هناك أمر لا بد أن ندلي به كشهادة من خلال احتكاكنا وقربنا من أعضاء الفرقة الرائدة ناس الغيوان، لولا عمر السيد لما استمرت الغيوان، هذه النقطة مهمة في مسار الغيوان، أعلم أن عددا من المحبين وعشاق الظاهرة يتبرمون من عمر ولهم حكم مسبق عليه.. هنا لابد أن أدلي بما صرح به المرحومان العربي باطما وعبدالرحمان باكو، لكن قبل ذلك كله علينا أن نستحضر بأن عمر كان هو اليد اليمنى لبوجميع فيما يخص أمور تدبير المجموعة، لذلك جعله وبموافقة باطما رئيسا للفرقة، وهذا أمر لم يسبق بشأنه أي خلاف طيلة مسار ناس الغيوان وهذه نقطة ذللت الكثير من العقبات أمام المجموعة، فعمر محاور جيد وله دراية بالأمور الإدارية بالإضافة إلى شخصية قوية يعرف كيف يدافع عن المشروع الغيواني، دون كبير ضجيج خاصة إبان السنوات إياها، ودوره كان كبيرا في إشعاع الغيوان وجعلها تتخطى معيقات المنع، ومحاولات التشتيت التي استهدفتها كما استهدفت مجموعات أخرى.. ذات يوم من سنة 1995 دخل علينا العربي باطما كعادته إلى قاعة تحرير جريدة “الاتحاد الاشتراكي” وقصد مكتب الأستاذ حسن نجمي، وهو المكتب الذي كانت هيئة تحرير الجريدة تتحلق حوله عادة لتبادل النقاش حول مايجري حزبيا وثقافيا وفنيا وغيره وهي”التجمعات”، التي لم تكن تخلو من القفشات والمرح والاستمتاع بنجمي وهو يحكي أو يطلق العنان لحبال صوته مطلقا مقتطفا غنائيا مكسرا به أي رتابة محتملة، لذلك فمعظم ضيوف وأصدقاء هيئة التحرير من أساتذة وكتاب ومثقفين وغيرهم كانوا يقصدون في الغالب مكتب نجمي بشكل اوتوماتيكي، فحوله تجد المرحوم المسناوي والدكتور وساط ولحسن العسبي وعاهد والنحال وادريس البعقيلي وأريري واجماهري والعراقي وأيضا حفيظ ولبشيريت في فترة اشتغالهما ب”الاتحاد الاشتراكي” ولبداوي وبنداود وغيرهم من الصحفيين، كان نجمي يضع على حائط المكتب صورة صدرت مؤخرا لمجموعة ناس الغيوان في تلك الفترة، كان المرحوم العربي يأتي في تلك الفترة للقاء نجمي حيث كان يستعد لإصدار كتابه الرحيل، وكان نجمي مرجعه في وضع التصور، حيث كان يتشاور معه كثيرا بهذا الخصوص، بحكم تجربة حسن والمكانة التي يحظى بها في الساحة الثقافية المغربية حتى أن نجمي هو من اختار دار النشر توبقال لتقوم بالطبعة الثانية للرحيل بعدما كانت الطبعة الأولى قد صدرت عن دارالنشر الرابطة، بإشراف موليم العروسي وادريس البعقيلي وبوجمعة أشفري، وفي الحقيقة وهذا مايجب ان يعرفه عشاق الظاهرة، أن الأستاذ حسن نجمي كانت له أفضال كبيرة على هذا اللون الغنائي، ويكفي أن نذكر أنه هو صاحب فكرة التوثيق للأغنية الغيوانية التي أيده فيها بشكل كبير لحسن العسبي الذي كتب تقديمات عديدة للسلسلات التي كنا من خلالها نوثق لمسار الاغنية الغيوانية، كما أن نجمي هو من خط الرسائل المبعوثة للديوان الملكي للتدخل لعلاج الشريف المراني، وكذا سي محمد باطما الذي كانت له مكانة خاصة عند نجمي، وكان وراء بروز الغيوان في عدد من وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، لعل آخرها هي قناة الجزيرة في برنامج ممنوعون، إذ هو الذي رتب للحلقة وأعدها بمعية طاقم الجزيرة، وقد كانت هذه الحلقة من الأسباب التي جعلت القصر يتدخل على خط