في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي «. أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ « التواطؤات « الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟
في بيت موريسكي في هندسته، كبير وشاسع الأطراف، بمدينة القصر الكبير بدرب سيدي الخطيب المحاذي لسبعة رجال بحي باب الواد، كانت أول صرخة لي في ليلة ساخنة من صيف سنة 1960، على يد القابلة حليمة، وكانت تلك الليلة الموعودة، تجربة مخاض لامرأة، كادت تفقد حياتها، بسبب ولادتي وهي أمي المرحومة الطاهرة المصمودي، التي احتضنتني وسهرت على تربيتي صحبة إخوتي (عبد الرؤوف وفوزية الطود) من الوالدة بعدما توفي زوجها الأول الفقيه محمد بن عبد القادر الطود، وبعدما انفصلت عن أبي السي احمد الزكاري الملقب بالدكالي، الذي كان متزوجا بامرأة أخرى دون علم أمي. ازددت في بيت راق، لما كان يحتويه من الزخرفة، التي كانت تزينه من زليج ملون، وأبواب كبيرة وعتيقة منقوشة بالطريقة الأندلسية، ومكتبة كبيرة، وأثاث تقليدي ك (السرير بسلالمه وأركانه النحاسية، وآلة البيانو بشموعه النحاسية كذلك والهاتف…) في فترة يصعب الحصول على مثل هذه المواصفات في البيوت المغربية العادية، مما كان له تأثير واضح على توجهي الفني، بالإضافة إلى عشق والدتي وممارستها للطرز الرباطي الذي كانت تتقنه جيدا، باختيار ألوانه وأشكاله الجميلة. كانت مهنة الأب فلاحا، من قرية دكالة الموجودة بدار الجديدة المحاذية للالة ميمونة على طريق مولاي بوسلهام بالغرب، وكان من الأوائل في المنطقة من يملك شاحنة لنقل البضائع لمزاولته كذلك مهنة التجارة، كما كان من حفظة القرآن ويعزف على آلة الوتار حسب ما حكي لي، التقى بوالدتي الأرملة الشابة بشاطئ مولاي بوسلهام، حيث كانت العائلات القصرية في الخمسينيات وأواسط الستينيات تقضي استجمامها الصيفي هناك، نظرا للحرارة المفرطة التي كانت ولا زالت تعرف بها مدينة القصر الكبير. ومن ذلك الوقت عشت مع والدتي إلى آخر أيامها رحمها الله، وكان ارتباطي بها ارتباطا قويا، حيث كنت أرى فيها الحاضن والساهر على تربيتي وتكويني الدراسي. لم أنتبه لعدم وجود أب بالمنزل، فكنت أرى فيها الأم والأب في آن واحد، نظرا لعنايتها المفرطة بتربيتي، إلى أن بلغت سن السادسة، عندما زارنا بالبيت قريب وهو السي عبد العزيز الشلي رحمه الله، ونبه والدتي لضرورة تسجيلي بالمدرسة، فكانت أول تجربة دشنتها مع الدراسة بمدرسة (رأس الدائرة) سنة 1966، بحي سوق الصغير، لكن الصدمة كانت قوية على طفل فتي لا علم له بمجريات الأحداث، وبداية من تلك الفترة سأكتشف بأن إسمي هو الدكالي عوض الطود، وكأنني كنت أعيش كابوسا استيقظ من نومه، ليفرض واقعا مغايرا. لم أكن أعرف بوجود الأب، إلا بعدما انهمرت الأسئلة حول مكانه وسبب غيابه، كأي طفل فقد بوصلة الوجود. مرت الأيام والسنين في هدوء دون الحديث عن هذا الموضوع، إلى أن بلغت سن الخامسة عشرة بعد الانتقال من قبل، إلى مدينة المحمدية رفقة أختي فوزية التي تحملت جزءا كبيرا من مسؤوليتي هي الأخرى، إلى جانب زوجها السي بوغالب العسري، الذي عين في أواخر الستينيات كمعلم بمدرسة الفشتالي بالعاليا في نفس المدينة، حيث كنت أرى فيه الأخ والأب الذي عوضني عن كل ما يتمناه ابن من والده، سهر على تعليمي وعاملني معاملة الإبن لأبنائه، فلم أحس يوما بالتهميش أو سوء المعاملة، لما كان ولازال يتصف به من هدوء وحكمة، وكرم، وطيبة القلب، وتربية راقية…، اعتبرته جراء هذه المعاملة الطيبة، أبا حقيقيا، فتأثرت به وبخصاله وحبه للناس ولعمله، مما كان له انعكاس إيجابي على تكويني، وتوجهي في اختيار اهتمامي، ومساري الفني. ففي الفترة الانتقالية من الإعدادي بإعدادية العقيد العلام إلى ثانوية الجولان بالمحمدية، كان من الضروري، الحصول على عقد الازدياد، بعدما كنت أتسلمه من (مقدم الحومة) بالقصر الكبير، فتوجهت يوم التسوق بسوق الأربعاء، لأطلب من أبي البيولوجي، نسخة من عقد الازدياد، فانتظرته بخيمة تجارية لأحد أعمامي ممن كنت على صلة بهم، فانتظرته إلى حين قدومه، ولما حضر لم أتعرف عليه، إلى أن أخبرني عمي عبد المجيد، بأنه هو والدي، فكان لقاء عاديا، لم يتمكلني (وهذه حقيقة مرة)، أي شعور صادق بالأبوة، وكأنني أمام إنسان غريب، فكان اللقاء سريعا، وطلب مني الانتظار ببيت عمتي زروالة بالقصر الكبير إلى حين أن يلتحق بي ليسلمني شهادة الولادة، فكان ذلك، بعدما وبخته عمتي عن غيابه عني طيلة هذه المدة منذ ولادتي، ثم افترقنا في سلام، لكن المفاجأة التالية، هو أن عقد الولادة لا يحمل الإسم العائلي الذي تداولته منذ البداية وهو (الدكالي)، بل إسما آخر هو (الزكاري)، فكان من الضروري على إثره تغيير كل الأوراق الرسمية. مرت السنين، وحصلت على شهادة الباكالوريا في بداية الثمانينيات، فكان اللقاء الثاني، عندما عزمت مواصلة الدراسة الفنية، فتوجهت إلى نواحي دكالة بالغرب، على إثر زفاف عائلي لألتقي بوالدي قصد مساعدتي للسفر إلى فرنسا قصد الدراسة، فسلمني مائة درهم، فكانت صدمة قوية أخرى، فبادرته بطريقة سلمية تركت في نفسه أثرا واضحا، خاصة عندما أهديت ما سلمني إياه لأهل العروس علانية، طبقا لتقاليد الأعراس بالبادية. فكان آخر لقاء به قبل وفاته، الذي حضرته فقط لأجل مراسيم الدفن، والحكاية طويلة. لذلك، وختاما، العلاقة التي كانت تربطني بوالدي، هي علاقة بيولوجية فقط لا غير ما عدا حب دفين واحترام، بينما العلاقة التي تربطني حاليا بإخوتي من والدي، وهذا هو الجميل، هي علاقة تتجاوز ما هو بيولوجي، وكأنني عوضت كل هذا الحرمان من خلال ارتباطي الوطيد بهم، هذا الارتباط الذي تسوده المحبة والأخوة الحقيقتين، كعزاء لذكرى تناسيتها، لكي لا يكون لها تأثير على المواجع التي واجهتني في طفولتي، لتبقى هذه الحكاية شاهدة على مرحلة ما من حياتي، تشبه كنموذج مشاهد من نماذج الدراما الهندية (ههههههههههه).