديقة العالم دون أن يمسه شيء وحزين. (ص 56). ولاعة ديوجين: الكتابة بين الذات والرؤية المغايرة يأتي ديوان «ولاعة ديوجين» الصادر عن منشورات مؤسسة الموجة الثقافية، ثاني دواوين الشاعر والناقد عزالدين بوركة، ليضع مسار هذا الشاعر في زاوية شعرية مغايرة، ويُكمل ما بدأه في ديوانه الأول، الذي عرضنا له آنفا. في هذا الديوان اشتغل عزالدين بوركة على الصورة عبر مركبات صوفية وسريالية، إلا أن الفلسفة في تمثلها اليوناني هي الخيط الناظم بين هذه القصائد: أفلاطون الوحيد من فهم الآلهة … أما نحن فما زلنا نسكن في عقل سفسطائي بدائي. (ص 23) اللغة في هذا المنجز الشعري، تأتي باعتبارها كائنا حيا ينبض بالحياة، فجعلها الشاعر متقلبة الأوجه ومتعددة الأدوات عبر الاشتغال المتعدد عليها، إذ حاول الشاعر اللعب على الإيقاع الداخلي عبر تناسق الكلمات وتناغم الجمل، والصور الشعري: إني هشّ وهادئ مثل فراشة استوائية من العهد الطباشيري متحجرة في مكانها. الآن أنا لا أملك سوى قلب لا يليق لشيء. (ص 26) حاول الشاعر في ديوانه «ولاعة ديوجين» أن يشتغل على ثنائية «الشاعر /البهلوان» و»الشاعر /النبي» و»الشاعر /الذات»: كل شاعر بهلوان… أما أنا فخنفساء تلعب بروث كلمة (ص 24) وغيرها من الثنائيات التي جاءت القصائد غنية بها، هذا إلى الجانب اللعب على المتقابلات الصُوَرِيّة أو عبر المفردات، هذا الأسلوب الذي يقوم على مبدأ التضاد بين المعاني والألفاظ والأفكار والصور من أجل غايات بلاغية وفكرية. إذ لا يخلو نص إلا ونجد داخل تقابل: صوب نحو حياتك، بلا تردد كن شجاعا، لتصيرا شاعرا هذا إن أخطأتك الرصاصة. (ص 12) وما محو كلمة سوى إحياء لأخرى (ص 15) هذا ويسود الديوان أسماء عدة لأعلام من فلاسفة يونانيين ومفكرين وكتاب وصوفيين (ديوجين، أفلاطون، سقراط، كافكا، الدالاي لاما، ديميكريتيوس، بروميثيوس، ديبوسي، كورتاثر…) مما يطبع على الديوان غناه الرمزي والأسطوري، الذي يجعل من القصائد ذات طابع سريالي وصوفي في آن، هذا إلى جانب تلك التراكيب الجملية التي يحاول عبرها الشاعر تصوير رؤياه حول العالم والذات في نفس الوقت.