الحالة المادية لأفراد مجموعة ناس الغيوان… مجمل أعضاء المجموعات تعرف الأدوار التي لعبها الرجل لصالح، الفن الغيواني وعلى رأسهم مولاي عبدالعزيز الطاهري ومحمد الدرهم وبزيز ومحمد سوسدي ومحمد باطما والشريف لمراني وعمر والعربي باطما، الذي قال عنه في حوار مطول في جريدة “النشرة” لسان حال الشبيبة الاتحادية أجراه معه الصديق الصحفي والشاعر سعيد عاهد”حسن مجلوق بحالنا” ووقف هنا على اعتبار أنه يعتبره واحدا من أفراد المجموعة . أذكر مرة أن العربي دخل مباشرة إلى القاعة وهرول مسرعا نحو الصورة وأشار بأصبعه لوجه عمر والتفت عند نجمي وهو يردد” كون ماكانش هذا والله لا بقات الغيوان” حتى أنه أخذ صورة مع الصورة تلك وهو يشير بأصبعه لعمر .. سألت العربي بعدها عن الأمر، فأوضح لي بأن أفراد الغيوان”صعاب ومزاجيين،لأنهم فنانا مبوهلين ومن الصعب ضبطهم وقد اختار عمر أن يتنازل عن جنون الفنان، ليدبر جنون فنونهم وقد تفوق في ذلك بشكل كبير، وجعل الغيوان تصل إلى ما وصلت إليه، فحينما تتحدث عن الغيوان فإنك بصدد معلمية وأعني معلمية في مجال تخصصهم فعلا ومن أمهر العازفين الذين عرفتهم الساحة الفنية أضف إلى ذلك أنه ميازني قل نظيره، وله عالمه الخاص الذي يعيشه وعليك أن تراعي مكانته فلو كان إنسانا عاديا لما قدم تلك الأنغام وطريقة العزف تلك دون الحديث عن الطريقة الخارقة لضبطه للميزان، أما عبد الرحمان فيعد من لمعلمية المقتدرين في عالم تاكناويت والتعامل معه يتطلب وضع هذه المكانة في الحسبان، دون أن ننسى أن الرجل مجدوب فعلي، بل هو يعزف للمجدوبين .. وعمر عرف كيف يسير هذه الأهرامات ويتقبل أهواءها…” نفس السؤال طرحته على عبدالرحمان فكان رده”صحيج آبا عروب كون ماشي عمر مايزيدش هادشي، الغيوان جمعات غير الفنانة المبوهلين صعيب باش يقبلو للي كان يسيرهم، علاه شكون هذا للي بغى يقول للعربي هاش خاصك دير أو ها للي غادير، خاصك تكون مصطي بزاف الى بغيتي تسير العربي او علال وهادي ما يقد عليها غير عمر …كم مرة أحسسنا بالملل وقررنا التوقف وكم مرة فكرت شخصيا في ترك المجموعة والاكتفاء بعالم تاكناويت، وكم مرة قال لي العربي هادشي طلع لي ف الراس غنرجع للمسرح ونبعد ع الغيوان، لكن في كل مرة تجد أن عمر هو المنقذ والمحفز على الاستمرار فعند وفاة بوجميع أحبطت الفرقة برمتها ولم نكن نعتقد أننا سنستمر، وكنا نظن كما ظن الجميع أن المشروع الغيواني انتهى بموت بوجميع، إلا أن عمر حفزنا نحن الذين لم نستسغ بعد موته واستسلمنا للشتات، وأكد بأنه إن كان هناك من وفاء للرجل فهو الحفاظ والدفاع عن مشروعه”. عمر السيد كان طيلة مسار المجموعة يتحمل كل الأثقال وعليه أن يصرفها بشكل لا يسبب أي مشكل لأعضاء الفرقة، ومن يعرف عمر سيقنعك بأن الرجل أصبح ضليعا في فهم السلوكيات والنفسيات، لكن مايثيرك فيه هو الضحك وأعتقد أن عمر كان سيكون لولا الغيوان من أعتى فناني السخرية، وهذا الجانب ساعده كثيرا في عملية تذليل الصعاب أمام الغيوان.ولمعرفة كيف كان عمر يدبر أمور الغيوان اخترنا الفصل 16 من سيرته الذاتية التي نشرناها عبر جريدة “الاتحاد الاشتراكي” قبل عشرين سنة، يقول عمر: كانت لنا علاقة خاصة مع الجمهور يميزها التجاوب والتفاهم وكان معظم منظمي الحفلات في حال كان هناك هيجان وسط الجمهور، يلجأون إلينا لأن لغتنا معه هي ذات عمق مشترك.. نحن الآن في سنة1976 المكان بلجيكا، حيث سنقيم حفلا فنيا كبيرا بقاعة”فوريستيي”ببروكسيل، القاعة كبيرة جدا والحفل أعد له بطريقة احترافية فوق العادة من خلال توفير إمكانات وتقنيات ومعدات من مستوى رفيع، وكان قد اشرف على التنظيم سي ابراهيم أوناصر، القاعة كانت مليئة بأزيد من 5000 متفرج، جاؤوا من كل مدن بلجيكا والدول المحيطة بها، لحضور الحفل الذي سنقيمه رفقة الثنائي بزيز وبازأي أحمد السنوسي والحسين بنياز، وقد توزعت على أرجاء القاعة حسناوات بلجيكيات، يحملن صورنا وأسطوناتنا..افتتحنا الحفل بأغنية”سبحان الله” وقبل أن ننهي مقطعها الأول فإذا بباكو يدخل في جدبة غير متوقعة متقدما أعضاء المجموعة وحاملا السنتير بيد واحدة، وظل يرقص إلى أن بدأ يصيح صياحا غريبا، فهمت أنه مأخوذ بالحال، وفي الواقع لم يسبق أن رأيته يصيح ويرقص بتلك الكيفية، اقتربت منه لأعيده للغيوان، لكني لم أستطع واعتقد ان سبب حالته تلك كانت هي وفاة بوجميع، ذلك أن الجراح لم تندمل بعد… تدخل طبيب عاد الى حالته الطبيعية، لكن بعد دخول الطبيب عنده سيطلبني رجال الأمن وبعض الأصدقاء من المنظمين لأقابلهم على جنب، فأخبروني بأنهم تلقوا مقابلة هاتفية، تقول بأن هناك قنبلة تحت الخشبة، فخيروني إما أن أبلغ الجمهور بطريقتي وننهي الحفل وهنا ستكون مشكلة، إذ أنك ستخلق الهلع وسط آلاف البشر أو نستأنف العمل لإعطاء الفرصة للمختصين للبحث عن القنبلة الملعونة، وهذا هو الاقتراح الذي وقع عليه اختياري، دخلت الخشبة والخوف يهز كل مفاصيل جسمي، لكن علي ألا أظهر شيئا يبعث على الشك، كنت أغني وفي نفس الوقت أغتنم الفرصة وأقصد رجال الأمن وأسالهم”فين وصلتو؟”لاحظ العربي ارتباكي فهو يفهمني جيدا فأخذ يسألني”هادو علاش كايقلبوا؟ وانت مالك ع غادي جايعندهم؟ لم أجبه على أسئلته قبل أن يسأل من جديد”وت الى كايقلبو ع الحشيش قولها؟” أردت تمويهه قلت له ربما يبحثون عن شئ آخر ..العربي الذي لم يهضم أجوبتي ظل يراقبني رغم اندماجه مع الغناء، فهو يعرفني جيدا وأنا وهو نتقن لغة العيون، كانت العادة في سهراتنا عند اقتراب ختام الحفل أن يلتحق بنا بزيز وباز ويشاركوننا الغناء ومن تم نودع الجمهور، ولأن الخوف تمكن مني كثيرا وتضاعف ارتباكي، إذ في كل لحظة أقول مع نفسي” هاهي غ تهز دابا” وتمر في مخيلتي صور الخشبة وأطرافها تتطاير ولما ينظر إلي العربي أقول “مافراسك والو آصحايبي نمشي ت نقوليك غ تشير علي بدوك لعواد”، لما زاد ارتباكي ناديت على بزيز وباز كي يلتحقا بن قبل الوقت المحدد، فالتفت العربي إلي من جديد وسألني لماذا أسرعت في المناداة على أحمد والحسين؟ فأجبته مازحا في دواخلي”باش الى تهزينا نتهزوا كاملين، آش بغيتي حنا نموتوا وهما يديوا خبارنا للمغرب يا نعيشوا كاملين يانمشيوا كاملين”، فيما بعد لما عرفوا ما الذي كان يجري حكيت لهم هذه الأمور فأضحت نكتة وطرفة نتداولها مع الصدقاء.. لحسن حظ الجميع أن رجال الأمن تأكدوا بأن المهاتفة كانت فقط من أجل التشويش على هذا الحفل الذي يعد من أجود العروض التي قدمت لجاليتنا في الخارج..